Thursday, 5 April 2012

{الفكر القومي العربي} حديث عن "الثورة"

(1)
الثورة

لايمكننا أن نتجاهل الغموض الذي يحيط بكلمة الثورة حيث أن هناك إستعمال
شائع لهذه الكلمة بدون تحديد مفهوم واضح مما فتح الباب لحالة من الخلط
بين الثورة والإنتفاضة الشعبية. مع عدم إنكارنا أن الإنتفاضة الشعبية هي
مرحلة من مراحل المسار الثوري.إن مثل هذه الأخطاء الشائعة في فهم الثورة
تجعل الكثير من الشباب يعتبرون أن الثورة هي ضربة سحرية مثالية يقوم بها
الشعب تلقائيا على إمتداد زمني قصير تنتهي بالإطاحة بأعلى هرم السلطة.
ولو كان هذا الفهم يمثل مشكلة خلافية نظرية فحسب لما تناولناه في حديثنا
هذا ولكن هذا الخطأ في الفهم يمثل أحد المداخل للإجهاض على العمل الثوري
التي أحدثتها القوى المعادية للمسار الثوري العربي. ذلك أن تحديد مفهوم
الثورة في عملية الإطاحة بأعلى هرم السلطة أو حتى في مراكز قوى النظام
القديم هو بمثابة حصر متعمد لصلاحيات المسار الثوري في غاياته وأسلوبه.
وهو حصر متعمد يستهدف الحيلولة بين المسار الثوري وبين غاياته الإجتماعية
الأصيلة.فكما نلاحظ فإن القوى المعادية للمسار الثوري تستعمل أسلحة أكثر
فتكا بالمسار الثوري من الرصاص الحي. إنه سلاح تحريف مفهوم الثورة في عقل
الشعوب الثائرة. وهي جبهة صراع أكثر خطورة وعمقا من أي جبهة أخرى. وهي
تستوجب الإشتباك اليومي ضد هذا التحريف لنعرف الثورة على الأقل على مستوى
غاياتها الأصيلة.فالإنتخابات الحرة النزيهة مثلا ليست غاية في حد ذاتها.
وكذلك حرية الصحافة والإعلام. وحرية الرأي وحرية تشكيل الاحزاب
والجمعيات. كل ذلك يندرج في الإنجازات التقنية لصالح المسار الثوري
الشعبي وليس غاية في حد ذاته. إذ أنه عندما تكون القاعدة المعتمدة لإدارة
كل هذه الإنجازات التقنية هي قاعدة "دعه يعمل دعه يمر" فإن حرية الرأي
مثلا ستتحول إلى ضجيج غامض لا أثر له مادام رأي الأقلية الثرية إقتصاديا
هو المسموع من طرف الشعب بحكم امتلاكها للقدرة على صناعة الصحافة
والفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة. على كل حال نحن نعتقد أن الإسترسال
في هذا الموضوع يمكن أن يحمل هذا المقال أكثر مما يطيق لذلك نكتفي بما
أشرنا إليه من ملاحظات حول مفهوم الثورة. ولكننا نريد أن نضيف إلى ذلك ما
نعتقد أنه مفهوم الثورة الذي نحتكم إليه ونحن نحدد موقفا مما جرى في تونس
وفي باقي الأقطار العربية. ونحن أيضا نحدد غاياتنا النضالية من عمق هذا
المسار الشعبي "الثوري".
عندما يعجز أي نظام بحكم بنيته وقواعده العامة عن توفير وإدارة نمط
للحياة يحقق للشعب القدرة على تلبية حاجياته الثقافية والمادية المتجددة.
