سمير كرم
الوضع في مصر بالغ الخطورة، ومع قليل من الوعي بالاحتمالات المتفجرة فإنه يدعو لقلق لم يسبق له مثيل منذ زمن بعيد، ربما منذ اكثر من ستين عاماً.
الاحتمالات المتفجرة تلوح من قريب وليس من بعيد، بسبب الوضع الصعب الذي اسفرت عنه نتيجة الانتخابات التي لا نعتقد ان الممسكين بالسلطة وصانعي القرار لديهم اي استعداد لتخفيف وطأته على الشعب الذي وجد نفسه ينتقل من وضع مشحون بالأمل وسط التجربة الديموقراطية الجديدة الى وضع مشحون بالخطر. على رأس المخاطر انتشار السلاح بأنواعه ودرجاته، وبالتالي ارتفاع احتمالات استخدامه.
ولا يستطيع احد ان يلوم الشعب المصري اذا ادى اهتمامه بوضعه الداخلي الى إبعاد اهتمامه وإطفاء حساسيته المعتادة عن الوضع الخارجي العربي والاقليمي بشكل خاص. مع ذلك فلا بد من التنبيه الى ان الوضع القومي والاقليمي مشحون بدوره بكل اشكال الخطورة ودرجاتها، الى حد يزيد من خطورة كل من الوضعين الداخلي والخارجي. ولو اننا تصورنا في اللحظة الراهنة ان الشعب المصري سيجتاز الموقف الصعب الذي وضعته فيه نتيجة انتخابات الرئاسة وانه سيمضي قدماً الى اختيار رئيس، اما ان يكون تجسيداً لحلم الإخوان المسلمين بالسلطة او تجسيداً لمؤامرة قوى فلول النظام القديم، فإننا لا بد ان نتنبه الى ان الرئيس المصري القادم سيجد نفسه تحت حصار اقليمي من ازمات لم يسبق لها مثيل، منذ زمن ثورة تموز /يوليو 1952، ولا تستطيع مصر ولا تطيق ان تجد نفسها محاصرة بأزمات في الوضع العربي والإقليمي تزيد في عزلتها. يحدث هذا في وقت كانت ثورة 25 كانون الثاني / يناير 2011 قد هيأت مصر لاستعادة دورها ومكانتها في الوطن العربي وفي إقليم الشرق الأوسط بأكمله.
ما نود ان نقوله من دون مقدمات ان الرئيس المصري الجديد، أياً كان وأياً كانت اتجاهاته، سيجد نفسه تحت حصار من القوة العالمية الاكبر ـ الولايات المتحدة الاميركية ـ والقوى العسكرية التي تتحرك وتنقض بإشارات منها، وهي حلف الاطلسي (الناتو) يحيط به من ناحية سوريا، البلد العربي الاقرب الى مصر سياسيا واستراتيجيا وان لم يكن الاقرب جغرافياً، ويحيط به من ناحية ايران، وهي القوة الاقليمية التي اثبتت قدرتها على ان تكون في مواجهة استراتيجية وسياسية ضد اسرائيل، وذلك طوال السنوات الثلاثين التي عزل فيها نظام مبارك مصر قومياً وإقليمياً. يضاف الى ذلك ما حدث من محاصرة مصر بما جرى في تونس وليبيا وفي السودان وفي اليمن.
اننا اذا فتحنا عيون اليقظة في مصر على ما هو منتظر من احداث في المنطقة حول مصر نستطيع ان نستنتج من دون عناء ان تحركات الولايات المتحدة بواسطة حلف الاطلسي، القوة العسكرية الأضخم في العالم، تتجه نحو تدخل مباشر في سوريا. وقد يبدو على السطح ان هذا التدخل في سوريا يمكن ان يكون خطوة تلقى الترحيب الرسمي، باعتبار ان في سوريا ثورة، وان اميركا اصبحت نصير الثورات العربية الأول وربما الأخير. غير ان غوامض الموقف السوري تتفجر باحتمالات لا تقل خطورة عما جرى في ليبيا وما جرى في السودان وما لا يزال يجري في اليمن. واذا اعتبرنا ان ما جرى في ليبيا هو ثورة فيمكن ان نقع في الخطأ نفسه ونعتبر ان ما يجري من تدمير لإمكانات سوريا هو الآخر بمثابة ثورة. وقد لا ندرك ان الحقائق تختلف عن ذلك، الا بعد أن تكون الولايات المتحدة قد فرضت وجودها الاطلسي على سوريا، وتكون اسرائيل قد اطمأنت الى ان ثورة سوريا لم تقصدها بأي حال.
