مصارحة لا مصالحة
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
يعلو من آنٍ لآخر حديث المصالحة .. فيثور جدلٌ لا يخلو من تشنجٍ أو عقمٍ .. بعض المتحدثين والمُبادرين من حَسَنِى النيَّةٍ بالتأكيد .. لكن البعض الآخر ليسوا فوق مستوى الشبهات .. وممن عُرِفوا بتأجيج النيران لا إطفائها .. وإشغال الناس بالفرقعات الإعلامية لا بالحلول الجادة .. وهو ما يُفقد الفكرة مصداقيتها .. فضلاً عن أن ما استقر فى الوعى العام (صدقاً أو ادِّعاءً) أن المقصود هو المصالحة السياسية بين النظام وجماعة الإخوان .. أى نفس ما عانت منه مصر من صفقاتٍ على مدى عدة عقودٍ .. لن تؤدى فى ظل اختلال معادلة القوى إلا إلى زيادة استقواء النظام المستبد وتلويحه بالفزاعة من ناحية .. والإفراج المشروط عن بعض قيادات الجماعة التى أنهكها النفى أو الحبس الانفرادى من ناحيةٍ أخرى .. أما مصر فلن ينالها خيرٌ وإنما ارتدادٌ لهذه الثنائية البغيضة. (نحن بالقطع نطلب الحرية لكل مسجونٍ عدلاً لا صفقة).
مصر تحتاج إلى مصارحةٍ لا مصالحة .. والمصارحةُ لا تعنى الانتقام وإنما هى عمليةٌ شاملةٌ سبقتنا إليها شعوبٌ كثيرة فى حالاتٍ أسوأ من حالتنا .. تمزج بين التحقيق النزيه والشفافية والاعتراف والاعتذار الشجاع والمحاسبة والعقاب والعفو والتسامح معاً.. لكنها لا تبدأ إلا بطرح الأسئلة .. كل الأسئلة .. أسئلة الدم والتمويل والتخابر .. أى الأسئلة الجنائية لا السياسية .. .. وهذا لا يمنع أسئلة السياسة بالطبع.
أما أسئلة الدم فتشمل كل المجازر والضحايا: بدءاً من أحداث الثورة فى ميدان التحرير وكل ميادين مصر .. وأحداث مجلس الوزراء .. ومحمد محمود .. وماسبيرو .. والعباسية .. وبورسعيد .. والحرس الجمهورى .. والمنصة .. ورابعة والنهضة .. وإحراق الكنائس .. وكل العمليات الإرهابية .. وغيرها من المجازر الجماعية .. بالإضافة إلى الجرائم الفردية كاغتيال عماد عفت ومحمد الجندى والحسينى أبو ضيف وشيماء الصباغ وضحايا ميكروباس ريجينى .. وكل روحٍ أُزهِقت بتعذيب .. وغيرهم .. وهى دماءٌ مصريةٌ ليست خاصةً بفريقٍ دون فريق .. فلا الإخوان هم أولياء دماء رابعة (معظم الضحايا لم يكونوا من أعضاء الجماعة) وإنما هى حقٌ لكل مصرىٍ حتى لو كان مسيحياً .. ولا دماء ماسبيرو حقٌ حصرىٌ للكنيسة .. وإنما هى دماءٌ مصريةٌ يقتص لها أحمد قبل جورج .. وهكذا.
يا سادة .. ستظل دماء الضحايا تغلى فى الصدور وإن أُخرِسَت الألسنة .. وتستولد كل يومٍ غِضاباً وحانقين جُدُداً .. إلى أن تنجلى الحقائق .. وبعد ذلك فقط إما صفحٌ أو قصاص.
أما أسئلة المال فلا بد أن تُطرح حول التمويل الخارجى السرى وغير القانونى ولأهدافٍ خارجيةٍ .. وهو ما يدمغه بالتخابر المُجَّرَم قانوناً ووطنياً .. وهنا يجب أن تكون الإجابةُ محددةً بالاسم ولا يجوز التعميم والاتهامات المُرسَلَة إعلامياً .. مثلاً: ما الحقيقة (لا الخيال) فيما قيل عن أن ثلاثة أو أربعة أفراد تلقوا تمويلاتٍ لتحريك الملايين للثورة ضد نظام الرئيس الشريف العفيف النظيف اللطيف حسنى مبارك؟ من هم بالاسم؟ .. وما الحقيقة (لا الخيال) فيما قيل عن حقائب مملوءة بالدولارات الخليجية تم تسليمها لقيادات الجماعة قبل انتخابات 2012 ثم أثناء حكم الرئيس مرسى؟ أيضاً من هم بالاسم؟ .. وما حقيقة ما قيل عن أموالٍ مشابهةٍ وصلت إلى جمعياتٍ سلفيةٍ على امتداد عقدٍ من الزمن؟ .. وما حقيقة ما قيل عن تمويلاتٍ خليجيةٍ لبعض قيادات تمرد (ومَن حَرَّكوهم)؟ ومن هم بالاسم؟ .. هذه (إن صَحَّت) هى التمويلاتُ المجرَّمَة .. والتخابرُ الملعون .. وليس التبرع العلنى المُراجَع حسابياً لبناء مستشفى أو مدرسة أو تنفيذ دورة تدريبية.
المطلوبُ مصارحةٌ لا مصالحة .. لكن لهذه المصارحة شروطاً لا تتم بغيرها .. أبسطها أن تُشرف عليها وتديرها لجنةٌ من الخبراء الوطنيين الثُقات العُدول ممن لم يخدش تاريخَهم ولا نزاهتَهم ولا كفاءتَهم شائبةٌ .. تساندهم أجهزةٌ ومؤسساتٌ محايدة حياداً حقيقياً .. فى دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطية .. وإلى أن تُشرق شمس هذا الغد .. سيبقى أى حديثٍ عن المصالحة لغواً وإشغالاً لا خير فيه.
(المشهد- 1 مايو 2018).
No comments:
Post a Comment