Friday, 13 May 2016

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: بل على رأسهم تاجٌ لا ريشة

بل على رأسهم تاجٌ لا ريشة
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام السبت 14 مايو 2016)

أتحدث عن تجربةٍ شخصية .. وعن صحفيين عايشتُهم يستحق كلٌ منهم تاجاً على رأسه لأنه تاجٌ على رأس الوطن .. فى مطلع 2006 كان كاتب هذه السطور عضواً بلجنة تقييم عمر أفندى وكان على وشك الانسحاب من اللجنة حتى لا يشارك فى مهزلةٍ بدت ملامحها فى الطريق .. لم يُثننى عن الانسحاب إلا مقالٌ لأحد عمالقة الصحافة محمود عوض نشرته جريدة الدستور نقلاً عن الحياة اللندنية بعنوان (ماذا نقول لأبنائنا عندما يسألوننا أين كنتم عندما بيعت مصر؟) فأنهيتُ ترددى وعزمتُ على البقاء فى اللجنة حتى إذا اكتملت المهزلة كنتُ شاهداً عليها من أهلها (وهو ما حدث بالفعل فيما بعد) .. عندما اتصلتُ به عقب تقديمى البلاغ بعد ذلك بشهرين، وقلتُ له لقد كنتَ سبباً مباشراً فيما فعلتُ .. سواء بمقالك المباشر أو بكُتُبِك التى شَكَّلَت وجداننا، إذا بهذا العملاق يتهلل فرحاً كالأطفال ويردد وكأنه يُصَبِّرُ نفسه (يعنى ما نكتبه لا يضيع هباءً؟).
عندما تقدم كاتب المقال ببلاغه للنائب العام الأسبق (سامحه الله) وبدا واضحاً أنه يقف بمفرده فى وجه سلطةٍ فاسدةٍ حَرَّكت (أذرُعَها) للإجهاز عليه، تَدَفَأَ بالأغلبية الكاسحة لصحافييى مصر، وكانت طلقة البداية من العظيم جمال الغيطانى .. وعندما حُفِظ البلاغُ بحجة أن الجريمة لم تتم بعد، جاء أول رد فعلٍ من نقابة الصحفيين بدعوتى لاحتفالية مساندة من لجنة الحريات التى كان يرأسها محمد عبد القدوس .. كانت المرة الأولى التى أدخل فيها هذا المبنى المهيب.. وأىُّ عارفٍ بتاريخ الوطنية المصرية لا بد أن يستشعر قدسية المكان .. هذه النقابة مع نقابة المحامين هما أقدم منظمات المجتمع المدنى المصرية المقاتلة لترسيخ الحريات وفضح الفساد .. وهذا السُلَّمُ كان الملاذ الآمن لكل مظاليم مصر ولا يُنقص من قَدره أن يتسرب إليه هتافٌ خاطئٌ مرةُ أو مرتين .. هو مبنىً مهيبٌ مقدسٌ لكل وطنىٍ مثقف قارئٍ للتاريخ .. أما الفاسدون وأنصاف المتعلمين فلا تثريب عليهم .. فالأماكن تكتسب قدسيتها من تاريخها ورمزيتها لا من القوانين .. قد يهون العمر إلا ساعةً و تهون الأرضُ إلا موضعاً .. عودة إلى الاحتفالية .. كان على المنصة رهطٌ من أنبل من أنجبت مصر .. أذكر منهم الراحل الدكتور/ محمد السيد سعيد صاحب الموقف الشجاع فى مواجهة مبارك .. والباحث الوطنى أحمد السيد النجار أشهر من فضحوا سياسات الخصخصة بالوثائق وهى فى مهدها .. ثم لما اتسعت المعركة دخل على الخط (صحفيون) آخرون كعبد الله السناوى وعبد الحليم قنديل (كاد أن يُستشهد) وحمدى رزق ومحمد أمين .. وعرفنا الصحفيين الاستقصائيين أمثال على القماش وعماد الصابر وأسامة داود وكارم يحيى، الذين وقف كلٌ منهم على ثغرٍ من ثغور المال العام يكشف فساده ويُنَقِّبُ عن فاسديه .. ومنهم من أسهم بقلمه الساخر (أسامة غريب وبلال فضل) أو ريشته الساخرة (عمرو سليم).
