Friday 12 August 2016

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: آسِفون يا طلعت حرب

آسِفُون يا طلعت حرب
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
الأهرام 13 أغسطس 2016

لعله الخجلُ لا الإهمال هو الذى حالَ دون احتفال مصر باليوبيل الماسى لذكرى واحدٍ من البنَّائين العظام في تاريخها .. طلعت حرب الذى تمر اليوم (13 أغسطس) خمسٌ وسبعون سنة على وفاته .. وهى مناسبةٌ كانت جديرةً بأن يُحتفلَ بها الاحتفال اللائق على كافة المستويات باستخلاص الدروس والتأكيد على فكر ونهج هذا العاشق الحقيقى الذى لم يكتفِ بالكلام وإنما ترك لنا إرثاً عملياً يؤكد أن الاستطاعة ممكنةٌ إذا كانت الإرادة والعلم والعمل موجودين .. إذ لم يكن وضع مصر أسوأ فى تاريخها الحديث من ذلك الوضع الذى حقق فيه الرجل معجزته.
لم يكن طلعت حرب رجلَ أعمالٍ أنانياً، وإنما كان اقتصادياً وطنياً ذا رؤية .. يتضاعف قدْرُه وقيمتُه إذا عايشنا الزمان والمناخ الذى بدأ فيه تحقيق حلمه ومعجزته بالمصريين ولهم.. كانت مصر في بداية القرن العشرين تحت احتلالين فى آنٍ واحدٍ .. إنجليزى فعلى وعثمانى رسمى .. وكانت البنوك الأجنبية تسيطر على اقتصاد مصر بالكامل، حتى إن الحكومة المصرية أودعت أموالها بالبنك الأهلى، وقد كان أجنبياً، مع علمها بأن البنك يرسل هذه الأموال للخارج.
لعل الكثيرين لا يعرفون أن جهاد الرجل بدأ مبكراً قبل ملحمة بنك مصر .. ففى 1910 تقدمت شركة قناة السويس بمشروعٍ إلى الحكومة المصرية لمد امتيازها على القناة 40 عاماً أخرى تنتهى سنة 2008 بدلاً من 1968 .. تَذَكَّرُوا أن ذلك كان فى 1910 .. كان فى الحكومة المصرية مَنْ تَحَمَّس للمد (دائماً هناك من يُفَرِّط) .. لكن معركةً مجيدةً شهدتها الصحافة المصرية لتوضيح الخسائر التى ستصيب مصر جرّاء مد الامتياز 40 سنة أخرى بعد انتهاء ال 99 سنة الأولى .. كان فى صدارة المعركة طلعت حرب (دائماً هناك من يقاوم) .. إلى أن سقط مشروع مد الامتياز الإضافى.
آمن الرجل بأن استقلال مصر يتحقق بمداخن المصانع قبل فوهات المدافع .. وأن نقطة البداية إنشاء بنكٍ مصري خالصٍ أكثر رحمةً بالفلاح المصرى من المرابين الأجانب .. وأخذ يطوف القرى والنجوع داعياً لبنك مصر وقوبل بالسخرية ولكنه لم ييأس .. واستطاع أن يقنع مائة وستة وعشرين من المصريين الغيورين من الأديان الثلاثة بالاكتتاب لإنشاء البنك الذى افتُتِح فى سنة 1920 .. وفى تسعة عشر عاماً فقط تحققت المعجزة، حيث أسّس بنك مصر واشترى خلال هذه السنوات القليلة حوالى 40 شركة ومصنعاً فى كافة المجالات .. وفقاً لأولوياتٍ مُحكمة ومخططة .. وبدراسات جدوى لم تترك شاردةً للظروف .. كان يقول: مَنْ حَسَب كَسَب .. لم يكن مصادفةً أن أول وليدٍ فى إمبراطورية بنك مصر كانت المطبعة مع تأكيدٍ من طلعت حرب على أن تكون القراءة بأيدينا لا بيد الأجنبي .. ودَعَّمَها بإنشاء شركة مصر لصناعة الورق .. ثم السياحة والمحالج والغزل والنسيج والصباغة والطيران والنقل والألبان والجلود والدباغة والمناجم والمحاجر والبترول والمستحضرات الطبية والتجميل وغيرها، حَمَلَت كُلُّها اسم مصر.
كانت مقولة الاستعمار المنتشرة وقتها (المصرى لا يعرف إلا الاستدانة) فبدأ البنك خطةً لتحفيز فضيلة الادخار لدى المصريين حتى الأطفال، إذ وزع البنك حصالاتٍ على تلاميذ المدارس الابتدائية يقوم بجمعها ويفتح بقيمة ما فيها دفاتر للتوفير للأطفال فزادت ودائع بنك مصر إلى أن أصبحت الأكبر مقارنةً بكل البنوك الأجنبية العاملة في مصر.
كان يؤمن بأن تجديد الاقتصاد في بلد زراعىٍ متخلفٍ لن يتم إلا إذا استنارت العقول بالأفكار الجديدة والثقافة الرفيعة، وكان يؤمن أيضاً بأن الثقافة استثمارٌ كبير وهو القائل (إن السينيما صرحٌ عصرىٌ للتعليم، لا غنى لمصر عن استخدامه في إرشاد سَوَاد الناس) .. لذلك أنشأ شركة ترقية التمثيل العربى وأقام لها مسرح الأزبكية (المسرح القومى حالياً) .. وأنشأ شركة مصر للتمثيل والسينيما (ستوديو مصر) .
تحل ذكرى طلعت حرب هذا العام فى سياقٍ مُعاكسٍ تماماً لفكره وسيرته .. تحل ذكرى مُنشئ بنك مصر بينما البعض يبشرنا ببيع البنوك كعلامةٍ على نضوج الاقتصاد ! .. تحل ذكرى منشئ ستوديو مصر في الأسبوع الذى أزيل فيه اسم سيدة الشاشة العربية من على إحدى المدارس .. تحل ذكرى الرجل الذى أنشأ بأموال المصريين امبراطوريةً صناعيةً وخدمية، وقد صار بيع المصانع والشركات هدفاً يُعَيَّنُ له وزراء .. وبينما عَظَّم الرجل معنى الادخار لدى المصريين حتى تلاميذ المدارس، تأتى ذكراه والبعض يروِّج للفوائد الجَمَّة للاستدانة! .. وبينما كانت معركة الرجل هى استقلال القرار الاقتصادى لمصر قولاً وفعلاً باعتباره الضمانة الرئيسية لاستقلال القرار السياسى الوطنى، تحل الذكرى والفضائيات ممتلئةٌ بمن يُعددون لنا مزايا الالتزام بتعليمات الصندوق.
فى العام القادم تحل ذكرى مرور مائةٍ وخمسين عاماً على مولد الرجل .. ندعو الله أن تجئ فى سياقٍ أفضل .. وأن تعتذر مصر للرجل بسياساتٍ تليق به .. وبها .. رحم الله طلعت حرب.


No comments:

Post a Comment