تصبح الثورة خيار حتمي. إذ أن الثورة هي تصفية لهذا النظام بكل مكوناته
التي تمثل عائقا أمام التقدم الإجتماعي بما في ذلك القواعد العامة
(الدستور) التي تحدد كيفية آداء هذا النظام. وأيضا تجريد القوى المعادية
للثورة (التي تقف في خندق الولاء للنظام القديم بحكم المصالح المتصلة
حيويا بآلياته) تجريدها من قدرتها على التأثير السلبي في مجرى الحياة
داخل المجتمع. ولكن الثورة لا تنحصر في هذا الحد السلبي (أي تصفية النظام
القديم) وإنما تكتمل الثورة عند إنجاز الحد الإيجابي وهو بناء نظام
للحياة يوفر للمجتمع إمكانية السيطرة على إمكانياته المادية والبشرية من
أجل إشباع حاجياته المتجددة ماديا وثقافيا. فالثورة هي مسار شعبي يستهدف
غايات شعبية حتى ولو كان التفجير فردي. إذ لم يكن التفجير سيتم لولا أن
هناك معانات شعبية تحولت إلى ظرف ملائم لتفجير الثورة.
كان لابد من هذه المقدمة لنستطيع الإجابة على السؤال حول تقييم الثورة في
تونس.إلا أننا لا نستطيع أن نتناول أي ظاهرة أو حراك داخل أي جزء من
الوطن العربي إلا من منظور قومي عربي. ولقد إختبرنا ما آمنا به دهرا من
أن وحدة الوجود القومي تفرض وحدة المصير القومي. وهي قناعة لا يدركها
القوميون فقط بل إن القوى الرجعية والاستعمارية تدرك جيدا هذا الأمر
فتتعامل معه بموضوعية ولا تتجاهله فتخطط وتعمل على ضوء التسليم بأن وحدة
الوجود القومي العربي تعني وحدة المصير فلا تكتفي بالفعل داخل القطر من
أجل تحريف مسار الثورة بل أنها تتعامل مع كل مكونات الوجود القومي العربي
من أجل إنجاح أيه خطة في قطر معين. على عكس بعض القوى التحررية أو القوى
التي تناضل من أجل تحقيق المطالب الإجتماعية من داخل التسليم بالتجزئة
العربية.ولقد لاحظنا إنسيابا واضحا للمسار الثوري العربي من خلال شرايين
الوجود القومي العربي الواحد. بل أننا لاحظنا التناغم العجيب في
السيناريوهات التي سادت المشهد الثوري. ليس فقط على مستوى حراك الشعب
الثائر بل أيضا على مستوى تعاطي القوى المعادية للأمة العربية أثناء قمع
الحراك وبعد إنتصار الحراك في معركة الإطاحة برأس النظام.
إن هذا الأمر وغيره من التفاصيل يجعلنا نؤكد ما آمنا به دائما بأن الثورة
ليست تونسية أو مصرية أو يمنية أو غيرها وإنما هو مسار ثوري عربي. يتسم
بسمات قومية جامعة وينفرد في المحليات بسمات محلية ناتجة عن تأثير الخاص
في إطار العام.
(2)
أصل المشكلات
إن الأمة العربية تعاني مشكلات التجزئة والاستعمار والتخلف منذ زمن طويل
وبالتالي ندرك جيدا أن النظام الإقليمي العربي كتجسيد قانوني وسياسي
وثقافي للتجزئة يحول بين الشعب العربي وبين سيطرته على إمكانياته وقدراته
من أجل إشباع حاجياته الثقافية والمادية المتجددة.إن هذا الوضع التاريخي
يجعل الثورة حتمية. ولكنها ثورة عربية تستهدف تحرير الشعب العربي من كل
العوائق التي تحول بينه وبين تقدمه.الظروف الموضوعية التي تحتم الثورة
متوفرة منذ زمن بعيد. ومحاولة التمرد على هذه المعوقات ضد التقدم العربي
تكررت منذ زمن بعيد وتبلورت رؤيتها من خلال المسار الثوري لثورة يوليو
بقيادة الزعيم عبد الناصر. ووقعت الردة التي سلمت الشعب العربي لبراثن
الإنفتاح الإقتصادي ليتحول إلى ضحية المطاحن الرأسمالية في حياة السوق
التي لا تقيم وزنا لحاجياته الحياتية.أن التحالف بين الإقليمية والتبعية
للدوائر الإقتصادية الرأسمالية قد أنهك الشعب العربي وجعل قدرة الأغلبية
على تأمين العيش الكريم تتقهقر إلى ما تحت حدود العجز.
