Saturday, 26 April 2014

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: الانبطاح لن يأتى إلا بمستثمرٍ فاسد


الانبطاح لن يأتى إلا بمستثمرٍ فاسد
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 26/4/2014)
 
إذن حُمّ القضاءُ وصدر قرار رئيس الجمهورية بقانونٍ يقصر حق الطعن على عقود الدولة على طرفىْ العقد فقط .. بل ويُلغى تلقائياً أى أحكامٍ أصدرتها محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة ولم تُصدر المحكمة الإدارية العليا حكمها النهائى فيها بعد، ويمنع مجلس الدولة من الاستمرار فى نظر الدعوى.
لم أتوقع أن يصل الانبطاح أمام لوبى الفساد لدرجة التعدى على الحق الدستورى للمواطنين أصحاب هذا المال العام فى الدفاع عنه (مادة 34) وحقهم فى التقاضى (مادة 97) وتقييد عمل مجلس الدولة وهو هيئةٌ قضائيةٌ مستقلة (مادة 190).
يا إلهى! تسقط الأنظمة العتيدة فى مصر واحداً تلو الآخر ولا يسقط هذا اللوبى المتوحش من مصاصى الدماء الذين لا يشبعون من المال العام .. تحلقوا حول ابن مبارك فى السنوات الأخيرة من حكمه وعاثوا فى الأرض فساداً وراكموا ثرواتهم من المال الحرام وكانوا عورته التى أثارت الشعب عليه فسقط مبارك ولم يسقطوا هم .. ثم غيّروا ملّتهم السياسية مع مجئ الدكتور مرسى وقفزوا برشاقةٍ يُحسدون عليها على أكتاف نظامه إلى أن سقط مرسى ولم يسقطوا هم .. وهاهم يتكالبون على متخذى القرار فى النظام المحترم الذى ارتضاه المصريون بعد 30 يونيو ويدفعونهم لإصدار هذا القانون المعيب وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا .. وأخشى أن يكونوا نذير شؤمٍ على الرئيس القادم الذى تتعلق به آمال المصريين مالم يفطن إلى خطرهم ويغسل يديه منهم.
ليس سراً أن ضربة البداية فى هذا القانون اللامعقول جاءت فى اجتماع مجلس رجال الأعمال المصريين مع نظرائهم (أو شركائهم) فى دولةٍ عربية .. فضفض فيه أحد هؤلاء بما يتصوره جاذباً لأمثاله، ولا أعتقد أنه تصور أن مثل هذه الفضفضة يمكن أن تتحول إلى واقع .. بل لعله توقع أن يلومه نظراؤه (أو شركاؤه) المصريون على جرأته على القضاء المصرى .. فإذا بهم يتلقفون هذه الهرتلة ويرددونها فى القاهرة على استحياءٍ فى البداية، ثم بدأ صوتهم يعلو رويداً رويداً بمصاحبة فرقةٍ موسيقيةٍ كاملة تعزف فيها صحفهم وقنواتهم لحناً جنائزياً، مع حملة ترويعٍ ممنهجة من تحكيماتٍ دوليةٍ فى انتظارنا بمئات المليارات من الدولارات (هكذا) يؤكدها أحد خبرائهم الذى اشتهر بقدرته على إطلاق مائة رقم فى الدقيقة بغضّ النظر عن صحتها.
وإذا بوزير الاستثمار الذى اشتهر بأنه لم يوقع قراراً طوال فترة استوزاره، بما فيها القرارات الروتينية لدرجة أن الاحتجاجات العمالية التى ملأت الشركات التابعة له كان يتطوع وزير القوى العاملة كمال أبو عيطة بالتفاوض لحلها بدلاً منه .. إذا بهذا الوزير يعلن فى استعجالٍ شديدٍ عن مشروع هذا القانون العجيب قبل استقالة الوزارة والوزير بأيام، ويأخذ مشروع القانون دورته التى اكتملت بتوقيع رئيس الجمهورية عليه.
كنا نحسب أن الرئيس سيترك أمر هذا القانون للرئيس والبرلمان المنتخبين القادمين، لكن يبدو أن اللوبى المشار إليه قد أقنعوه بسرعة إصداره لجذب خيرٍ عميمٍ لن ينتظرنا عدة شهور .. أو لتجنيب البلاد ويلاتٍ رهيبة ستحيق بنا مالم يصدر الآن وفوراً .. أما وقد صدر القانون فليسمح لى القارئ بالملاحظات التالية:
1 – إن القول بأن السبب وراء القانون هو سوء استغلال حق التقاضى، مردودٌ عليه بأن ساحات القضاء العادى تعج بالعديد من البلاغات الكيدية أو الباحثة عن الشهرة الإعلامية فهل يكون الحل هو حرمان الجميع من حق التقاضى؟ أم يُترك الأمر كما يحدث الآن للنيابة التى تحفظ البلاغ أو تحيله للقضاء الذى يرفض بدوره الدعوى غير الجادة أو يحكم فيها؟ هذا ما يحدث فى القضاء العادى فلماذا لا نترك لمجلس الدولة أيضاً الحق فى تقدير جدية البلاغ والاستمرار فى الدعوى أو رفضها؟ مع تشديد العقوبة على من تثبت كيدية دعواه.