ماذا تستطيع مصر وماذا يستطيع رئيسها الجديد ان يفعل ازاء تدخل اميركي ـ اطلسي في سوريا؟ وماذا تستطيع مصر وماذا يستطيع رئيسها الجديد ان يفعلا ازاء هجوم يبدو حتمياً ضد إيران مع مضي كل يوم ومع اتضاح خطوات اميركا باتجاه سوريا؟
ماذا يمكن ان يكون دور مصر القومي ازاء احداث تبدو قادمة في سوريا؟ وماذا يمكن ان يكون دور مصر الاقليمي ازاء ضربات تبدو حتمية من جانب اميركا واسرائيل ضد ايران بهدف شل قدرة ايران على ان تكون قوة مناهضة لاسرائيل في المنطقة؟
قد لا نستطيع الإفلات من الاستنتاج بأن المشروع الجديد لأميركا باستخدام قوة الاطلسي الحربية هو السيطرة على الشرق الاوسط العربي والاقليمي بما في ذلك مصر، قبل ان يصبح بإمكان الثورة المصرية ان تقوم برد فعل من اي نوع وبأي درجة إزاء الاحداث المحيطة بها. والاحرى ان نقول، قبل ان يصبح بإمكان مصر الثورة ان تتجمع وأن تحشد قوتها وقدرتها على أداء دور مصر القومي والاقليمي. ولقد سارت الاحوال في مصر في الايام والاسابيع والاشهر الاخيرة باتجاه يوافق الخطط الاميركية من دون حاجة الى تدخل اميركي او اطلسي مباشر في مصر. فان انشغال مصر بثورتها وبقضية الديموقراطية باعتبارها طريق الثورة الجديد الى التغيير جعل اميركا والاطلسي في غنى عن تدخل مباشر في مصر لأن التدخل المباشر في بلد بحجم مصر الجغرافي والسكاني في الظروف الاقليمية الراهنة من شأنه إرهاق الامكانيات الاميركية والاطلسية الى حد يؤثر سلباً على خطط التدخل في سوريا وخطط توجيه الضربات المباشرة الى ايران. ولا يعني هذا ان ايدي التدخل الاميركي والاطلسي بعيدة تماما عن الشأن المصري. ان الولايات المتحدة ترقب باهتمام لم يسبق له مثيل ما يجري في مصر وليس هناك ما هو اوضح من اتقان اميركا بمجريات الامور في مصر في الفترة القصيرة الاخيرة. ونخطئ كثيرا اذا تصورنا ان اميركا تقصر دورها على مراقبة الانتخابات الرئاسية المصرية. فالحقيقة انها ترقب كل خطوات صانعي القرار المصري في هذه الظروف الدقيقة. وهي لم تكف عن اجراء الاتصالات المباشرة التي تكفل هذه المراقبة للقرار المصري قبل صدوره وردود الفعل الداخلية بعد ذلك. وتجري هذه الاتصالات الاميركية بدقة واهتمام مع السلطات التنفيذية وايضا مع السلطات التشريعية. والامر المؤكد ان الادارة الاميركية لم تخف عن صانعي القرار في مصر اغتباطها بأدائهم، حتى حينما كان رأي الجماهير الشعبية المصرية ان مصر اتجهت نحو مأزق انتخابي بالغ الخطورة. ولهذا لا نبعد عن الحقيقة بأي مسافة اذا قلنا ان التطورات الاخيرة في مصر توافق تطلعات الولايات المتحدة، ليس فقط بالنسبة للوضع الداخلي المصري، انما ايضا بالنسبة لاحتمالات الموقف المصري من التطورين الخطيرين اللذين تدفع اميركا باتجاههما: التدخل الاطلسي المباشر عسكريا في سوريا من ناحية، ومهاجمة ايران في تنسيق اميركي اسرائيلي صريح وغير مسبوق. وليس هناك ما هو انسب للخطط الاميركية في هذين الاتجاهين من غياب دور مصري في الحالتين. ولا يخفى على الولايات المتحدة او الحلف الاطلسي او عن اسرائيل ان غياب الدور المصري الى حد يصل الى نقطة الصفر، يعني غياب الدور العربي الى الحد نفسه.