فكانت إنتفاضة الشعب العربي في تونس نتيجة تغول نظام تخلل الفساد والقمع
أدق تفاصيله.إنطلقت إنتفاضة الشعب العربي في تونس رافعة شعارات المطالبة
بحقوق العيش الكريم حيث أن النظام الفاسد قد حرم الشعب حتى من إمكانية
استثمار الممكن من الموارد داخل الدولة الإقليمية. ثم تطورت الإنتفاظة
الشعبية لتطالب بإسقاط أعلى هرم السلطة إدراكا من الجماهير أن التغيير
مستحيل بدون هذه الخطوة.
وعندما نرصد تطور المطالب الشعبية سنتبين تطورا تدريجيا لدى الجماهير
الثائرة في فهم حقيقة المشكلات وتحديد الخطوات اللازمة لتقدم المسار
الثوري.هذا لا يعني أن المسار يحافظ على نفس وتيرة النجاح وإنما يعني أن
الوعي الثوري يتبلور تدريجيا من خلال أسلوب التجربة والخطأ الذي تسلكه
الجماهير العربية في غياب الأداة التنظيمية الثورية. وهذا يحملنا على
القول بأن ما نسميه بأخطاء الجماهير العربية في التسليم لبعض الخيارات هو
خطوة نحو المسار السليم. لأنه خطوة نحو المعرفة الجماعية للحلول السليمة
بدل أن يكون هناك إسقاط تعسفي لخيارات نعتبر أنها صحيحة وملزمة للجماهير
من باب الوصاية عليها.
أطلنا في تأطير الإجابة على السؤال ولكننا لم نجد سبيلا للحيلولة دون
ذلك . فما يقع تداوله من فهم للثورة يحدث إرباكا يجعل كل كلمة يمكن أن
نقولها عرضة لأن يفهمها كل فريق طبقا لخلفية فهمه للثورة.
خلاصة الأمرأنتفظت الجماهير العربية في تونس مطالبة بحقها في الشغل
والحياة الكريمة. وهي قد أدركت أن النظام "القديم" هو من حرمها هذه
الحقوق. وهو إدراك من خلال المعاناة الطويلة من خلال الإحتكاك المباشر
بالفساد الذي يسيطر على هذا النظام.وأدركت الجماهير أن من شروط الحيلولة
دون أن تتكرر هذه المعاناة أن تشارك بنفسها في تسطير وإدارة مسار النظام
الجديد. ففرضت العديد من أشكال التعبير والتنظم الشعبي كضمانة أولية
لذلك. وبذلك إرتفع منسوب التفاعل الاجتماعي بين مكونات الشعب ليثري الوعي
الشعبي ويغذيه على مستوى فهم المشكلات وتصور الحلول. ولكن الفساد ليس
العامل الرئيسي في حرمان الشعب من الحياة الكريمة. بل إن هناك تربة خصبة
لا ينقطع انتاجها للفساد مهما كانت حملات التطهير. ومن مكونات هذه
التربية يكون إقتصاد السوق أهم الشرايين التي تغذي نشأة الفساد.فهل وقع
التخلي عن هذا الخيار الاقتصادي المدمر لقدرات الشعوب؟ إلى حد الأن لم
يقع ذلك. بل إن القوى السياسية الرئيسية التي حققت نجاحا في إنتخابات
المجلس التأسيسي والتي تسيطر على مسار الدولة في
الوقت الراهن. هي قوى لا تخفي تبنيها الواضح لخيار السوق والنمط
الاقتصادي الليبيرالي. ولا تخفي أنها ستعتمد على تشجيع الاستثمار الخارجي
كأحد المرتكزات الرئيسية للنظام الاقتصادي في تونس.
لسنا نشك في أن مجرد إعتماد هذا الخيار الإقتصادي هو في حد ذاته إنقلاب
على المسار الثوري. لأننا لا نشك في أن الإقتصاد الليبيرالي أبعد ما يكون
عن القدرة على تلبية حاجيات الشعب المتجددة. هذا الخيار لا يضرب مطالب
العيش الكريم في مقتل فحسب بل إنه أيضا البوابة العريضة للتبعية
الاقتصادية والسياسية للدوائر الرأسمالية الاستعمارية في العالم. فهو
أيضا سيضرب السيادة الوطنية في مقتل.