كشأن أى مهنةٍ كان هناك عددٌ قليل جداً ممن أُطلق عليهم بارونات الصحافة سمحت لهم السلطة باغتراف الملايين من خزائن الصحف القومية الخاسرة أومَوَّلَت برامجهم الفضائية الزاعقة فباعوا أقلامهم وضمائرهم وزملاءهم .. أحدهم حَرَمَ مصر من محمودعوض الذى بدأتُ به مقالى .. وكشأن أى مهنةٍ هناك قلةٌ منحرفةٌ تسترزق بالابتزاز والتدليس .. .لكن هؤلاء يظلون الاستثناء الذى يؤكد القاعدة .. الأغلبية الكاسحة ممن ينتسبون لهذه المهنة (لا سيما الشباب) هم رأس حربة هذا البلد فى حربه التى لا تنتهى ضد الفساد والفاسدين .. يقاتلون عَنَّا بصدورٍ عاريةٍ وجيوبٍ خاويةٍ (ومنهم من يفقد عمره) ويتهلل الواحد منهم فرحاً وترتفع هامته إلى عنان السماء وكأنه حصل على جائزةٍ مليونية إذا قرأ اسمه مكتوباً على تحقيقٍ كاشفٍ لفسادٍ أو مُظهِرٍ لحقيقة .. ويفرح كطفلٍ بشهادة شكرٍ ورقيةٍ من رئيس تحريره أو نقابته .. وقُرَّةُ عينه أن يرى الفاسد وقد نال عقابه (وهو ما لا يحدث إلا نادراً).
فى عز اشتداد هجوم صًحف نظام مبارك على كاتب هذه السطور، فوجئتُ باتصالٍ من إحدى قرى الدلتا من صحفىٌ شاب يعمل تحت التمرين فى مجلةٍ أسبوعيةٍ كانت الأشد ارتماءً فى حضن السلطة، يطلب إجراء حوارٍ صريحٍ معى .. فلما صارحته بتشككى فى أن تنشر مجلته مثل هذا الحوار على صفحاتها .. أجابنى بأنهم لو علموا بلقائه معى لفصلوه ولكنه سينشره باسمٍ مستعارٍ فى صحيفةٍ مغمورةٍ صاعدة .. كان إجمالى ما يتقاضاه من مجلته والصحيفة المغمورة يقل عن تكلفة انتقاله اليومى من قريته للقاهرة فسألتُه عن جدوى ما يفعله، فأجاب بجملته التى لا يزال صداها فى أُذُنى رغم أننى نسيتُ اسمه (لكى أظل صحفياً) .. تمتلئ الساحة الصحفية بأمثال هذا الشاب الذين يقتاتون المعاناة لكى يظلوا صحفيين.
أعجب لتلك الأصوات النشاز التى طالبت بذبح الصحفيين .. هى مقولةٌ لا تصدر إلا من فاسدٍ يكره فاضحى فساده .. إذ أىٌ من الأسماء التى ذكرتها فى مقالى يستحق الذبح؟ .. فيا أيتها الكتيبة المقاتلة من حملة الأقلام .. والله إننى لأغبطكم على انتمائكم لهذه المهنة الشريفة .. ولولا تَشَرُّفِى بالانتماء لجيش مصر العظيم لوددتُ أن أكون صحفياً .. نشكركم ونتشرف بكم ونُقَبِّلُ رؤوسَكُم قبل أن نضع التيجان عليها .. ونعتذر لكم عمَّا قاله بعض السفهاء مِنَّا .. ومنكم.

No comments:

Post a Comment