Tuesday, 10 May 2016

{الفكر القومي العربي} مبادرة فرنسية لم تولد

مبادرة فرنسية لم تولد

عبد الستار قاسم

نشر على الجزيرة نت

تنشغل وسائل الإعلام المختلفة بما يعرف بالمبادرة الفرنسية الخاصة بحل الصراع العربي الصهيوني المتقلص إلى صراع فلسطيني صهيوني، وتتعدد الآراء حول احتمال نجاحها، وتتأرجح المبادرة نفسها بين رافض لها ومتردد في قبولها.

يبدو أن فرنسا لا ترى فرصا أمام الجهود الأمريكية لحل الصراع الدائر حول فلسطين، وسئمت من الجمود الذي يحيط بمجريات التحادث حول مستقبل هذا الصراع، فقررت أن تأخذ على عاتقها مبادرة عساها تجد قبولا لدى مختلف الأطراف المعنية. لكن المبادرة سرعان ما اصطدمت بجدار إسرائيلي متعنت كالعادة وتم رفضها إسرائيليا. أما الجانب الفلسطيني فترنح في البحث عن رد على المبادرة، لكنه لا يملك في النهاية سوى الموافقة على خوض غمارها على أمل أن تتمخض عن حل يرضي بعض الفلسطينيين.

جوهر المبادرة الفرنسية

لم ينشر الفرنسيون مبادرتهم، وأبقوها ضمن الأروقة الديبلوماسية لتتناقلها الأوساط الرسمية وتتجادل حولها، وما علمناه من المبادرة يأتي من وسائل الإعلام التي استندت إلى تسريبات من هنا وهناك حول فحوى المبادرة. جوهر المبادرة يتعلق بإعادة الصراع الدائر إلى المحافل الدولية والذي يعني وفق المبادرة مؤتمرا دوليا تحضره دول معنية في إيجاد حل بأسرع وقت ممكن للصراع. وتتحدث المبادرة حول قضايا جوهرية أخرى مثل القدس واللاجئين وأمن الصهاينة والاستيطان. بخصوص القدس تقول المبادرة باعتبار القدس عاصمة لدولتين إحداهما وهي الفلسطينية منزوعة السلاح، تحتفظ إسرائيل بالسيادة على الأحياء اليهودية، وتكون الأحياء العربية ضمن الدولة الفلسطينية التي لا يبدو أن لها سيادة. أما الأماكن المقدسة الإسلامية فتكون ضمن السيادة الفلسطينية. بخصوص اللاجئين، لا تنص المبادرة على عودة اللاجئين الفلسطينيين وإنما تترك المسألة للتفاوض بين الأطراف لتقرير مصير اللاجئين الفلسطينيين مع عدم اعتبار قرارات الأمم المتحدة مرجعية في حل هذه المسألة. تركز المبادرة على الأمن الإسرائيلي ولا تأتي على ذكر الأمن الفلسطيني. وهي تقبل حل الدولتين وتدعو للضغط من أجل إنفاذه. وتعطي المبادرة للمتفاوضين عامين للتوصل إلى حل نهائي وإغلاق ملف الصراع.

احتكار البحث عن حل للصراع

لم يكن من المتوقع أن تحظى المبادرة الفرنسية بقبول من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل حتى لو تظاهرت الولايات المتحدة بالليونة والاستعداد للبحث في المقترحات الفرنسية وذلك بسبب اتفاق تاريخي بين إسرائيل والولايات المتحدة على إخراج القضية الفلسطينية من المحافل الدولية وعدم السماح بإنفاذ أي حل إلا بعد موافقة الدولتين. اعتبرت إسرائيل وأمريكا بعد حرب تشرين/1973 نفسيهما بوابة حل الصراع وتعهدتا بعدم السماح لأي جهة أخرى حتى لو كانت الأمم المتحدة بالبحث عن حل. ومنذ ذلك الحين تحتكر أمريكا وإسرائيل مختلف النشاطات الخاصة بالبحث عن حل، وإن سمحتا لدول أخرى لعب دور فذلك لن يكون سوى دور هامشي. منعت أمريكا الاتحاد الأوروبي من لعب دور رئيسي في البحث عن حل، وأبقته على هامش الملعب، على الرغم من أنه يلعب دورا أساسيا في دفع فواتير التدمير الإسرائيلي للمناطق العربية. ومنعت أمريكا روسيا من التدخل المباشر في القضية الفلسطينية، والتي كانت قد تعبت من بلادة العرب والفلسطينيين في دعم أنفسهم في مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمر.