ألا تلاحظون أن نفس الخيار يقع إعتماده من طرف القوى التي فازت انتخابيا
في الوطن العربي على إثر الاطاحة برأس النظام؟.
إن هذا التناغم يؤكد الإختراق الصهيوأمريكي للمسار الثوري العربي لتحويله
عن وجهته الشعبية الأصيلة.
غدا أو بعد غد سيكتشف الشعب العربي في تونس وفي غيرها من الأقطار أن هذا
الخيار الإقتصادي الليبيرالي قد حافظ على جوهر النظام الذي حرمه أبسط
حقوقه في العيش الكريم. وسيكتشف أن المسار الثوري قد توقف عند حدود
الإطاحة الشكلية بأعلى هرم السلطة وفرض هامش مغري من حرية الرأي والتنظيم
الحزبي والجمعياتي. وأن كل ذلك لا يتعدى أن يكون اللبنات الأولية للثورة
ولكنه لا يكفي لإكتمال الثورة,
.فكيف تكتمل الثورة؟
تتجه إلى الإكتمال بأن تحافظ على بعدها الإجتماعي. أي بأن تتقدم الجماهير
لبناء نظام للحياة يرصد حاجات الشعب ويوظف الامكانيات المتاحة من أجل
تلبيتها. ثم تدرك أثناء البحث المستمر للحلول لمشكلاتها أن في الوطن
العربي ما هو متاح من إمكانيات لتلبية حاجيات الشعب العربي كما يجب أن
يكون. وأن كل الجماهير العربية لها الحق في إستثمار كل هذه الإمكانيات من
خلال دولتها الواحدة. فتتحول إلى ثورة وحدوية. سيكتمل الوعي الثوري لدى
الجماهير العربية عندما تدرك تأثير وحدة الوجود القومي في مصيرها حتى في
أثناء تعاملها مع مشاكلها "القطرية" فتدرك أن الحل الجذري لمشكلاتها لابد
يكون قوميا.ذلك مستقبل الثورة كما نراه. وبقدر ما يتوفر التفاعل بين
أبناء الشعب العربي سيتطور الوعي الاجتماعي الوحدوي الذي سيدفع بالشعب
العربي إلى إستهداف السيطرة على كل إمكانيات الوطن العربي من أجل تقدمه
كما يجب أن يكون وليس بالفتات الذي تلقيه "الدول العظمى".
إن القوى الليبرالية بكل أطيافها ومن بينها القوى "الإسلامية" و التي
حققت نجاحا كبيرا في المعارك الانتخابية ستفقد تدريجيا إشعاعها الشعبي
إذا تمسكت بخياراتها. وستتحول إلى قوى شرسة خاصة بعد سيطرتها على مفاصل
الحكم في الدولة الإقليمية. ولن يكون هناك مفر من صراع شرس بينها وبين
القوى الشعبية الجديدة التي تتمسك بالخيار الاجتماعي الوحدوي. وسينمو هذا
الصراع متدفقا خلال شرايين وحدة الوجود القومي لينتهي بتشكيل المشهد
الأخير للحياة في الوطن العربي.
ذلك هو مستقبل المسار الثوري الذي لا يمكن أن نتناوله إلا قوميا ومن
منظور قومي عربي. وذلك هو المسار الثوري الأصيل الذي يجب أن تفديه القوى
الوحدوية الإجتماعية بكل إمكانياتها حتى لا يتم إبتلاعه نهائيا من طرف
الدوائر الإستعمارية متحالفة مع القوى الرجعية في الوطن العربي.
(3)
إعتراض يستحق الرد

يحدث الأن في في الوطن العربي أن القوى الإستعمارية تستعمل كل إمكانياتها
المادية والإعلامية والعسكرية لتحريف المسار الثوري نحو الإتجاه الذي
يحقق مصالحها في الوطن العربي. وقد حققت فعلا نجاحا على هذا المستوى.
