فيما يلي مقال نشرته علي صفحة كاملة في الأهرام عام 2012 .. واختفي بعد أن مسح الأهرام ملف كل مقالاتي من ارشيفه ..( لحسن الحظ وجدت نسخة محفوظة من الصحيفة عندي ) .
------------------'
حقوق مصر في نهر النيل
بقلم السفير / معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية السابق
في ليلة صيفية بديعة بدار سكن السفير المصري في كمبالا / أوغندا ، وبعد يوم طويل ثقيل ومرهق من المفاوضات مع وفود دول حوض النيل ، سألت المرحوم الدكتور صلاح عامر ( أستاذ القانون الدولي الشهير ) : " هل تعتقد أن هناك أمل ؟ .. لقد استنفذنا كل الحيل القانونية للتوصل إلي حلول وسط " ..
نظر في عيني طويلاً ثم ابتسم إبتسامته الخاطفة المميزة ، وقال هامساً : " يا سيادة السفير .. الموضوع سياسي بالدرجة الأولي ، أما الجانب القانوني والفني فيأتيان في المراحل التالية " ..
بعد انتهاء تلك الجولة من المفاوضات ، توجهت لمقابلة رئيس البرلمان الأوغندي لمناقشة الطلب الذي تقدم به أحد النواب ويتضمن إلزام مصر بدفع مبلغ يقارب 2 مليار دولار سنوياً مقابل مياه النيل التي تصلها من بحيرة فيكتوريا ..
وقد حضر المقابلة رئيس لجنة العلاقات الخارجية ، ورئيس لجنة الموارد الطبيعية ونائبته .. وبعد حديث طويل لم يأت الوقت للكشف عن تفاصيله ، خرج رئيس البرلمان ليصرح للصحفيين أن أوغندا لا يمكن أن تقدم علي ما يضر بحقوق مصر في مياه النيل ، ونشرت الصحف الأوغندية ذلك في اليوم التالي.
ولقد شاركت في هذه المفاوضات لمدة تناهز 6 أعوام ضمن فريق متكامل من وزارة الخارجية ووزارة الموارد المائية وفنيين من جهات أخري ، وقد كان الهدف الذي تسعي إليه مصر هو التوصل إلي إتفاق يربح فيه الجميع ( Win/Win situation ) ، وبذل الفريق التفاوضي كل جهده بحسن نية لتفهم إحتياجات كل الأطراف ، وقدم تنازلات هامة في كل مراحل التفاوض ، ومن المؤسف أن بعض دول الحوض في المراحل الأخيرة تعمدوا كسر قاعدة التوافق التي حكمت كل سنوات التفاوض ، وحاولوا لي ذراع دولتي المصب ( مصر والسودان ) وإجبارهما علي التنازل عن حقوقهما التاريخية .
وما سيلي هو استعراض عام للوضع القانوني والسياسي لحوض نهر النيل ، وسوف أتفادي بالطبع ما يعد بطبيعته من أسرار الموقف المصري ، رغم أن هذا الموقف بشكل إجمالي كان يتميز بالشفافية والرغبة الصادقة في التوصل إلي تفاهم يضمن المصالح المشتركة لكل الدول المشاطئة لنهر النيل .
أن العبارة التي ذكرها لي المرحوم الدكتور صلاح عامر ، تلخص الأزمة إلي حد كبير ، حيث أنه كما سنوضح لاحقاً ، توجد قواعد قانونية وعرفية دولية حاكمة تتساند كلها في حماية الحقوق المصرية في مياه حوض النيل ، وتبقي المعالجة السياسية رهن العديد من التعقيدات في كل دولة من دول الحوض علي حده .