فرنسا خرقت الاتفاق الأمريكي الإسرائيلي بشأن احتكار الحل بصورة مزدوجة: من ناحية، هي تريد أن تتدخل جوهريا في البحث عن حل وليس هامشيا، ومن ناحية أخرى، تريد إعادة الصراع إلى المحافل الدولية.  من كلا الناحيتين، كان من المتوقع أن ترفض إسرائيل المبادرة حتى لو ألحقت ظلما بالفلسطينيين، ومن المتوقع ألا تدعم أمريكا المبادرة بالقوة الكافية لإنجاحها. ولم يكن من المتوقع أيضا أن ترفض إسرائيل المبادرة قبل التشاور مع الأمريكيين.

خطأ فلسطيني استراتيجي

ارتكب الفلسطينيون خطا (أو بالأصح)  خطيئة) استراتيجية عظيمة عندما قرروا البحث عن حل لقضيتهم خارج المحافل الدولية ومن خلال الأمريكيين. لم يقرأ الفلسطينيون الولايات المتحدة جيدا، أو أن مستشاريهم تعمدوا عدم القراءة الجيدة، فوقعوا في وهم احتمال قيام أمريكا بالضغط على الصهاينة لتليين المواقف والاستجابة لبعض المطالب الفلسطينية. وعلى مدى سني المحادثات الفلسطينية الصهيونية، أمريكا مارست الضغوط على الفلسطينيين دون الإسرائيليين، وتركز همها على الأمن الإسرائيلي مع إغفال تام للأمن الفلسطيني.

لم تكن الأمم المتحدة نزيهة، وكانت حجر الأساس في تقسيم الوطن الفلسطيني وضياعه وتشريد الشعب، لكن لولا الضغوط الأمريكية التي مورست على دول العالم عام 1947 لما اتخذت الأمم المتحدة قرارها بتغييب الشعب والوطن الفلسطينيين. على الأقل هناك في الأمم المتحدة من يرغب في قول الحق لصالح الفلسطينيين، أما في الولايات المتحدة فالحق غائب، وكل القوى الأمريكية موجهة نحو خدمة الصهاينة والكيان الصهيوني. ولهذا لم يكن من الحكمة أن يتجاوز الفلسطينيون الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية لصالح الهيمنة الأمريكية. لم يجلب علينا الأمريكيون سوى الدمار والخراب، وما زالوا يمعنون في ظلمهم وجبروتهم ضد شعب فلسطين.

فرنسا أقل من أن تحمي مبادرتها

سبق للرئيس الفرنسي جاك شيراك أن زار قطاع غزة وأعلن أنه مع قيالم دولة فلسطينية. لكن ماذا عملت فرنسا بعد ذلك لتحقيق هذا الهدف؟ حتى الآن لا شيء. صحيح أن الرئيس الفرنسي قسا على نتنياهو عندما زار الإليزيه وعلى باراك لكن هذه القسوة لم تترجم إلى إجراءات عملية ضد إسرائيل. بقيت فرنسا تتحدث إعلاميا عن العدالة في المنطقة العربية الإسلامية، لكنها لم تصنع شيئا لتصحيح جرائمها التاريخية ضد الفلسطينيين والعرب، وفلم تصنع شيئا لإرغام إسرائيل على تليين مواقفها بخصوص الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