ولم يتردد هذا التحالف الصهيوأمركي في إستعمال مباشر للقوة العسكرية من
أجل تحقيق أهدافه في ليبيا وهو لايزال يحاول ذلك في سوريا. تسانده في ذلك
ترسانة العملاء من أول الحكومات العربية إلى آخر النخبة السياسية
والثقافية والإعلامية.
وهكذا تحولت المطالب العادلة للشعب العربي في الحرية والكرامة إلى بوابات
لتدخل إستعماري ولتفتيت طائفي ولضرب آخر أنفاس المقاومة ضد العدوان
الصهيوني على الوطن العربي.
وقد أثار كل ذلك الرعب في النفوس والحسرة داخل الصدور الصادقة التي تتألم
وهي تشاهد الإجتياح المدمر لأمتنا العربية. ما أنتج فجوة بين إنتفاضة
الجماهير العربية وبين من يخافون على أمتنا من تنامي هذا الإجتياح
الإستعماري.
وتعالت أصوات الإعتراض على هذا الحراك الشعبي التلقائي الذي لا ينتبه إلى
مخاطر تركيع الأمة العربية وتدمير آخر قدراتها.
وهو إعتراض لا تشوبه شائبة الحرص على مستقبل أمتنا خاصة إذا صدر من
الذين قمعتهم هذه الأنظمة وشردتهم وسجنتهم وحرمتهم أبسط حقوق العيش
الكريم لمجرد الإختلاف بينهم وبينها.
ولكن..........

ـــ لنتفق أولا على أن هناك حالة تخلف تعاني منها الأمة العربية تحت ضغط
الأحتلال والإستبداد والتجزأة. إنه ليس فقط مجرد تخلف إقتصادي أو ثقافي
بل إن النظام الإقليمي العربي قد تجاوز كل الخطوط الحمراء على مستوى
القمع الأمني وعلى مستوى التنكر لكرامة المواطن العربي.هذا واقع نعرفه
منذ زمن طويل. ولا نعتقد أنه من الصدق في شيء أن نعتبر أن هناك قطر عربي
لم يعاني مشكلة الإستبداد والفساد.نحن إذا نؤمن بأن هناك ما يستوجب
إنتفاضة الشعب العربي ضد هذه الأنظمة. بل وعشنا نحرض على ذلك دهرا.
فلماذا يستاء البعض من هذا الحراك الثوري؟.هل مطلوب من الشعب العربي أن
ينتظر منا مشروع سياسي جاهز وتنظيم ثوري جاهز حتى يبدأ في التحرك الثوري؟
هل مطلوب من الشعب العربي أن يدرس النظريات الثورية ثم يتحرك؟.
طبعا لا.
بل إنني أعتقد أن كل خطأ في الحراك الثوري الشعبي نحن من نتحمل مسؤوليته.
لأننا لم نؤمن بقدرات الشعب العربي ولم نقم بإعداد أنفسنا كقوى فاعلة
للمساهمة في التأطير السليم للمسار الثوري العربي.
ما يجب أن ننتبه إليه هو أن الحراك الثوري العربي هو وليد وضعية تخلف بكل
ما يعنيه ذلك من قصور على مستوى الوعي السياسي الشعبي وقصور على مستوى
الخبرة السياسية والتنظيمية كنتيجة لسنين طويلة من التخريب الذي إستهدف
ضرب كل ما يمكن أن يمهد الطريق لمسار ثوري سليم.
الحراك الثوري هو وليد واقع متخلف وبالتالي سيحمل معه كل جوانب القصور
ليتحرر منها تدريجيا. وكذلك كانت كل الثورات في العالم. وكانت العقبات
التي يفرزها القصور الناتج عن الواقع المتخلف هي أكبر التحديات أمام كل
مسار ثوري. حيث لا يستطيع هذا المسار أن يتحرر تلقائيا وبضربة واحدة من
تأثير التخلف الذي إنطلق منه.لابد أن نفهم كل ذلك حتى لا نسقط في فهم
مثالي رومانسي للثورة وللمسار الثوري. وحتى نفهم سبب كل التشوهات التي
تصيب المسار الثوري وحتى نرصد التغييرات الإيجابية أثناء تطور المسار.