في عام 1966 بادرت جمعية القانون الدولي بإقرار ما أطلق عليه " قواعد هلسنكي " لتنظيم المجاري المائية الدولية لغير أغراض الملاحة ، وهى القواعد التى إعتبرت بمثابة كشف لقواعد القانون الدولى العرفية لأستخدام مياه الأنهار الدولية، ما لم يكن هناك اتفاق بين دول حوض النهر الدولى على هذا الإستخدام ، وكان أبرز هذه القواعد ما نصت عليه من الاستخدامات العادلة لمياه النهر الدولى( المادة الثانية ) ، وحق كل دولة من دول الحوض في الإنتفاع بمياه النهر المشترك بشكل معقول وعادل ( المادة الرابعة )، كما وضعت بعض المعايير المعقولة والعادلة فى استخدام مياه النهر الدولي ومنها جغرافية حوض النهر، بما في ذلك امتداد مجرى النهر أو فروعه فى إقليم كل دولة من دول الحوض، والنظام الهيدرولوجى للحوض، وخاصة الإسهام المائى لكل دولة من دول الحوض ، و المناخ السائد فى حوض النهر، وكذلك الاستخدامات السابقة للمياه فى حوض النهر ومنها بصفة خاصة الاستخدامات القائمة في الوقت الحاضر ، والحاجات الاقتصادية والاجتماعية لكل دولة من دول الحوض ومدى اعتماد سكان كل دولة من دول حوض النهر على مياهه ، والتكلفة المقارنة بالوسائل البديلة لتغطية الاحتياجات الاقتصادية، و مدى توافر المصادر المائية الأخرى ، وتجنب الفاقد بغير مبرر فى استخدامات مياه الحوض ، ومدى إمكانية تعويض دولة أو أكثر من دول الحوض كوسيلة لتسوية الخلافات بشأن الإستخدام ،والمدى الذى يمكن معه تلبية حاجات الدولة بغير أن ينجم عن هذا أضرار هامة لدولة أخرى من دول الحوض.
ثم قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1970 إحالة الموضوع إلى لجنة القانون الدولى التابعة لها كي تقوم بدراسة القانون المتعلق باستخدام المجارى المائية الدولية فى غير أغراض الملاحة النهرية وذلك بموجب قرارها رقم 669 (25) الصادر بتاريخ 8 ديسمبر1970. وقد قامت لجنة القانون الدولى بإدراج هذا الموضوع على جدول أعمالها اعتبارا من دورتها الثالثة والعشرين فى عام 1971، وبعد أكثر من خمسة وعشرين عاما فرغت لجنة القانون الدولى من إعداد مشروع تضمن33 مادة ، قدمته للجمعية العامة للأمم المتحدة فى عام 1997، التي أقرت اتفاقية قانون استخدام المجارى المائية الدولية فى الأغراض غير الملاحية فى مايو 1997، وفتح باب التوقيع عليها ، وقد تحفظت مصر ولم توقع عليها .
وقد لوحظ أن عدداً كبيراً من دول المنابع قد وقف ضد هذه الإتفاقية بشدة ، وهو نفس موقف بعض دول المصب ( ومنها مصر ) وإن كانت معارضتها أكثر إعتدالاً .. وأياً ما كان الأمر ، فقد أصبحت هذه الإتفاقية منذ دخولها حيز النفاذ بمثابة القانون العام للإستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية .
.
وقد اتضح أثناء التفاوض علي هذه الإتفاقية مدي الخلافات فى المصالح بين دول المنابع ودول المصب، حيث بدأ هذا الخلاف فى بعض المسائل الأولية، مثل تعريف المجرى المائى الدولى. فقد تبنت دول المصب التوجه للتوسع فى مفهوم النهر الدولى، بحيث يشمل شبكة المياه وضمنها المياه الجوفية المتصلة بالمجرى الرئيسى، وذلك لتأمين أكبر حصة من إستخدامات المياه ، بينما تبنت دول المنبع الإتجاه الرامي إلى عدم أهمية تعريف المجرى المائى الدولى تعريفا قاطعا، بحيث يبقي تعريف النهر مسألة تبحث بشأن كل نهر على حدة، و محلا للتفاض بين دول النهر.
أثيرت أيضاً مسألة استخدام بعض الدول للنهر الدولى بشكل يمكن أن يلحق الضرر بالدول النهرية الأخرى، حيث تبنت دول المنبع حرية استخدام النهر الدولى داخل النطاق الإقليمى لكل دولة على نحو لا يحرم دول النهر الأخرى من نصيبها العادل وبغض النظر عن الأضرار الناجمة عن هذا الإستخدام ، إلا أن دول المصب ومعها أغلبية كبيرة تبنت الإتجاه الذي يري أنه ينبغي حظر أستخدام النهر الدولي بشكل يؤدي إلي ضرر ملموس للدول الأخري.
