Thursday 10 August 2017

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: اللى بنى مصر حلوانى .. مدنى-2

اللى بنى مصر حَلَوانى ..  مدنى  (2)
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
منذ عامٍ، كتبتُ مقالاً بنفس العنوان، وكنتُ أحسب أننى لن أعود إلى نفس الموضوع .. مُفترضاً أن في مركز القرار من يقرأ ويَعِى خطورةَ ما يفعل .. ليس على نفسه ونظامه فقط .. وإنما على علاقةٍ متجذرةٍ بين الشعب  المصرى وجيشه .. ما حدث هو أن الأخطاء تفاقمت .. ولم يكن آخرها ما نُسِب للمتحدث باسم الخارجية قبل أسبوعٍ (ولم يتم نفيه للآن) وأكَّدَه الدكتور/ مصطفى كامل السيد (وله من المصداقية ما يفوق كل المتحدثين) من أن المُلحَقين الدبلوماسيين الجُدُد سيتم تأهيلهم فى الكلية الحربية لمدة ستة شهور، أما الدبلوماسيات فستقضين هذه الفترة فى معهد التمريض التابع للقوات المسلحة، خلافاً لما كان مُتَّبَعاً من قبل بتأهيلهم فى المعهد الدبلوماسى .. لن نناقش ما تناثر من أخبارٍ عما سيتم تدريسه من عينة الجيل الرابع والمؤامرة الكونية الكبرى وعِمَالة منظمات حقوق الإنسان وروعة الديكتاتورية وخطورة الديمقراطية وباقى العَتَه والمفردات الفضائحية التي يُتحفنا بها إعلام الصوت الواحد والتى سيتم تلقينها لدبلوماسيينا ليخاطبوا بها العالم الخارجى (!) .. وإنما أتحدث عن عسكرة الدولة .. مع رجاء ألا يخلط أحدٌ (عن جهلٍ أو سوء نية) بين العسكرة (وهى تحويل ما هو مدنى إلى عسكرى) والجيش (الذى هو أحد دعائم أي دولة).
رغم تعاقب عددٍ من الرؤساء ذوى الخلفية العسكرية واختلاف توجهاتهم، إلا أن أحداً منهم لم يُعطِ الانطباع بأنه لم يغادر منصب وزير الدفاع وهو في طريقه للرئاسة .. وأحاط كُلٌ منهم نفسه بكوكبةٍ متميزةٍ من المدنيين المتميزين الذين تمتلئ بهم مصر، إلى جانب بعض العسكريين الأفذاذ .. أمَّا أن لا يرى الرئيسُ في مصر الكبيرة إلا وحدته العسكرية فذلك قصورٌ في البصر والبصيرة .. وتجاربُ التاريخ تُنبِئُنا بأن الحاكم الذى لا يرى فى مصر إلا فئته أو أهله وعشيرته، يبدأ رحلة السقوط له ولأهله وعشيرته، وتخسر مصرُ معه بالتأكيد .. كل مكونات الطيف المصرى مُهمةٌ وغيرُ قابلةٍ للإقصاء .. ولكن مصر أكبرُ من مكوناتها .. مجنونٌ وأحمقُ من يتصور أن تكون مصرُ بمسلميها دون مسيحييها .. أو عسكرييها دون مدنييها .. أو أغنيائها دون فقرائها .. مصر بلدٌ كبيرٌ وغنىٌ بأطيافه وتعدديته .. والجيشُ جزءٌ من ثراء مصر .. لكنه لا يُغنى عنها ..بل إن ثراء الجيش راجعٌ في الأساس إلى دِمائِه المدنية المتجددة من ضباط الاحتياط والمجندين.