من ناحية أخرى لابد أن ننتبه إلى أن المسار الثوري يحدث فرزا مستمرا
للقوى بقدر تغلغله في الإشتباك بمشاكل الحياة اليومية. فالعديد من القوى
التي إندفعت في المسار الثوري في بدايته قد تتحول في محطات أكثر تقدما
إلى قوى معادية للمسار الثوري.
فالموقف من المشكلات سيحدث فرزا تدريجيا سينتهي بفرز القوى الطليعية ذات
القدرة النضالية التي تحمل المشروع السليم الذي يحيط بكل جوانب المشكلات
القائمة.
المهم أن هناك مسار ثوري شعبي كانت بدايته في تونس ولكنه تمكن من
الإنسياب داخل شرايين الوجود القومي نتيجة وحدة هذا الوجود . وهو مسار لن
يتوقف عند نتائج الحملات الإنتخابية. ولن يتوقف لمجرد أن القوى المعادية
لمصالح الأمة العربية قد إستطاعت تنظيميا وماديا أن تستقر على سطحه. فما
يهمنا هو التيار الجارف في العمق. إنه تيار البحث عن الحلول الحقيقية
لمشكلات التخلف العربي. وهو لن يتوقف لأنه لا يرتبط بالخطب والمواعظ
الدينية والسياسية عموما. ولا يتوقف عند النتائج الإنتخابية. ولا يرتبط
بالعدوان الإستعماري. بل إنه يرتبط بالمشكلات اليومية حيث العجز عن تأمين
الحياة الكريمة وحيث المعاناة من الفساد في مختلف مفاصل إدارة الدولة.
ونحن ندرك أن هذا التيار سيستمر جارفا ولو بمنسوب متغير مادامت مشكلة
التخلف مستقرة في أدق تفاصيل حياة المواطن العربي البسيط.كل القوى
المعادية للأمة وعلى رأسها الإدارة الأمريكية والصهيونية لا نتوقع منهما
أن تقف موقف المراقب المحايد لهذا التيار الثوري. ومن الغباء أن ننتظر
منهم ذلك. ويكون من الغباء أن نشكك في هذا التيار الثوري لمجرد أن أمريكا
تحاول ترويضه لصالحها.
المشكلة ليست في هذه القوى المعادية فهي تتصرف على ضوء مشروعها المعادي
الذي تستميت في الدفاع عنه. وإنما المشكلة فينا نحن لأننا لم ندرك إلى حد
الأن حجم الطاقة الثورية التي تنساب تلقائيا في الوطن العربي. فلم ندرك
أننا لو إجتهدنا لعرفنا كيف نستفيد منها لإعطاء دفع قوي لمشروعنا
السياسي.أما الأمريكان فقد أدركوا جيدا هذا الحجم وهذه القوة فأسرعوا نحو
تطوير آليات الإستفادة. وللأسف هي إفادة للعدوان وليس لمصالح الأمة. إلا
أن ذلك لا يعني أن نتنكر لحق الشعب العربي في الإنتفاضة ضد الإستبداد
والفساد فهذا حقه لا ينكره إلا المعتدون. والأولى بنا أن نستكشف ملامح
قصورنا حتى نستطيع إفتكاك المسار الثوري من كماشة القوى المعادية للأمة.

فالنأخذ ليبيا كمثال.
في ليبيا وقع خنق المسار الثوري منذ بدايته فالقوى الرجعية متحالفة مع
القوى الإستعمارية إستطاعت منذ البداية أن تسيطر على المشهد وتشل المسار
السليم.
ونقصد بالمسار السليم أن تقع المحافظة على ما تحقق من مكتسبات وفي نفس
الوقت تحرير المجتمع من القيود التي تعيق تقدمه وتطوير مكتسباته.
المهم أن السيطرة على المسار والإنحراف به قد وقع منذ بداياته المبكرة.
وأن ساحة ليبيا تحولت إلى ملحق سياسي وإقتصادي للدوائر الإستعمارية.