وبشكل عام يمكن القول بأن هناك قواعداً أساسية يمكن إستخلاصها من مجمل الجهد الفقهي الدولي وما أرساه العرف الدولي ، فضلاً عن الإتفاقيات الدولية وأبرزها إتفاقية الأمم المتحدة السابق الإشارة إليها ، وأهم هذه القواعد ما يلي :
أولاً : أهمية إحترام الإتفاقيات القائمة التي تنظم الإنتفاع بمياه النهر الدولي .
ثانياً : مراعاة مبدأ التوزيع العادل لمياه النهر الدولي وفقاً لمعايير مختلفة أهمها عدد السكان والإستخدامات القائمة والمساحة الجغرافية .. إلخ .
ثالثاً : يتوازن مع المبدأ السابق ، ويتعادل معه موضوعياً مبدأ آخر لا يقل أهمية وهو مبدأ عدم التسبب في إحداث ضرر لأي دولة مشاطئة للنهر ، بسبب إستخدامات لدولة مشاطئة أخري .
رابعاً : يتفرع عن المبدأ السابق قاعدة جوهرية تقضي بضرورة الإخطار المسبق قبل البدء في أي عمل أو سلوك علي مجري النهر ، وكذلك التعويض عن أي آثار سلبية تترتب علي ذلك .
فيما يتعلق بالإتفاقات السابقة أو القائمة ، فأن إتفاقية الأمم المتحدة للإستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية التي اعتمدت في 21 مايو ١٩٩٧ قد نصت في الفقرة الأولي من المادة الثالثة علي أنه : " لا يؤثر ما نصت عليه هذه الإتفاقية في حقوق دول المجري المائي أو إلتزاماتها الناشئة عن إتفاقات يكون معمولاً بها بالنسبة لهذه الدول في اليوم الذي تصبح فيه طرفاً في هذه الإتفاقية ، مالم يكن هناك إتفاق علي نقيض ذلك .
وتنص الفقرة الثانية من نفس المادة علي أنه : " رغم ما نصت عليه أحكام الفقرة الأولي ، يجوز للأطراف في الإتفاقيات المشار إليها في الفقرة الأولي أن تنظر عند اللزوم في اتساق هذه الإتفاقيات مع المبادئ الأساسية لهذه الإتفاقية .
من المعروف أن مبدأ التقسيم العادل والمنصف لمياه الأنهار الدولية كان واحداً من القواعد الثابتة في القانون الدولى العرفى وهو ما تم تقنينه في شكل قواعد هلسنكى لعام 1966، ضمن قواعد أخري استقرت في العرف الدولي ، إلا أن هذا المبدأ كان يصاحبه دائماً مبدأ " عدم التسبب في إحداث الضرر " ، ولكن المشروع الذي أعدته لجنة القانون الدولى أعطي أهمية أكبر لمبدأ التقسيم العادل .
أما عن كيفية تقدير الضرر ، فقد شهدت المداولات التي سبقت إبرام الإتفاقية تراوحاً في الآراء بين ضرورة أن يكون الضرر هائلاً Substantial ، أو يكون جسيماً Significant أو يكون محسوساً Sensible أو ملموساً Appreciable ، وبينما أقرت لجنة القانون الدولي الصفة الأخيرة ( ملموساً ) ، ولكن الإتفاقية في النهاية أقرت صفة ( الجسامة ) ، ولا شك أن ذلك يزيد من صعوبة الإثبات علي دول المصب ، ولكنه كان حلاً وسطاً ما بين الضرر الهائل ، والضرر الملموس .
