Sunday, 20 May 2018

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: كُن كبيراً فى خصومتك

كُن كبيراً فى خصومتك

بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى


هناك من الماكياج ما يُظهر القبحَ أكثر مما يُداريه .. فبدلاً من أن تُجَّمِلَ قائمةُ العفو الرئاسى الأخيرة واقعاً لا يُجدى معه الزيف .. طرحت من جديدٍ أسئلةً لا تموت عن الدائرة الجهنمية التى بدأت بالاتهام وانتهت بالعفو .. وما علاقة كل ذلك بتعريف العدالة .. أتَعَّجبُ ممن انزعجوا لعفو الرئيس عن بلطجى أو قاتل بأكثر من انزعاجهم لاشتمال القائمة على طالب التجارة أندرو ناصف صليب المحكوم عليه بخمس سنواتٍ بتهمة «الإعداد والترويج لارتكاب جرائم إرهابية».ضمن حملةٍ أمنيةٍ طالت العشرات من شباب الأحزاب والتيارات المدنية أثناء التحضير لما سُمِّىَ الانتخابات الرئاسية ولم يشملهم العفو .. لكن وجود أندرو بالذات فى الحبس كان دليلاً فاضحاً على عبثية الاتهامات .. فلما أراد أحدهم إزالة الفضيحة بالعفو لَفَت الأنظار أكثر .. يا تُرى كم أندرو فى السجون؟ .. إن مصر لا يضيرها تحرير مائة بلطجىٍ ففى الشوارع أضعافهم (وقد يتوبون) .. لكن العار يدمغنا واللعنة تصيبنا جميعاً إذا غُيِّب فى السجن برئٌ واحدٌ لساعةٍ واحدة .. وللأسف فإن غيابات السجون تعتصر الكثيرين من الأفاضل والشرفاء وتسحب من أعمارهم عاماً وراء عام.. ونعتاد على تغييبهم إلى أن يصيروا نسياً منسياً .. والأمر لا يقتصر على من هم داخل السجون .. وإنما يمتد خارجها إلى بيوتٍ مُغلقةٍ على عذاباتٍ مستترةٍ تعانيها عشرات الآلاف من أُسَر المعتقلين فى غيبة العائل والتحفظ على أمواله.

من السذاجة أن تتوقع أخلاق الفرسان أثناء الصراع على السلطة .. ولكن المنتصر يتحلى عادةً بحدٍ أدنى من النُبْل (ولو تمثيلاً) .. إذ لم يعد يوجد ما يبرر تجاوزه .. لكن الحاصل يتجاوز كل القِيَم المتوارثة ويبدو وكأنه حالةٌ من التشفى والإذلال الممنهج.

قال لى الصديق د. عبد المنعم أبو الفتوح قبل اعتقاله بأيامٍ (سمعت من شيوخ الجماعة الذين اعتُقِلوا فى عهد عبد الناصر رَحِمَه اللهُ ورَحِمهم أنهم لم يتعرضوا للتعذيب إلا فى فترة التحقيق التى لم تزد عن شهرين .. بعدها كان المحكوم عليهم يعيشون فى السجن حياةً عاديةً ليس فيها من السجن إلا القضبان .. يتريضون ويلتقون ببعضهم البعض ويقرأون بل ويؤلفون الكُتب .. أما الآن فالكل يعانى من الحبس الانفرادى الصارم فى انقطاعٍ كاملٍ عن الدنيا وهو وضعٌ يصيب العاقل بالجنون فما بالنا وهو مستمرٌ على مدى خمس سنوات) .. ما بين القوسين السابقين هو ما قاله أبو الفتوح بما فيه الترحم على عبد الناصر .. ما لم يقله هو أن من أُفرج عنهم فى الخمسينيات والستينات كانوا ينخرطون فى الحياة كمواطنين .. يتوظفون ويتعلمون .. بل ويُبتعثون فى دراساتٍ عليا للخارج .. لم يكن أبو الفتوح (67 سنة) يدرى أنه سيذوق من نفس الكأس وينضم إلى أولئك المنسيين .. يدخل عليه شهر رمضان وهو رهن الحبس الاحتياطى الانفرادى منذ أكثر من ثلاثة شهور .. تَعَّرَض خلالها لذبحةٍ صدريةٍ 4 مراتٍ متتالية ولم يُسمح بنقله للمستشفى.

لكن دائرة البطش واللدد فى الخصومة اتسعت بعيداً عن الصراع على السلطة مع الإخوان لتشمل كل صوتٍ مختلف .. إذ أىُّ سلطةٍ تلك التى كان يتصارع عليها شبابٌ مثل مالك عدلى ومحمود السقا وعمرو بدر وإسلام مرعى وشادى الغزالى وهيثم محمدين وغيرهم .. هتفوا بمصرية تيران وصنافير أو اعترضوا على بعض السياسات فلاقوا نفس التنكيل .. وأىُّ سلطةٍ كان يتصارع عليها الصيدلى اليسارى جمال عبد الفتاح (72 عاماً) الذى دعا إلى مقاطعة مهزلة الانتخابات فتم اعتقاله منذ أكثر من شهرين ومُنِع من اصطحاب أدويته .. تقول زوجته إنه مصابٌ منذ عدة أسابيع بنزلةٍ شعبيةٍ حادة والتهابٍ رئوىٍ وارتفاع فى درجة الحرارة .. صحيحٌ أنه لم يُحبس انفرادياً كالآخرين .. ولكنه وُضِع فى عنبرٍ به 86 جنائياً كلهم يدخنون(!).

أما حالة السيدة سناء عبد الجواد فهى تراجيديا كاملة بعيداً عن اهتمام المجلس القومى للمرأة .. الزوج محمد البلتاجى محبوسٌ حبساً انفرادياً منذ 5 سنوات ويصعب حصر الأحكام التى صدرت بحقه .. وكانت الزوجة تنتهز حضورها إحدى جلسات محاكماته لتختلس نظرةً من بعيد كل عدة شهور .. لم يعد ذلك ممكناً الآن .. أما الأبناء الخمسة فلم يبقَ معها إلا الصغير حسام الدين (12 سنة) الذى اعتُقِل وأُفرِج عنه إلى أن يبلغ السن .. أسماء قُتِلَت .. عمار وخالد مُطاردان فى المنافى ..أما أنس فهو مصابها الطازج .. محبوسٌ منذ أربع سنواتٍ وعندما بَرَّأَته محكمة النقض قبل شهرين، تم اقتياده إلى مكان مجهول ليتحول من محبوسٍ إلى مُختفٍ .. ولا زال مختفياً.

فى كل الأمثلة السابقة (وهى مجرد أمثلة) لم نتطرق إلى الاتهامات والأحكام لكى نبتعد عن الجدل .. ولكننا نتحدث عن حقوقٍ إنسانية .. يُسألُ عنها الرئيسُ قبل مرؤوسيه .. ولو حُرِم منها السيسى ذات يومٍ لقاتلنا من أجل أن يحصل عليها.

تعلمنا صغاراً من أهلنا فى الصعيد أن الكبار كِبارٌ حتى فى خصومتهم.

(المشهد- 21 مايو 2018).



No comments:

Post a Comment