وبذلك وقع ضرب الشريان الذي كان يمكن أن يربط بين المسار الثوري في تونس
وفي مصر. لإدراك الغرب أن ترك الأمور تسير تلقائيا ممكن أن يفسح المجال
لحالة تفاعل ثوري تمتد من تونس إلى مصر ستفضي إلى نواة قاعدة ثورية تمثل
خطرا كبيرا على مصالحهم في الوطن العربي.وتلك من أهم الضربات الهدامة
للمسار الثوري العربي التي يمكن أن تفقده فرصة ثمينة لإنتاج حالة ثورية
وحدوية.إلا أننا نؤمن بأن الأمر لن يستقر على ماهو عليه في ساحة ليبيا بل
إن نواة مقاومة ثورية ستتشكل تدريجيا مثل كرة الثلج بقدر إدراك الشعب
لهمجية الهيمنة الإستعمارية الداعمة للنظام الجديد ببعده القبلي وبعده
الديني المتطرف. وسيعود المسار الثوري متدفقا من جديد في شكل مقاومة
شعبية ليس إنتصارا لأمجاد النظام القديم ولكن إنتصارا للأبعاد الحقيقية
التي تستهدفها الثورة.كل ذلك سيؤثر في ما يجري ليس في تونس فقط بل في كل
الوطن العربي. لأننا سنكون بصدد الحديث عن جبهة جديدة للمقاومة الشعبية
ستفرض على القوى و الأنظمة العربية إتخاذ موقف المعادات أو المساندة لهذه
المقاومة بكل ما سيترتب عن ذلك من تشكل بنية علاقات وخطط سياسية لا يمكن
الإفلات من التموقع في أحد مستوياتها.
(4)
المستقبل؟
ـــ كثير هو الكلام الذي نود أن نقوله للناصريين في الوطن العربي ونحن
نتحدث عن المستقبل ولكننا نريد الإكتفاء بمربط الفرس في الأمر كله.نريد
أن نقول كما قلنا دائما أن المشروع الناصري هو مشروع قومي إشتراكي. هذا
لا نختلف فيه وقد نختلف في غيره من التفاصيل. ولكن الإيمان بذلك لن
يفيدنا إذا تحول إلى مجرد ترانيم أو تراتيل يومية. فالمشروع الناصري لا
يمكن أن ينهض نضاليا إلا بقدر ما نجسد البعد القومي والبعد الإشتراكي في
إشتباكنا بالواقع العربي.فبقدر ما نفهم واقعنا قوميا وبقدر ما نبني
مؤسساتنا قوميا وبقدر ما نلتحم بمشاكل المواطن العربي ونصارع الخيارات
الرأسمالية إنتصارا لرؤيتنا الإشتراكية. بقدر ما نستطيع الإستمرار نضاليا
وشعبيا.كل المقاربات حتى البراغماتية منها تشير إلى ضرورة العمل على
الإلتحام قوميا. مطلوب بناء مؤسسات وأطر عمل مشترك قوميا. حتى نتمكن من
حشد إمكانياتنا في مسار نضالي مشترك.هذا لا يعني التقليل من دور الأدوات
النضالية القطرية. بالعكس. هي أدوات مطلوبة لإستمرار الإشتباك ضد أعداء
الأمة. ولكننا سنواجه العجز والحصار بقدر إكتفاءنا بهذه الأدوات وعدم
تطلعنا فكرا وعملا إلى بناء المؤسسات القومية التي تكملها وتضيف إليها ما
يضخ الطاقات المتجددة فيها.في الأخير أود أن أقول أنني على يقين بأننا
على مشارف صراع مرير بين الخيار الثوري السليم وبين الخيارات المعادية
سيمتد على كامل الوطن العربي. فعاجلا أم آجلا ستفرز الخيارات وستفرز
القوى. وستتحول القوى المعادية للخيار القومي الإشتراكي إلى آلات حرب
ستهاجمنا بكل شراسة.
فهل سنعد أنفسنا لهذه المعركة أم أننا سنكون ساحات سهلة الإحتلال من طرف
أعداء الأمة؟


--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To post to this group, send email to alfikralarabi@googlegroups.com.
To unsubscribe from this group, send email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
For more options, visit this group at http://groups.google.com/group/alfikralarabi?hl=en.

No comments:

Post a Comment