Tuesday, 6 April 2021

{الفكر القومي العربي} رحلة بين متحفين ( 1 من 2 ) !

رحلة بين متحفين ( 1 من 2 ) !
ه--------------------------------------
تابعت كغيرى من المصريين الحدث المعروف بالموكب الذهبى للمومياوات الملكية فى رحلتها من "المتحف المصرى" بالتحرير إلى "المتحف القومى للحضارة المصرية" بالفسطاط؛ ولم أكن أنوى التعليق على هذا الحدث باعتباره من الأحداث الجارية التى لا أريد أن أنشغل بها عما كنت قد عقدت العزم على التفرغ للتفكير فيه والتعبير عنه، وأعنى به "أزمة مصر الوجودية"، لولا أن وجدت هذه الأزمة الوجودية وقد ألقت بظلالها على بعض جوانب هذه الاحتفالية، وعلى بعض تداعياتها فى الفضاء العام، أو لنقل أن هذه الاحتفالية قد عكست فى مرآتها بعض أوجه أزمة مصر الوجودية، وبعض جذور هذه الأزمة التى لازمت الموكب على امتداد المسافة من التحرير إلى الفسطاط، وهو ما استفز آلة التفكير عندى لكى تطرح تساؤلات مشروعة حول واقعنا المرتبك، وحول رؤانا التى نتعامل بها مع هذا الواقع الذى تزيده مثل هذه الاحتفاليات - المنفصلة عن الواقع - ارتباكاً!
بدايةً لابد من الإشادة بالجوانب التنظيمية والإبداعية والفنية التى امتازت بها هذه الاحتفالية، وبالشركة المنظمة لها – وهى فى الغالب شركة أجنبية – وبالمخرج السويسرى الذى تعهد هذه الاحتفالية لتخرج بالشكل الذى خرجت به، وبمعاونيه من المصريين والأجانب، خاصة فيما يتعلق بالملابس، والإضاءة، والموسيقى، والغناء، وتصميم الشعارات وعربات نقل المومياوات، والانضباط، وتحريك الجموع فى أكثر من مكان من أماكن مصر الأثرية، إلى آخر عناصر هذه الاحتفالية التى تابعناها وأبهرتنا بمشاهدها الرائعة … بيد أن الاحتفالية – على روعتها – لم تترك فى نفسى أثراً يفوق الأثر الذى تركه مشهد دخول كليوباترا إلى روما فى الفيلم الشهير الذى يحمل اسمها، وقامت ببطولته إليزابيث تيلور فى ستينات القرن الماضى! … الرابط بين المشهدين هو حالة الإبهار الزائد الذى طغى على حقائق الواقع، وعلى المعانى التاريخية والحضارية الرصينة التى كان يجب أن تكون هى الحاضر الأهم فى المشهدين!
بيد أننى لست ضد عناصر الإبهار بشكل مطلق، ولا أنا ضد منطق إحداث الصدمة البصرية والسمعية والشعورية لدى من تابعوا الحدث، بل ولست حتى ضد إنفاق بضعة ملايين من الجنيهات أو الدولارات، أو حتى بضعة مليارات، على إخراج الاحتفالية بالشكل الذى خرجت به! الأمر كله يعتمد على دراسة الجدوى التى بررت هذا الإنفاق، ولا يُشترَط أن تكون هذه الجدوى تدفقات مالية مباشرة، فكل المتاحف الكبرى فى لندن – مثالاً لا حصراً - مفتوحة للجمهور مجاناً، سواء كان هذا الجمهور من البريطانيين أو من السائحين الأجانب؛ فهناك صور كثيرة للجدوى التى قد تكون اقتصادية غير مباشرة، أو قد تكون غير اقتصادية أصلاً؛ ومن ثم فلست مع موجة الاستياء من الاحتفالية من منظور محض اقتصادى ومالى كما ذهب إلى ذلك كثيرون ومنهم مسؤولون سابقون عن الآثار، إذ يبدو لى - مما سمعت منهم عن "المردود المالى" للإنفاق على المتاحف - أنهم لا يتمتعون بعقل تاريخى، حتى وإن كانوا قامات مشهود لها فى علم الآثار!
السؤال المطروح إذن ليس عن كم ما أنفق على المتاحف، ولا عن دورة رأس المال التى سنستعيد بعدها ما تم استثماره فى العرض المتحفى، أو فى الدعاية له؛ فهناك جيران لنا لو كانت لديهم قطعة آثار واحدة تشهد على تاريخهم – واقول قطعة آثار "واحدة" – لأقاموا لها متحفاً يتكلف مليارات الدولارات، ولأنفقوا على الدعاية لها مليارات أخرى؛ ناهينا عن أن تكون لديهم رفات ملك من ملوكهم - المفترض أن يكون لهم وجود تاريخى - مثل الملك سليمان أو الملك داوود!! ... السؤال الذى أراه مطروحاً إذن بديلاً عن سؤال الجدوى الاقتصادية هو عن "الجدوى الوجودية" – إذا جاز هذا التعبير – وعن المقاصد العامة التى من أجلها تم إنفاق هذه الملايين أو هذه المليارات!
