Wednesday, 23 August 2017

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: مسيحيو مصر .. روحها وبركتها

مسيحيو مصر .. رُوحُها وبَرَكَتُها
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(العَدلُ إحساسٌ) كما يقول الدكتور أيمن الصياد.. وأُضِيفُ (والظلمُ أيضاً) .. ما أكثرَ المظلومين أو الذين يستشعرون الظلم في بلادنا .. وبعضها مظالمُ متوارَثَةٌ ومتراكمةٌ من عهودٍ سابقة .. أخشى أن كل جهدٍ سيظل منزوعَ البركة .. ما ظَلَّ بيننا مظلومون .. ما الذى يضير مصرياً مسلماً أن يُصلى مصرىٌ مسيحىٌ فى بيته ؟ وما البطولةُ والشجاعةُ والمروءة فى استئساد مجموعةٍ من المصريين المسلمين الفقراء مسلوبى الحقوق على مجموعةٍ أخرى من المصريين المسيحيين الفقراء مسلوبى الحقوق أيضاً؟ .. إنَّ أقسى وأغبى أشكال القهر هو قهْر المقهورين لبعضهم البعض.
لا يوجد حلٌ واحدٌ لمثل هذه الحوادث .. وإنما مساراتٌ متوازية .. أولها دولةُ قانون حقيقيةٌ .. قانونٌ عادلٌ يسرى على الجميع .. ثم إجراءات لمحو آثار تلوثٍ فكرى عَبَثَ بالعقل المصرى على مدى أربعين سنة.
لم نكن كذلك .. لكننا تغيرنا .. نشَأَ الكاتبُ فى مدينة أسيوط لأبٍ قاضٍ أزهرىٍ .. وأسيوط مدينةٌ ذات طبيعةٍ خاصة .. إذ أن نسبة المصريين المسيحيين بها كانت فى هذا الوقت (ولا زالت) تزيد عن نسبتهم فى أى مدينةٍ أخرى فى مصر (يشكلون حوالى 25 إلى 30 فى المائة من سُكّان المدينة) .. مِن المُفترض والحالُ كذلك أن تزيد احتمالات ما يُسمّى حوادث الفتنة الطائفية .. لكن الواقع كان غير ذلك تماماً .. إذ أدّت النسبةُ الكبيرة إلى حتمية التداخل ومِن ثمّ التعايش بصورةٍ لا يوجد مثيلٌ لها إلا فى شُبرا .. لم يكن يخلو منزلٌ تقريباً من سكّانٍ مسلمين ومسيحيين .. وبما أن علاقة الجيرة أقوى مِن علاقة القُربَى فقد لَعِبَتْ ربّاتُ البيوت الدور الرئيسَ فى التقريب بين الأُسَر وتنشئة الأطفال كأخوةٍ رغم اختلاف الأديان.
عندما بلَغتُ وأخى سِنّ الحضانة، لم يجد أبى الشيخ الأزهرى شديد التديّن أىَّ حرجٍ فى أن يُدخلنا حضانةً تملكها وتُديرها جمعيةٌ خيريةٌ مسيحية .. وعندما أراد أن يُلحقنا بنادٍ رياضىٍ لم يتردد فى اختيار النادى الأقرب وهو نادى جمعية الشُبّان المسيحية رغم وجود نادٍ لجمعية الشُبّان المسلمين.
فى انتخابات اتحاد الطلبة كان المُنافسُ مسيحياً وأغلبية الفصل من المسيحيين، أى أن النتيجة محسومةٌ له طائفياً .. فإذا بى أحصد الأغلبية بكل ما تحمله النتيجة من دلالات .. كُنّا مجموعةً مُتلاحمةً من الأصدقاء بلا عُقّد .. شديدى التديّن وشديدى الترابط فى آنٍ واحدٍ .. فلا المُسلمُ تَنَصّر ولا المسيحى أَسْلَم.