وكان الوفد المصري قد ركز في بيانه أمام الأمم المتحدة عند مناقشة هذه الإتفاقية في مايو 1997 علي أن مصر لن تكون ملزمة إلا بالقواعد العرفية المستقرة ، وأنه لا يمكن لمثل هذه الإتفاقية الإطارية أن تؤدي بحال من الأحوال إلي التأثير علي الإتفاقات الدولية الثنائية أو المتعددة الأطراف المتعلقة بأنهار بذاتها ، وأكد الوفد المصري علي تحفظه علي صياغة المادة الخامسة مبرزاً أهمية الربط بين مبدأ التقسيم العادل لمياه النهر و بين مبدأ عدم إحداث الضرر ، فقد اشتملت الاتفاقية على التزام عام يقضي بالتعاون فيما بين الدول المتشاطئة وتبادل المعلومات على نحو منتظم، كما تضمن الجزء الثالث من الاتفاقية تفصيلاً المشروعات التى تنوى إحدى الدول النهرية القيام بها والتي يمكن أن تؤدي إلي أضرار علي الدول الأخري ، بحيث أوضحت الإجراءات التي يلزم إتباعها للإخطار عند البدء في تنفيذ مشروعات علي مجري النهر ، و البيانات والمعلومات التي ينبغي أن يتضمنها الإخطار المسبق ،
وحددت مدة معينة (ستة أشهر يجوز مدها) بوصفها مهلة للرد على الإخطار، وألزمت الدولة المخطرة ( بكسر الطاء ) عدم البدء فى تنفيذ المشروع .. وقد أشار الوفد المصري من جانب آخر إلي أن معايير التقسيم الواردة في المادة السادسة لا يمكن أن تنسخ أية معايير أخري استقر عليها العرف الدولي ، وأن صياغة المادة السابعة لا تنال من العرف المستقر بشأن استخدام الحق دون الإضرار بالغير .
ومن المهم ملاحظة أن دولتين فقط من بين دول حوض النيل وافقتا علي إتفاقية الأمم المتحدة ، وهما السودان وكينيا ، بينما اعترضت بورندي ، ولم تشارك كل من أوغندا والكونغو وإريتريا في التصويت ، بينما امتنعت كل من رواندا وتنزانيا ، أي أنه يمكن القول بأن أغلب دول حوض النيل لم تسلم بإعتبار الإتفاقية المشار إليها بوصفها تقنيناً للعرف الدولي .
وهنا تجدر الإشارة إلي أن مصر لم ترفض الإتفاقية ، وانما اتخذت موقف الإمتناع مع تسجيل تحفظاتها ، وهو ما يعطيها مرونة كافية في المستقبل ، ومن ناحية أخري كانت أثيوبيا ترحب بالإتفاقية في البداية ، إلا أنها عند التصويت اتخذت موقف الإمتناع علي أساس أن الإتفاقية لا تحقق التوازن بين دول المصب ودول المنبع ، وطالبت بتعديل نص المادة الثالثة كي تلزم الدول بتعديل الإتفاقيات القائمة للتوافق مع الإتفاق الإطاري ، ورأي الوفد الأثيوبي أن الجزء الثالث من الإتفاقية تضع أعباء ثقيلة علي الدولة التي تنوي القيام بمشروعات علي مياهها ، كما تحفظ علي المادة السابعة الخاصة بعدم الإضرار الجسيم .
ولقد استقر الفقه الدولي علي أنه لا يجوز لدولة مشاطئة لنهر الدولى أن تبرر استخداما يسبب ضررا جسيما لدولة أخرى من دول المجرى بحجة أنه الاستخدام "المنصف" Equitable إذا لم يكن هناك اتفاق بين دول المجرى المائى المعنية.
وقد كان رأي لجنة القانون الدولى فى تعليقها على مشروع المادة السادسة التى أقرتها بصفة مؤقتة فى دورتها التاسعة والثلاثين فى عام 1987 إلى القول إنه "حيثما يترتب تأثير على كمية المياه أو على نوعيتها تعذر تحقيق جميع الاستخدامات المعقولة والنافعة لجميع دول المجرى المائى تحقيقا كاملا، ينجم عن ذلك" "تنازع الاستخدامات" وفى حالة كهذه، تعترف الممارسة الدولية بأنه يلزم إجراء بعض التعديلات أو التكييفات لحفظ ما لكل دولة من دول المجرى المائى من مساواة فى الحقوق. وهذه التعديلات أو التكييفات يجب التوصل إليها على أساس الإنصاف، ويمكن تحقيقها على أفضل وجه على أساس اتفاقات خاصة للمجرى المائى" .