2 – توحى الهجمة الممنهجة بأن مجلس الدولة أعاد مئات الشركات المخصخصة وأنها كلها ستُنظر فى التحكيم الدولى الذى سيديننا فيها جميعاً .. وهو أمرٌ مُجافٍ للحقيقة .. بينما الحقيقة أنه من بين مئات البيوعات التى تمت لم يحكم قضاء مجلس الدولة إلا ببطلان عقود ست شركات فقط هى عمر أفندى وطنطا للكتان وغزل شبين الكوم والمراجل البخارية والنيل لحليج الأقطان والعربية للتجارة، بينما حكم بصحة عقود أخرى كان آخرها شركة بنى سويف للأسمنت منذ أسابيع قليلة.
3 – إن رجل الأعمال الذى يشترط تقليص سلطة القضاء لن يأتى فى الأرجح إذا انبطحنا له وإنما سيطالبنا بمزيدٍ من الانبطاح ..  وسيذهب باستثماراته كما اعتاد إلى البلاد التى تحترم قضاءها ومواطنيها.
4 – إن هذا القانون يفترض أن موظفى الدولة القائمين بصياغة وإبرام التعاقدات هم مجموعةٌ من الملائكة الأطهار الذين لا يخطئون وإن أخطأوا سيقومون بالتكفير عما اقترفوه بالطعن على أنفسهم أو سيقوم شريكهم فى الفساد بهذه المهمة .. وهو افتراضٌ استهبالى .. ولنأخذ مثالاً صفقة عمر أفندى .. وهى فاسدةٌ فاسدةٌ فاسدةٌ .. هل يتخيل عاقلٌ أن يُقصر حق الطعن عليها على طرفيها وهما الدكتور/ محمود محيى الدين وجميل القنيبط ؟!!
5 – لم يجرؤ أحدٌ حتى ممن هللوا لهذا القانون على القول بصحة العقود التى حُكم ببطلانها وإنما يطالبوننا بالطرمخة على الفساد خوفاً من تحكيمٍ سنخسره حتماً (لماذا؟!) أو لتدليل مستثمرٍ يتشرط علينا ولا ضمان لمجيئه.
6 – فى الوقت الذى تُنصبُ فيه المشانق وتُوجه سهام اللوم للمواطنين الذين رفعوا الدعاوى التى كشفت الفساد وللقضاة الأجلاء الذين حكموا بذلك، فإن أحداً لم يُحاسب الذين صاغوا هذه العقود المجحفة وأنفذوا هذه البيوعات الفاسدة التى أهدرت أموال المصريين .. بل وصلت المهزلة إلى حد أن الذين باعوا ظلوا فى مواقعهم وكانوا يطعنون باسم الدولة على أحكام رد الشركات (لأنها تدينهم).
7 – إن هذا القانون صدر ليسقط وسيسقط حتماً لأنه ضد الفطرة وضد النزاهة وضد مصر .. التاريخ يقول لنا هذا .. وهل نجحت الترقيعات الدستورية الأربعة والثلاثون وعلى رأسها المادة 76 فى توريث الحكم لجمال مبارك؟ لقد سقط نظام مبارك وابنه وسقط الدستور نفسه.
8 – لا يتصورّن أحدٌ أن مثل هذا القانون ولا ألف قانون غيره سيحمى صفقةً فاسدة أو سيفتُّ فى عضدنا .. سنقاوم كما قاومنا من قبل .. الفساد تسقطه روائحه قبل أحكام القضاء .. المؤسف أننا كنا فى غنىً عن كل هذا لنتفرغ للبناء.
9 – إن المستثمرين الجادين يتدفقون على الدول المستقرة ديمقراطياً، تلك التى يُصان فيها استقلال القضاء وتُحترم أحكامه .. أما الدول المستقرة استبدادياً ولا يُصان فيها استقلال القضاء فيرتعُ فيها المستثمرون الفاسدون الذين لا يفيدون الدولة بشئٍ بل إنهم يُفسدون على المستثمرين الجادين مناخ العمل.
10 -  إن مصر مليئةٌ بالمستثمرين الجادين من المصريين والعرب الذين ينشرون الخير ولا يمّنون علينا .. بل إن بعضهم تحمّل ولا يزالون بعض المضايقات السياسية ولم يغادرونا أو يتشرطوا علينا أو يتطاولوا على قضائنا .. علينا أن نؤمن أمثال هؤلاء من أخطار التأميم والمصادرة إلا بحكمٍ قضائى  وعلينا أن نُحسّن لهم مناخ الاستثمار .. أما الفاسدون المتعجرفون فلا أهلاً بهم ولا سهلاً ولا خيرَ يُرجى منهم.
 11 – قالت العربُ إن الحرة لا تأكل بثديها .. ومصر قد اعتادت أن تتضور جوعاً ولا تُفرّط فى استقلالها ولا استقلال قضائها .. وتحفظ الجميل لمن يشاركونها محنتها المؤقتة ولا يتشرطون عليها.
 

No comments:

Post a Comment