موضوع تأهيل الدبلوماسيين ليس إلا حلقةً في سلسلةٍ من التصرفات المستفزة التي تخلط بين قيادة كتيبةٍ وقيادة دولة .. الكتيبةُ تُحكَمُ بقانون الأحكام العسكرية .. الدولة مرجعيتُها الدستور والقانون، والعبث بهما يؤدى إلى الانهيار لا محالة.... ليس من مصلحة الوطن إضافة فتنةٍ جديدةٍ إلى ثنائيات الانقسام والاحتقان .. فتنةً  ليس للخارج دورٌ فيها وإنما هى فتنةٌ محليةٌ مِن صُنْع النظام وبإصرارٍ مُدهشٍ .. فتنةٌ تتبدى فى تزايد تكليف الجيش بأدوارٍ مدنيةٍ بالأساس، وإغراق المناصب التنفيذية بعسكريين سابقين (معظمهم عاديون بلا مواهب أو إنجازات، وهى سِمةٌ مشتركة فى كل الاختيارات هذه الأيام، مدنيين وعسكريين) .. فتنةٌ صارت تسبب حرجاً لكثيرٍ من العسكريين السابقين (وأعتز بأننى واحدٌ منهم) الذين لم يتعودوا على مثل هذا التمايز الممقوت وليسوا بحاجةٍ إليه.
كاتب المقال من أوائل مَنْ أَثنَوْا على الأنشطة الاقتصادية التي تُحقق للجيش اكتفاءً ذاتياً من الغذاء والكساء وغير ذلك من الاحتياجات اللوجيستية، وتخفف العِبءَ على ميزانية الدولة الفقيرة المُلزَمة بتوفير هذه الاحتياجات .. المشكلة تبدأ عند تجاوز هذا الحد المحمود ودخول الجيش كمنافسٍ لمؤسسات الدولة المدنية أو حلوله محلها .. وهى منافسةٌ لن تكون عادلةً  بأى حالٍ  مهما صدقت النوايا .. كما أن ممارسات السوق تخدش نقاء وطهارة الصورة الذهنية للجيش  .. فضلاً عن دَقِّ إسفينٍ لا مُبرر له بين شعبٍ يُحِّبُ جيشَه وجيشٍ نُحَمِّلُه بما هو فوق طاقته .. الجيوش تتدخل استثنائياً في حالات الكوارث الطبيعية .. والدولُ تنهضُ بتكامل (لا بتبادُل) أدوار مؤسساتها .. دور الجيش أن يحمى كل أنشطة الدولة المدنية .. لا ينافسها فى مجالاتها ولا تنافسه فى مجالِه.
أما القول بأن العسكريين هم الأصلح للمناصب المدنية، فهو قولٌ مُجافٍ للحقيقة .. فالعسكريون الذين يُقَّدِسُهُم المصريون مثل عبد المنعم رياض والشاذلى والرفاعى والجمسى وغيرهم، نالوا مكانتهم لكفاءتهم في مناصبهم العسكرية لا المدنية .. والعسكريون الذين برزوا فى قطاعات الإنتاج والإبداع  مثل ثروت عكاشة وصدقى سليمان ومحمود سامى البارودى وغيرهم، برزوا لأنهم أكفاء لا لأنهم عسكريون  .. بدليل أن غيرهم فشلوا .. والجيشُ مثل أي مؤسسةٍ في مصر، به الكُفء والتافه .. لكن وجه مصر الحضارى  والاقتصادى هو وجهٌ مدنىٌ بالأساس .. زانته وتزينه نجومٌ لامعةٌ لا تكفى لحصرها آلاف المقالات .. فضلاً عن ملايين الشرفاء الأكفاء المخلصين من مهندسين وأطباء ومعلمين وقضاة ومحامين وعمال وفلاحين وغيرهم من الذين يديرون ماكينة الحياة فى أرجاء مصر في كافة المجالات  .. كلهم مدنيون يحبون جيشهم وتؤذيهم مثل هذه المقولات الخبيثة والتصرفات المُستفزة.
خلاصة القول الذى لن نَمَّلَ من تكراره: إن الذى بنى  مصر حلوانى  مدنى .. في حماية عسكرى مقاتل .. وأى عبثٍ بعناصر تلك المعادلة يهدم البناء .. لا قَدَّرَ اللهُ.
(البداية- الخميس 10 أغسطس 2017).

No comments:

Post a Comment