كُنّا نتبادل النكات .. ونكتشف أنها واحدةٌ .. بطلُها عند المسلمين قسيس وعند المسيحيين شيخ .. لذلك تَفَهّمتُ ما فَعَله الصديق نجيب ساويرس منذ سنواتٍ عندما وضع على موقعه الإلكترونى دُعابةً كاريكاتيرية وَصَلَته من أحد أصدقائه المسلمين فقامت الدنيا ولم تقعد .. نجيب تصرّفَ بتلقائيةٍ كمصرىٍ لا كمسيحى .. ولم يَدْرِ أن الزمن غيرُ الزمن.
بالطبع لم تكن العلاقاتُ مثاليةً بلا مشاكل .. ولكنها كانت مشاكل معاملاتٍ بين مصريين لا بين مسلمين ومسيحيين .. وبالطبع كان هناك متعصبون هنا وهناك لكن العقلاء والكِبارَ كانوا أكثر.
بداية التغير الحاد كانت في عهد الرئيس السادات (غفر الله له) .. للرجل حسناته بلا شك (وأبرزها قرار الحرب) .. لكن التاريخ يرصد أنه رغم مقولته (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة) إلا أنه من أكثر من تاجروا بالدين للتخلص من المعارضين والتمكين لحُكمِه ولو أدَّى ذلك إلى تأجيج الفتنة .. وتزامن ذلك مع طفرة أسعار النفط الوهابى بعد نصر أكتوبر، وغزوه لمصر حاملاً أفكاره الأُحادية إلى بلد الأزهر القائم على التعدد .. أفكارٌ تُرَّكِزُ على الشكل لا على المضمون .. وتستبطنُ نظرة استعلاءٍ على الآخر .. وكان مسيحيو مصر أكثر من تضرروا من هذا الغزو الفكرى .. تحَّمَلوا صابرين .. ومن اضطر للهجرة سافر ومصرُ في قلبه .. لا زلتُ أذكر د. حنا كبير أطباء مستشفى البلدة التى كنتُ أتدرب بها في أمريكا قبل نحو 35 عاماً .. وكيف كان الزوجان المصريان (يتنشقان) على أى قادمٍ من مصر ليكرماه ويخدماه .. كان حُبهما المتدفق لمصر ممتزجاً بشجنٍ غامضٍ .. عرفتُ سببه تحت إلحاح .. أستاذٌ ظالمٌ متعصبٌ حَرَمه من حقه كمصرىٍ متفوقٍ فى أن يكون معيداً فى الجامعة، فهاجرا حامليْن فى قلبيهما الحب والجرح معاً .. لذلك كان صوت أم كلثوم لا ينقطع من بيتهما، وتحولت (هَجَرتَك) إلى أغنيةٍ وطنية، تنساب معها دمعتان صامتتان من عينيهما، لا سيما مع قول الست (وقلت أقدر فى يوم أنساك .. لقيت روحى فى عز جفاك بافكر فيك وأنا ناسى).
يرددُ بعضنا (وكأنه من المُسلّمات) أن أكثر مسلمى العالم تديُّناً هم المصريون المسلمون .. أما كاتب المقال فيؤمن بعد ما سافر إلى بلادٍ كثيرةٍ، بأن أكثر مسيحيى العالم تَدَيُّناً هم المصريون المسيحيون أيضاً .. ولا عجب فى ذلك .. فالمسيحية فى أصلها ديانةٌ مُسالمةٌ، والمصريون على العموم شعبٌ مُسالمٌ، والصعايدة منهم (حيث ينحدرُ معظم المسيحيين) يميلون للالتزام والمحافظة .. فإذا انصهر كل ذلك فى سبيكةٍ واحدةٍ، صِرنا أمام تكوينٍ إنسانىٍ فريدٍ يختلف عن كل مسيحيى العالم.
مسيحيو مصر هم أكثر من تتجسد فيهم روح مصر الصابرة المتسامحة المتحضرة .. هم جزءٌ من بَرَكَة هذا البلد .. ما خانوا ولا غَدَرُوا ولا تخاذلوا عن نصرة الوطن أبداً .. والله لا يرضى عمن يظلمهم .. هم نحن .. هم أنتم .. فلا تظلموهم .. لا تظلموا أنفسكم.
(البداية- الأربعاء 23 أغسطس 2017).

No comments:

Post a Comment