السُلَّم .. والثُعبان
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 27 أغسطس 2016)
من الأفراد والجماعات من يصعد بسُلَّمِ الديمقراطية إلى سُدَّة الحُكم، وما أن يذوق عسلَ السلطة حتى يتحرك ثعبانُ الطمع والغدر فى داخله فيركل السُلَّم كى لا يصعد إليها غيره .. مع أن العاقل مَنْ يعلم أن سُلَّم الديمقراطية ليس مجرد وسيلةٍ للصعود وإنما هو أيضاً وسيلةٌ للنجاة عند الفشل أو تَغَيُّر مزاج الناخبين أو انقضاء المدة التى يحددها الدستور .. لذلك تمتلئ البلدان الديمقراطية بالرؤساء السابقين الذين تركوا الحكم بنفس الوسيلة التى صعدوا بها، بينما الدول الاستبدادية لن تجد فيها حاكماً سابقاً .. لن تجد إلا حاكماً سَرمَدياً أو محبوساً أو معزولاً أو مسحولاً .. لا يكاد الواحد منهم يجلس على كرسى الحكم إلا ويحلو في عينيه ويبدأ في التحايل للالتصاق الأبدى به عبر إعلانٍ دستورى أو دستورٍ إعلانى (أى مُحتَقَر لا قيمة له) .. وينشط منافقوه ودراويشه وزبانيته فى تدشين حفلات المبايعة الممجوجة .. وحرق أى بدائل محتملة .. بالتشويه والتخوين والتسفيه والقتل المعنوى .. وهو على الأقل أفضل من القتل المادى الذى يمتلئ التاريخ بأمثلةٍ شنيعةٍ له، لعل أكثرها مأساوية هو ما فعله محمد الثالث (أحد سلاطين الدولة العثمانية) الذى تولى الحكم عام 1595 م وهو في التاسعة والعشرين عقب موت أبيه، وقبل أن يدفن أباه قتل إخوته الذكور كلهم وكان عددهم تسعة عشر أخاً فضلاً عن عشراتٍ من زوجات وجوارى أبيه الحوامل في بدلاء محتملين .. المفاجأة التى لا مفاجأة فيها أن قتل البدائل لم يضمن له (ولا لغيره) أبدية المنصب فقد مات بعد ثمانى سنواتٍ فقط وحَلَّ محلَّه مستبدٌ آخر.
عودة إلى سُلَّم الديمقراطية وثعبان الحكم الفردى الكفيل بإسقاط الدول .. ليست فقط دول العالم الثالث كالعراق وليبيا .. وإنما يحضرنى نموذج ألمانيا هتلر فى مقابل نموذج بريطانيا تشرشل.
صعد هتلر إلى مقعد الحكم بِسُلَّم الديمقراطية إلا أنه سرعان ما رَكَلَه وأطاح بكل منافسيه (بل وحلفائه) وحوَّل الدستور إلى خرقةٍ لا قيمة لها .. وجمع فى يده كل السلطات.. وطغى صوت دراويش الزعيم المُلهَم على الأصوات العاقلة التى حذَّرت من عاقبة هذا الطريق .. واتُهِم كلُ صوتٍ مختلِفٍ بالعمالة والخيانة .. وشيئاً فشيئاً كَبَّل الخوفُ شعباً متعلماً كالشعب الألمانى وحَوَّل الصوتُ الواحدُ دولةً عُظمى بِوَزن ألمانيا إلى نسخةٍ شبيهة بعراق صدام أو ليبيا القذافى أو أى ديكتاتوريةٍ من الديكتاتوريات التى عرفها عالمنا الثالث فيما بعد .. فالفاشية مِلَّةٌ واحدة .. كان هتلر يُحِبُ بِلادَه بلا شك .. ولم يكن حاكماً فاسداً .. ولكنه أصبح حاكماً مستبداً فكان ذلك وحده كفيلاً بأن يحَوّل الانتصارات الكاسحة التى بدأ بها عهده إلى هزائم كاسحة .. إذ عندما اتخذ قراره الكارثى بفتح جبهة قتالٍ مع روسيا لم يكن قد بقى إلى جواره مستشارٌ أمينٌ واحدٌ ينبههه إلى خطأ ما يفعل .. كان قد استبعد كل أولئك ولم يبق إلى جواره إلا حاملو الدفوف والمباخر المسبحون بعظمته .. وهؤلاء لا يُقَدِّمون نُصحاً وإنما هم رَجْعُ الصدى لإلهامات الزعيم وحِكمته .. وانتهى الأمر بسقوطه وسقوط الدولة معه .. وفى لحظة السقوط بحث عن السُلَّمِ فلم يجده .. كان قد رَكَلَه منذ سنواتٍ .. فلم يجد أمامه إلا الانتحار.
على النقيض من ذلك، صعد ونستون تشرشل بِسُلَّم الديمقراطية إلى رئاسة وزراء بريطانيا فى 1940 وبريطانيا على وشك الانهيار .. لم يركل السُلَّم ولم يؤلهه الدراويش ولم يُصَدِّق هو أنه مُلهَمٌ مع أنه مُلهَمٌ فعلاً ، فقد كان مثقفاً رفيع المستوى حصل على جائزة نوبل فى الأدب (لا السلام) .. وسار مع شعبه إلى النصر عبر طريق الدم والعرق والدموع .. وفى عام 1945 هتفت له الحشود وهو يبشرها بتوقيع ألمانيا بيان الاستسلام .. وعندما أرادت نفس الحشود فى نفس العام (لأسبابها) أن تستبدله بآخر أكثر ملاءمةً للمرحلة .. لم يخرج صوتٌ يطالبه بإكمال جميله حاكماً أبدياً .. كان السُلَّمُ موجوداً فنزل عليه تشرشل معززاً مُكَرَّماً .. ثم صعد بالسُلَّمِ رئيساً للوزراء مرةً أخرى وهو فى الثامنة والسبعين من عمره من 1952 إلى 1955.
لا نقارن بين فضل كلٍ من هتلر وتشرشل على البشرية .. فكلاهما استعمارىٌ ظالمٌ للشعوب الأخرى .. وتشرشل كان معادياً لاستقلال الهند والمقاومة السلمية لغاندى مثلاً .. ولو بقى فى السلطة إلى 1956 لما اختلف موقفه الرافض لحق مصر فى تأميم القناة عن موقف خلفه إيدن .. ولكننا نقارن بين نفعهما لشعبيهما ..
بدأت الحرب بانتصاراتٍ كاسحةٍ لألمانيا وهزائم كاسحةٍ لبريطانيا .. ولكن الديكتاتورية قادت ألمانيا إلى التفسخ .. فى الوقت الذى حفظت الديمقراطية بريطانيا فى النهاية .. هذا هو درس التاريخ المُجَرَّب والمُكَرر لمن يقرأ .. ويعى.
No comments:
Post a Comment