Sunday 20 August 2017

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: لا يفهم الفرعون إلا غرقا

لا يَفهَمُ الفِرعَوْنُ إلاَّ غَرَقَا
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
لا جديد تحت الشمس .. كأنما كُتِب على الشعب المُبتَلَى أن يشاهد نفس فيلم التعديلات الدستورية مع كل رئيس .. نفس الفيلم مع تدهورٍ فى الإخراج .. ورداءةٍ فى التمثيل .. وكأنما فى كرسى الرئاسة ما يُحَّوِلُ الرئيسَ من إنسانٍ يستبشر به الشعب، إلى فرعونٍ يفعل الأفاعيل من أجل أن يبقى فى كرسيه إلى يوم القيامة (أو ما بعده إذا استطاع) .. فيكون فى ذلك مقتله (مادياً أو معنوياً) .. ولا يَعِى الدرسَ إلا وهو يتنفس تحت الماء فى لحظة الغرق .. ويَخلُفُه آخرُ يتوسم الناسُ أنه وَعَى الدرسَ وتَعَّلَم من سابِقِه أنه لا خلود لحاكمٍ (ولا محكوم) .. وما هى إلا سنوات ويُكرر ما فعله سابِقُه حرفياً .. وكأنها مُتتالية أمل دنقل: (لا تحلُمُوا بِعالَمٍ سعيد .. فخَلْفَ كُلِ قيصرٍ يَمُوت .. قيصرٌ جديد).
الفرعون هو لقب حُكام مصر القديمة (خيارهم وشرارهم)، لكن فرعون موسى بالذات صار عَلَماً على المستبدين فى كل زمانٍ ومكان .. وليس فى مصر وحدها .. وهو رمزٌ للكِبْرِ والغباء معاً (كما جاء فى دراسةٍ متميزةٍ للدكتور مصطفى حجازى) .. وأبرز سِماته أنه لا يرى الواقع ولا يفهم حقائقه إلا بعد فوات الأوان .. (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) .. أو (الآن فَهِمتُكُم) كفرعون تونس الذى استبشر به الشعب الشقيقُ فى البداية خيراً .. لكنه تحول بالتدريج إلى فرعونٍ نَمَطى .. عَدَّل فى الدستور وفتح الحد الأقصى لمرات الرئاسة (وكان فى الثالثة والسبعين من عمره) ..  وعندما حانت لحظة الثورة الحتمية، أعلن أنه لن يترشح فى الانتخابات القادمة بعد ثلاث سنوات .. ولأن الشعب يعرف أن الفرعون كاذبٌ، تفاقمت المظاهرات إلى أن وصلت إلى أبواب قصره .. حينها فقط قال عبارته الشهيرة (الآن فهمتُكُم) .. فجاءه الرد الإلهى بلسان الشعب (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟) .. واستقل الطائرة إلى السعودية.
هذا عن تونس .. أما مصر أم الدنيا فلها السَبْق والريادة والماركة المسجلة فى هذا المجال لمن يريد أن يَتَّعِظ .. لكن لا أحد يتعظ .. شخصياً، أحسبُ أن كُلَّ حكامنا من أولئك الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخرَ سيئاً .. ولكن إذا كانت بعضُ الحسنات تُذهِبن السيئات .. فإن من السيئات ما يقضى على كل حَسَنَة .. وأبرزها سيئةُ العبث بالدستور للتشبث بالكرسى والخلود عليه.
بدأ الرئيس السادات عصره بتضمين الدستور حداً أقصى فترتان رئاسيتان .. فلما قاربتا على الانتهاء، (بادَرَ) عددٌ من النواب والنائبات الموجودين دائماً تحت الطلب، بطلب تعديل عددٍ من مواد الدستور .. وفى تجارةٍ واضحةٍ بالدين من أجل الدنيا، تم الترويج لأن الهدف الأعلى للتعديلات هو جَعْلُ الشريعة الإسلامية (المصدر الرئيسى) للتشريع بدلاً من (مصدر رئيسى) .. لم تُضِف الألِفُ واللامُ أىَّ جديدٍ على الوضع التشريعى فى البلاد .. لكنها استُخدِمَت (للطرمخة) على الغرض الحقيقى من التعديلات وهو ما عُرِف لاحقاً بتعديل الهوانم الذى جعل بقاءَ الرئيس فى منصبه مُمتدَّاً إلى يوم القيامة أو الوفاة أيهما أقرب .. لم تحقق التعديلات الخلود للسادات (غفر الله له) حيث إنه اغتيل قبل أن يُكمل مُدَّتَه الطبيعية .. وبقيت لنا تعديلاته.
وكالعادة بدأ الرئيس مبارك عصره عازفاً عن الحكم وواعداً بعدم البقاء أكثر من فترتين .. وكالعادة أيضاً أخلفَ الفرعونُ وعده .. فلمَّا أَتَّمَ أربع فتراتٍ وبلغ سبعةً وسبعين عاماً وظنَّ الناسُ أنه يتأهب للرحيل، فاجأهم بإجراء أربعةٍ وثلاثين تعديلاً مرةً واحدة .. تضمنت (تقييف) الدستور ليضمن أن مصر لن يحكمها إلا واحدٌ من اثنين: مبارك أو ابنه الأصغر .. فلما وقعت الواقعة خرج الرجلُ في لحظة الغرق يطلب من الشعب أن يصدقه هذه المرة، واعداً بألا يترشح مرةً أخرى .. وباقى القصة معروفٌ.
لا أُحب الخوض فى فترة الرئيس مرسى، ليس فقط لأن المقال لا يناقش أداء الرجُل وهل فَشَلَ أو تم إفشالُه  (والعبارتان لهما نصيبٌ من الصحة)، ولكن لأن الرجل وقيادات الجماعة فى محنةٍ توجب على كل ذى مروءةٍ أن يؤجلَ العتاب ويدافع عن حقهم (وحق مصر) فى معيارٍ واحدٍ للعدالة يَسرى على الجميع بلا استثناء .. لكن فيما يخص موضوع المقال .. وعلى الرغم من أن الرجل أتى من مرجعيةٍ مختلفةٍ عن سابقيه .. إلا أنه قبل أن يُكمل خمسة شهورٍ في الاتحادية أصابه نفس الفيروس ونَّحَى الدستورَ الذى انتُخِب على أساسه جانباً وأصدرَ إعلاناً دستورياً حَصَّن به قراراته السابقة واللاحقة .. فكان نقطة البداية لِما تلاه من أحداثٍ انتهت به وبمصر إلى ما نعلم.
فيما بعدُ تَحَّوَطت لجنة صياغة الدستور الحالى من أن يُكَّرِر الرئيس الجديد أخطاء سابقيه، فضَّمَنت الدستور مادةً وقائيةً تمنع تعديل مُدَد وفترات الرئاسة قبل مُضِّىِ ثمان سنواتٍ .. لكن عَلَى مين؟ .. إنَّ الهَوَى غَلاَّب .. والأفَّاقين تحت الطلب .. وها هو الفيلم يتكرر بحذافيره .. دَعْكُم من أن الرجل  لم يُطَّبِق الدستور أصلاً .. لكن يبدو أنه صار لديه سببٌ إضافىٌ للتشبث بالمنصب بعد توقيعه على قرار تسليم تيران وصنافير .. فلا تستبعدوا أن تتضمن التعديلات حذف كل المواد التي تَدمَغُ من يُفَّرِط في الأرض بالخيانة العظمى.
يا فخامة الفرعون .. عَدِّل .. بل عَجِّل .. لتلحق بسابقيك.
(البداية- الأحد 20 أغسطس 2017).

No comments:

Post a Comment