Friday, 27 May 2016

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين يكتب: بهيسة

بهيسة
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 28 مايو 2016).

يمتلئ تاريخنا العربى بالمساخر كما يمتلئ أيضاً بالمفاخر .. ومن المفارقات أن هذه تنبع أحياناً من تلك .. من مساخر الجاهلية تلك الحرب الضروس التى قامت في نجد بين قبيلتى عبسٍ وذبيان وعُرِفت باسم حرب داحس والغبراء واستمرت أربعين سنة (!) .. أما داحس والغبراء فهما فرسا سباقٍ، قام صاحب إحداهما بالتربص بالأخرى وتعطيلها في أحد المنحنيات ففازت فَرَسُه، ولما علم الآخر اقتتلا .. كان المُقتتلان من عبس وذبيان وهما فرعان لبطنٍ واحدةٍ وهى قبيلة غطفان، لكن دائرة القتل الجهنمية اتسعت وانضمت لهما قبائل أخرى واستعرت نيران الحرب العبثية وزَكَّتها آلاف الجماجم وكان من بين ضحاياها على سبيل المثال عنتر بن شداد وعروة بن الورد وغيرهما .. أما كيف انتهت هذه المهزلة الدامية فقد اختص الله تعالى بهذه المكرمة فتاةٌ عربيةٌ صغيرة اسمها بهيسة بنت أوس الطائي وكانت صُغرى أخواتها وأجملهن .. فلما خطبها الحارث بن عوف عقدت العزم على أن يكون مهرها مختلفاً عما جرت عليه عادة مثيلاتها .. فلما ضُرِبت لهما خيمة ٌفى ديار أبيها وأراد الحارثُ بن عوف أن يدخل بها صَدَّته قائلةً (أعند أبى وإخوتى؟ هذا والله ما لا يكون).. فأمر بالرواحل وارتحلوا بعيداً عن ديار أبيها .. فلما أراد أن يبنى بها في مكانٍ ناءٍ بالصحراء، استنكرت منه ذلك قائلةً إنه بذلك يُعاملها كما تُعاملُ السبايا، أما الحرائرُ من أمثالها فلا بُد أن يُحتفَلَ بزواجهن ويُدعى العرب وتُذبح الغنم وتُولَمُ الولائم .. ولأنه ذو مروءةٍ ويعرف الأصول فقد وافقها .. فارتحلا .. ولما وصلا إلى ديار الحارث أحضر الإبل والغنم، ودعا سادات العرب لوليمة العُرس .. ولما انفرد بها استنكرت على شريفٍ مثله أن يتفرغ للنساء بينما العربُ يقتلُ بعضُهُم بعضاً .. فلمَّا سألها النصيحة قالت له (اخرج إلى القوم فأصلح بينهم) .. فخرج الحارث حتى أتى القوم فمشي بينهم بالصلح وتَحَمَّلَ مع شريفٍ آخر هو هرم بن سنان ديات القتلى في ثلاث سنواتٍ .. وقد خَلَّد الشاعر الكبير زهيرُ ابن أبى سلمى هذه المأثرة فى مُعلقته الشهيرة التى تبدأ بالبيت الشهير:
أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ
بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
إلى أن يقول:
تَدارَكتُما عَبساً وَذُبيانَ بَعدَما
تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ
وَقَد قُلتُما إِن نُدرِكِ السِلمَ واسِعاً
بِمالٍ وَمَعروفٍ مِنَ الأَمرِ نَسلَمِ

فيما بعد، كان الحارث بن عوف أحد رؤوس الأحزاب يوم الخندق، وقد أدرك الإسلام وصدق فيه قول الرسول عليه الصلاة والسلام (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) إذ أنه لما أسلم، بعث معه النبى رجلاً من الأنصار إلى قومه ليسلموا، فقتلوا الأنصاري، ولم يستطع الحارث أن يمنع عنه، فجعل الحارثُ يعتذر، وبعث بِدِيَّتِه سبعين بعيراً، فأعطاها رسولُ الله إلى ورثتِه .. وقد استعمله النبىُ على بنى مُرَّة وصار من الصحابة رضوان الله عليهم.
كان نصيب هذه الفتاة العربية الحكيمة على صنيعها التاريخى أن خُلِّدَت هي وزوجُها ذو المروءة بإحدى أشهر معلقات العرب .. وقد جمح الخيالُ بى وتَحَسرتُ على أنها لم تظهر في أيامنا، إذ كان نصيبها المؤكد جائزة نوبل للسلام .. إلا أن العقل عاجلنى مستنكراً: ومن أدراك أنها لم تكن لِتُتَهم من الممسوحةِ عقولُهم مِن ذرية بنى ذبيان بأنها خليةٌ نائمة وطابور خامس لبنى عبس الذين عادوا ليشنوا حرباً من حروب الجيل الرابع أو لعلها نبضةٌ كهرومغناطيسية جاءت عبر آلة الزمن .. إلى آخر هذه الهرتلات المجافية للعقل .. يا مُثَبِت العقل (!)..

No comments:

Post a Comment