هل كان المقصد من وراء هذا الإنفاق الاستثمارى - سواء ذلك الذى أنفق على إنشاء المتاحف، أو ذلك الذى أنفق على احتفالية نقل المومياوات – هو توظيف الحدث لإعادة هندسة الأطر الذهنية التى تحكم تفكير وسلوك وردود أفعال المصريين تجاه التحديات الوجودية التى تواجههم، وتوجيهها لغير المسار المرتبك الذى تسير فيه، والذى أوصلنا لكل تعقدات الأزمة المعرفية والتاريخية والحضارية والوجودية التى تعيشها مصر ويعيشها المصريون منذ قرون؟! … قد تكفينا للرد على هذا التساؤل متابعة موقف التيارات الدينية من هذه الاحتفالية، ورصد الهوة المعرفية والشعورية السحيقة التى تفصل بين مكونات الشعب المصرى، وهى هوة لم توظف الدولة أياً من إمكاناتها لتجسيرها، بل هى – على العكس – تقوم بتوظيف هذه الإمكانات لتعميق هذه الهوة!! فما زالت نفس الأساليب العتيقة فى التعامل مع ثنائية الدين والتاريخ فى بلادنا هى صاحبة السيادة فى تشكيل الوعى، رغم فائض الحديث عن "الجهود التوعوية" التى اختلط أمرها فى ذهن متخذ القرار – على ما يبدو - مع "الجهود التعبوية"، على ما بين "التعبئة" و"التوعية" من افتراق!! وبسبب هذا الخلط مازال قطاع عريض من هذا الشعب أسير أفكار ومعارف وأحكام تاريخية ودينية لم يخضعها نظامنا المعرفى المهترئ على ميزان العقل، ولا على ميزان الضمير، ولا هو ربط بين هذه الأفكار والمعارف والأحكام التاريخية والدينية المتوارثة، وبين مستجدات العلم والمعرفة، بجسور نعبر بها فوق الصدوع التى أصابت جسد الأمة المصرية!
ذهبت الاحتفالية – بكل أسف - فى اتجاه آخر غير الاتجاه الذى يجعل لها "جدوى وجودية"، وهو اتجاه أراه لا يخدم إلا مقاصد "عابرة" لا شأن لها بمقصد التعامل مع "أزمة مصر الوجودية"! فقد رأيت الاحتفالية وقد اهتمت - أولاً - بالتغطية على الواقع المصرى الذى كان غائباً تماماً عن أجوائها، بل ونرى جميعاً هذا الواقع الذى نعيشه وهو فى حالة تناقض تام مع فكرة المجد القديم الذى يراد إيهام المصريين بأنه مازال ينبض بالحياة، وبأن أنفاسه مازالت هى نفس الأنفاس التى تتردد فى صدر الواقع المصرى المعاش، على الرغم من أن الاحتفالية كانت فى جوهرها ذات مضمون جنائزى يثير فى النفس حزناً لا فرحاً، وشجناً لا ابتهاجاً!
رأيت الاحتفالية – ثانياً - وقد تخللها - فى أكثر من موضع - ما كان كفيلاً بتحويلها عن مقصدها المعلن باعتبارها احتفاءً بتاريخ مصر، وبملوكها الأقدمين الذين صنعوا مجدها، إلى مقصد آخر هو التسويق السياسى للنظام المصرى، والاحتفاء بقيادته، والإيحاء بأن النظام القائم إنما يسير على خطى هؤلاء الملوك الذين صنعوا هذا التاريخ، وأن مشاريع النظام إن هى إلا امتداد للجهود التى بذلها هؤلاء الأقدمون لبناء الدولة المصرية، ولتحقيق استقراراها واستقرار المجتمع المصرى ورفاهيته!
رأيت الاحتفالية – ثالثاً - وقد استهدفت تصدير صورة للخارج أكثر مما كانت تستهدف مخاطبة الداخل الغريب عنها، وأكثر مما كانت تستهدف تغيير الواقع المصرى المتردى الذى يتنافر - بترديه - مع ما أظهرته الاحتفالية من بهرج وإبهار، ومع ما صاحبها من إبداع وإتقان يستحقان الإشادة ولا شك؛ وبسبب هذا التوجه للخارج كانت "السياحة" حاضرة بأكثر مما كانت حاضرة "الجسور" التى تساعد مصر على عبور أزمتها الوجودية، وبأكثر مما كان حاضراً "الوعى" بمعانى وجود هذه الجثامين لملوك حكموا مصر قديماً، وشادوا مجدها التاريخى والحضارى منذ أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة عام؛ وإنما بقى وجود هذه الجثامين مفتقداً لأى معنى وجودى فى مجتمع ما زالت تسيطر على ذهنه أفكار تلعن هؤلاء الملوك وتنفر من تاريخهم!!
البحث عن الجسور التى تربط بين مكونات الوجود المصرى، كما تربط بين هذا الوجود وبين باقى مكونات الوجود الإنسانى، هو مهمة لا تقوم بها دولة لا تعى أزمتها الوجودية، ولا هى تعى الأزمة الوجودية التى تمر بها الأمة المصرية الممزقة تاريخياً وحضارياً؛ ففاقد الشئ لا يعطيه، وإلا فقولوا لى بالله عليكم أين هى فى حياتنا "معت" – روح العدالة - التى تشدق بمناقبها المحتفلون؟!!
وما زال لحديث الرحلة بين المتحفين بقية!
ه======================

No comments:

Post a Comment