وغني عن الذكر مدي إهتمام مصر والمصريين بنهر النيل منذ فجر التاريخ ، ولذلك كان الإهتمام به ترويضاً وتنظيماً وتأميناً ، بل احتل النهر موقع الإله العاطي المانح ، وكان حرص ملوك مصر وقادتها يدفعهم إلي إرسال الجيوش باتجاه منابع النيل لضمان استمرار سريانه بدون اعتراض ، وفي بدايات القرن العشرين حرصت مصر علي توقيع إتفاقات هامة أبرزها أتفاق 1929 مع بريطانيا التي وقعت بالنيابة عن مستعمراتها في أعالي النيل ، وواصلت مصر إهتمامها بدول الحوض ما بعد ثورة 1952 ، وخلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين كانت لمصر مبادرات مختلفة للتعاون مع هذه الدول ، كان أبرزها مبادرة تجمع الأندوجو Undugu ( وهي كلمة سواحيلية تعني الإخاء ) ، التي إنشئت بمبادرة مصرية كمنظمة غير رسمية بهدف إيجاد منتدي يلتقي فيه الوزراء سنوياً لمناقشة موضوعات مثل المياه والزراعة والتنمية وتطوير التعاون في المجالات الإقتصادية والفنية والعلمية ، وقد شارك في هذه المبادرة بداية كل من السودان وأوغندا والكونجو وإفريقيا الوسطي ، ثم انضمت كل من بورندي ورواندا وتنزانيا فيما بعد ، بينما اكتفت كل من أثيوبيا وكينيا كمراقبين فقط ..
ومن المؤسف أن بعض دول الحوض ( وخاصة أثيوبيا ) قد روجوا بأن هذا الإطار هو محاولة مصرية لممارسة نفوذها وتأثيرها والإبقاء علي الوضع القائم.
إلا أن أبرز المبادرات المصرية جاءت عام 1992 حيث تم تأسيس تيكونيل (Tecconile ) بين مصر والسودان ورواندا وتنزانيا والكونغو ، بينما شاركت باقي دول الحوض كمراقبين ، وكان تركيزها الأساسي هو التعاون الفني ، وقد أسفر هذا الإطار عن ميلاد مبادرة هامة في فبراير 1999 ، هي مبادرة حوض النيل (NBI ) ، بين كل من مصر وأوغندا والسودان وأثيوبيا وإريتريا والكونغو وبورندي ورواندا وتنزانيا وكينيا ، بهدف تحقيق تنمية مستدامة سياسية وإجتماعية وتدعيم أواصر التعاون الإقليمي ، وتم توقيعها في تنزانيا بواسطة مجلس وزراء شئون المياه لدول حوض النيل (Council of Ministers of Water Affairs of the Nile bain states –Nile-com) ، والإتفاق علي البدء في التفاوض علي مشروع إتفاق إطاري قانوني ومؤسسي لهذه المبادرة ، ولتحقيق ذلك تم إجراء جولات مستمرة من المفاوضات ، وكانت تسير في أجواء من التعاون علي قاعدة التوافق ، وخاصة عند مناقشة المواد الأولي من الإطار ، والتي تضمنت التعريفات ومنها تعريف الحوض ، وإقرار مبدأ التقسيم العادل والمنصف لمياه النيل ، وقد لوحظ أن صياغة معظم هذه المواد لم يبتعد كثيراً عن إتفاقية الأمم المتحدة السابق الإشارة إليها ، إلا أن هذه المفاوضات بدأت في مواجهة بعض الصعاب عند مناقشة مدي الإلتزام بالإتفاقات القائمة ، وكذلك كيفية تحديد الضرر عن المشروعات المستقبلية ، ومبدأ الإخطار المسبق ، حيث بدأت دول المنابع في الإبتعاد عن مبادئ إتفاقية الأمم المتحدة والقواعد العرفية الدولية الثابتة ، بل والتخلي عن قاعدة التوافق التي حكمت عمل الهيئة التفاوضية منذ بدايتها .
وقد بلغت الأزمة ذروتها في الإجدتماع الوزاري الذي عقد في كينشاسا ، حيث أعلن وزير الموارد المائية والري المصري رفض التوقيع علي الإطار القانوني والمؤسسي لمبادرة حوض النيل إلا بعد تحقيق شروط ثلاثة هي :
أولاً : نص صريح يضمن عدم المساس بحصة مصر من مياه النيل وحقوقها التاريخية .
ثانياً : الإخطار المسبق عن أي مشروعات تقوم بها دول أعالي النيل ، وإتباع إجراءات البنك الدولي في هذا الشأن .