زعماء فرنسا ما زالوا يخشون الصهاينة، ومن شدة خشيتهم سنوا قوانين تطال مواطنيهم الذين يمكن أن ينتقدوا الصهيونية وإسرائيل، وما زال الرئيس الفرنسي حبيس التطلعات الصهيونية العالمية، ولا يجرؤ على تحدي إسرائيل والولايات المتحدة. وقد رأينا كيف انساقت فرنسا بسهولة للأهواء الإسرائيلية والأمريكية في عدد من الأقطار العربية، وساهمت في تدمير بلدان عربية وسفك دماء العرب. وإذا كانت فرنسا لا تملك الجرأة والشجاعة للدفاع عن مواقفها فإنها يمكن أن تتنازل بسهولة عن رؤيتها للحل في المنطقة العربية الإسلامية. فرنسا ضعيفة أمام إسرائيل وأمريكا، وهي دولة ضعيفة نسبيا على المستوى العالمي من الناحيتين العسكرية والاقتصادية، ولا تستطيع مجاراة دول عظيمة مثل روسيا والصين. قدرات فرنسا تراجعت نسبة لقدرات دول أخرى، ولم تعد صاحبة قرار على المستوى الدولي على الرغم من وجود تأثير محدود لها. ولهذا لا تستطيع أن تروج لمبادرتها جيدا أو أن تدفع بها إلى صدارة الحراك الدييبلوماسي العالمي. وستضطر للتنازل عنها، أو إغلاق ملفها وتصديرها إلى السبات.

سجل فرنسا حيال القضية الفلسطينية مشؤوم وبائس، فهي تآمرت مع بريطانيا على تقسيم أرض الشام، وأفرزت الدولتان فلسطين الانتدابية لتخصيصها للصهاينة اليهود. وفرنسا هي التي دعمت قيام دولة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، وهي التي زودت إسرائيل بمختلف أنواع الأسلحة، وخاضت إسرائيل حرب 1967 في الغالب بأسلحة فرنسية. وهي التي زودت إسرائيل بالمفاعل النووي الذي انتج القنابل الذرية بعد ذلك. فرنسا صاحبة آثام كبيرة، وعليها أن تكفر عما صنعته بالشعب الفلسطيني قبل أن تطرح مبادرات.

موقف السلطة الفلسطينية

من الناحية القانونية، لا يحق لأحد على الساحة الفلسطينية أن يتخذ موقفا من المبادرة نيابة عن الشعب لأن الشرعية مفقودة على كل المستويات السياسية الفلسطينية. لكن من الملاحظ أن منظمة التحرير مشغولة منذ عام 1969 بطرح مبادرات لحل القضية الفلسطينية، ولم توفق في أي مبادرة. الأصل أن تكون منظمة التحرير منشغلة في ابتداع أساليب ووسائل لتحرير فلسطيني لا في طرح مبادرات لا تجد من يشتريها من أصحاب القرار، وهي تتلقف كل مبادرة تصدر من جهات عربية ودولية. منظمة التحرير ومعها السلطة الفلسطينية الآن أشبه ما يكون بغريق يبحث عن قشة يتعلق بها. ترددت السلطة الفلسطينية غير الشرعية في قبول المبادرة، لكن ترددها لم يكن صلفا لكي لا تقطع حبلا مع فرنسا، ثم أخذت السلطة تجنح نحو قبول المبادرة. لا تستطيع السلطة الفلسطينية رفض المبادرة على الرغم من المآخذ الكبيرة على ما تطرحه من حلول لمختلف القضايا بسبب موقفها الضعيف واعتمادها الكلي على الإحسان العالمي لصياغة حل. ومع رفض إسرائيل للمبادرة ستصبح السلطة أكثر ميلا لقبول المبادرة من باب تسجيل نقاط ضد إسرائيل. وسينعكس موقف السلطة على مواقف دول عربية عدة، وسيتبلور موقف عربي لصالح المبادرة. لكن ماذا سيكون مصير المبادرة أمام الرفض الإسرائيلي، وأمام غياب إجراءات دولية ضد إسرائيل؟ مصيرها إلى الرف.

 

No comments:

Post a Comment