لهذا لا بد ان نضع في الاعتبار ان الوضع الخارجي المحيط بمصر قوميا واقليميا اخطر بكثير من الوضع الداخلي الذي اسفرت عنه انتخابات الرئاسة. ولأن احتمالات التغيير في الوضع الداخلي تبدو منعدمة تماما، كما يبدو ان الولايات المتحدة ستبدي اقصى درجات الحرص على ان يبقى على هذا الحال، فإن مصر ستجد نفسها تحت حصار قومي وإقليمي غير مسبوق. وستجد نفسها مضطرة الى التزام الصمت ازاء تطورات تمسها وتمس دورها بل مصالحها على الصعيد القومي والاقليمي. وما من شك في ان هذا الوضع المتوقع وضع خانق لمصر في ظروفها الراهنة وفي وقت كانت ثورتها قد جعلت آمالها تتفتح على افضل الاحتمالات داخلياً وخارجياً. ومن الخطأ ان يذهب بنا التصور الى ان للصدفة دوراً في هذه التحولات المصرية والقومية والاقليمية. الصدفة ليست من القوى الموجهة للخطط السياسية على صعيد قطري او قومي او اقليمي او على اي صعيد. واذا لم نستطع ان نرى الخطوات الاميركية في المنطقة بتوجيه من المصالح الاسرائيلية للهيمنة والتوسع فإننا سنعجز عن التحرك لمقاومة هذا التدخل الواسع في أخطر أبعاده.
ماذا تستطيع مصر في ظروفها الحرجة الراهنة ان تفعل ازاء تزايد الوجود الحربي الاطلسي في بلدان الخليج قريبا من سوريا ومن ايران؟ وماذا تستطيع مصر ان تفعل ازاء تصميم الولايات المتحدة على إفشال المفاوضات الجارية بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الامن بالإضافة الى ألمانيا مع ايران؟ إن الولايات المتحدة تخوض هذه المفاوضات بإصرار قوي على رفض شرط ايران المنطقي والواضح بضرورة إلغاء العقوبات المفروضة عليها قبل الدخول في اي اتفاق يقضي بأن توقف إيران تجاربها على الطاقة النووية عند حدود معينة تضمن عدم استخدامها للتطبيقات العسكرية. المعنى الوحيد لهذا السلوك الاميركي ان واشنطن انما تريد اتاحة الفرصة لهجوم اميركي و/أو إسرائيلي على إيران.
وتحظى الولايات المتحدة ويحظى حلف الاطلسي بموافقة دويلات الخليج وبصفة خاصة موافقة العربية السعودية على تنفيذ الخطط الاميركية ضد سوريا. بل ان السعودية تبدي في الآونة الاخيرة توتراً عصبياً صريحاً ازاء تأخر الاطلسي في انهاء الازمة السورية. كما تبدي كل من قطر والامارات العربية ضيقاً بتأخر اميركا/اسرائيل عن توجيه الضربات المنتظرة ضد ايران. وربما يكون بالامكان عند هذه الحدود ان نستنتج ان دويلات الخليج تريد ان يبرز دورها في غياب الدور المصري وضد اتجاهه الافتراضي. وقد ابدت هذه الدويلات حسن نيتها ازاء الخطط الاميركية ضد سوريا وايران بجعل اموالها النفطية متاحة بالمليارات للولايات المتحدة ولحلف الاطلسي للقيام بأدوارهما الجديدة في المنطقة، باعتبار ان هذه الادوار الجديدة هي التي تضمن إبعاد أشباح الاخطار المهددة لنظم الحكم الملكية.
تتحدث مصادر الاعلام الغربي عن صفقة لا تزال في نطاق السرية بين ممالك الخليج النفطية والولايات المتحدة تهدف الى زيادة سعر برميل النفط الخليجي الى 100 دولار. الصفقة المتوقعة قبل نهاية العام ترمي الى إلحاق الضرر المالي بالصين التي تستورد معظم حاجتها الى الطاقة من نفط الخليج، وذلك لعرقلة الصين عن بلوغ هدف تخطي الولايات المتحدة اقتصادياً قبل حلول عام 2020.
ولكن هذه الصفقة تغفل حقائق كثيرة تقف في طريق تنفيذها، أهمها ان اضرارها تتجاوز الصين الى مصر والهند وعدد كبير من بلدان العالم الثالث. مع ذلك فإن المصادر نفسها لا تحيد عن تأكيداتها بأن الصفقة ستوضع موضع التنفيذ لأن مصلحة الولايات المتحدة في المرحلة الحالية تتفق اتفاقاً كلياً مع مصلحة ممالك الخليج النفطية.
ترى كيف سيواجه الرئيس المصري المقبل المصاعب التي تضعها الولايات المتحدة في طريق مصر؟
بل السؤال هو من يسبق الى وضع اليد على القرار المصري: الولايات المتحدة او الثورة المصرية التي لا تزال تلوح قريبة في الشارع المصري حتى وإن خسرت المعركة الانتخابية؟
كاتب سياسي ـ مصر
No comments:
Post a Comment