ثالثاً : ضرورة أن يكون تعديل الإتفاق والملاحق بالإجماع وليس بالأغلبية ، وفي حالة الأغلبية يجب أن تشمل دول المصب ( مصر والسودان ) .
بينما اقترحت دول المنابع وضع مادة " الأمن المائي " في ملحق الإتفاقية وإعادة صياغته بما يضمن توافق دول الحوض حوله خلال ستة أشهر من تاريخ توقيع الإتفاقية وإنشاء هيئة حوض النيل المفترضة .
ويمكن القول أن موضوع " الإتفاقات القائمة " Existing Agreement مثلت عقبة خطيرة ليس فقط في مسار المفاوضات ، وإنما يعود تاريخها إلي سنوات عديدة سابقة ، حيث كانت أغلب دول الحوض تري فيها ميراثاً إستعمارياً ينبغي التخلص منه لأنه يعطي لمصر ومعها السودان كامل الحقوق علي مياه النيل ، وعندما شرعت مصر في التفاوض حول الإطار الجديد كانت تسعي بعزم صادق إلي إيجاد صيغة تضمن التعاون ضمن رؤية مشتركة Shared Vision للتوسع في إدارة وإستغلال النهر لزيادة محصوله ، بما يوفر إحتياجات دول المنابع ، وفي نفس الوقت يواجه إحتياجات الزيادة المتنامية للسكان في مصر بزيادة حصتها عن الحصة التي تؤمنها الإتفاقات والعرف الدولية .
وقد كانت وجهة نظر أغلب وفود دول المنابع وخاصة أثيوبيا أن المشكلة مع الإتفاقات السابقة لا تتعلق بالمبادئ والقواعد التي تحتويها ، وإنما في الصعوبة السياسية لتسويق القبول بها في إتفاق جديد ، حيث يرفض الرأي العام في تلك الدول استمرار الإلتزام باتفاقيات تم إبرامها خلال الحقبة الإستعمارية .
ورغم اليقين القانوني من أن إتفاقيات المياه لا تختلف عن إتفاقيات ترسيم الحدود ، هي نوع من الإتفاقات العقارية التي تكتسب قدسيتها لضمان إستقرار الأوضاع ، بالإضافة إلي الأسانيد القانونية العديدة التي تدعم موقف مصر ، فأنها استجابت لرغبة حسبتها حسنة النية لإيجاد مخرج من مأزق سياسي لتلك الدول ، وتفتق الذهن عن توليد مصطلح جديد ليست له سوابق قانونية ، وهو مصطلح " الأمن المائي " Water Security ، علي أساس أن يتضمن نفس قواعد ومبادئ الإتفاقات السابقة وأهمها الحفاظ علي الحقوق التاريخية المكتسبة ، والإخطار المسبق عن أي مشروعات جديدة علي مجري النيل .
ودون الدخول في تفاصيل مسار جولات المفاوضات المختلفة ، فأن صياغة مصطلح الأمن المائي وردت في التعريف ، ثم في المادة الرابعة عشر التي اقترحت دول المنابع أن تكون صياغتها علي النحو التالي : " أخذاً في الإعتبار أحكام المواد 4، 5 فأن دول حوض النيل تعترف بالأهمية القصوي للأمن المائي لكل منهم ، وتعترف بأن الإدارة التعاونية وتنمية نظام مياه النيل سوف تساعد في تحقيق الأمن المائي وفوائد أخري ، ولذلك وافقت دول حوض النيل بروح التعاون علي ما يلي : (أ) العمل سوياً لضمان أن كل الدول سوف تحقق وتديم الأمن المائي . (ب) ألا تؤثر بشكل جسيم علي الأمن المائي لأي دولة من دول الحوض .
تقدمت مصر والسودان بطلب لتغيير الفقرة ( ب) كي تقرأ كما يلي : " ألا تؤثر بشكل عكسي Not to adversely affect علي الأمن المائي والإستخدامات الحالية وحقوق أي دولة من دول حوض النيل .
وقد اعتمد المجلس الوزاري صياغة المادة 14 بتعديلاتها وقرر رفع الأمر إلي رؤساء دول وحكومات دول الحوض ، إلا أنه في الدورة السادسة عشر للإجتماعات الوزارية Nile Com تمت مناقشة مشروع الإتفاق مرة أخري في يوليو 2008 في كينشاسا ، وكذلك في الإجتماع السابع عشر في الفترة من 27 إلي 28 يوليو 2009 والذي عقد في الأسكندرية ، وانتهي إلي قرار بمنح الهيئة التفاوضية ستة أشهر للتوصل إلي إتفاق .
وفي تقديري ربما تتمثل إشكالية المفاوضات حالياً فيما يلي :
أولا: أن التفاوض بدأ علي المستويات الفنية دون نسق سياسي يحدد الحد الأدني لكل طرف.
ثانياً : أن الجانب المصري أغدق في التنازلات خلال المراحل الإفتتاحية للمفاوضات علي أمل حقيقي بأنه سيلقي نفس المعاملة عند طرح الموضوعات ذات الأهمية الحيوية له ، لذلك لم يكن لدي دول المنابع أي حافز أو رادع لدفع ثمن بضائع قد سلمت إليه بالفعل .
ثالثاً : أن المرجعية المؤسسية لأغلب الوفود كانت تتركز في يد فرد لا تتوفر لديه المعلومات الكافية أو الكفاءة السياسية المطلوبة .
رابعاً : أن الطرف الدولي سواء المانحين أو ممثل البنك الدولي لم يمارس الضغط الكافي علي الأطراف لحسم الخلافات التي تجاوزت الحد المعقول لأي عملية تفاوضية تتمتع بحسن النية ، واكتفي ذلك الطرف الدولي بإدعاء الحياد الذي هو في حقيقته إنحياز إلي جانب من قاموا بالتوقيع علي إتفاق بالمخالفة لقاعدة الإسناد المتفق عليها وهي التوافق .
خامساً : رغم الأهمية القصوي للموضوع ، لم تتحرك القيادة السياسية علي أعلي مستوي ، واكتفت بإرسال رسائل كانت تجد طريقها في الغالب إلي المختصين كي يتولوا عرضها علي قيادتهم بالشكل الذي يتفق مع رؤاهم الشخصية التي تنظر من زاوية ضيقة لتحقيق مكاسب وقتية دعائية علي حساب مصلحة إستراتيجية بعيدة المدي .
سادساً : أن المفاوضات كانت تجري محصنة من عيون وآذان وسائل الإعلام ، وقد كان ذلك حصافة تكتيكية لها مزاياها العديدة ، وقد حرصت فرق التفاوض من مختلف الدول علي الإحتفاظ بمبدأ عزل بيئة المفاوضات قدر الإمكان ، حتي إجتماع كينشاسا المشار إليه أعلاه حين خرج وزير الموارد المائية المصرية الجديد بتصريحات نارية مهددة لفتت أنظار وأسماع كل وسائل الإعلام ، ودفعت كل الأطراف إلي الحائط حيث انكمشت مساحة المناورة أمام الرجال الجالسين حول موائد التفاوض .
سابعاً : أنه لابد من الإعتراف بالحاجات التنموية الملحة لدول الحوض ، ومشاركة مصر الحقيقية في التعاون مع تلك الدول ، ولكن من ناحية أخري ينبغي أن تكون الرسالة لدول الحوض واضحة في أن أي تهديد لحقوق مصر في مياه النيل ، يمثل تهديداً وجودياً لمصر Existential Threat ، لا يؤثر فقط علي كمية المياه التي تصل إليها ، وإنما يؤثر علي استمرار مصر كما يعرفها التاريخ .
أجدني في نهاية هذه الدراسة الموجزة استعيد العبارة الحكيمة التي ذكرها لي المرحوم الدكتور صلاح عامر : " يا سيادة السفير .. الموضوع سياسي بالدرجة الأولي ، أما الجانب القانوني والفني فيأتيان في المراحل التالية " ، وأجد أن الفرصة بعد ثورة 25 يناير قد أصبحت مواتية لتحرك علي أعلي مستوي مع كل دول الحوض لتجاوز العقبات التي تحول دون إتفاق سوف يوفر آفاق هائلة للتعاون في إطار الرؤية المشتركة بما يحقق فوائد جمة لكل دول الحوض بلا استثناء .
No comments:
Post a Comment