تكفير جَرِير (1)
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
الأهرام- الأربعاء 14 سبتمبر 2016
اللغةُ وعاء الثقافة ومِرآتها أيضاً .. .. قبل حوالى نصف قرنٍ فى مدرسة أسيوط الإعدادية الحديثة، كان مدرس اللغة العربية الأزهرى الشاب (ولم يزل شاباً مَتَّعَه الله بالصحة)/ محمد عبد الستار الشربينى يشرح لتلاميذ الصف الثانى الإعدادى فى جماعة البلاغة، وهى إحدى جماعات النشاط المدرسى خارج المناهج، (من بينهم كاتب المقال) كيف أن الشعر لا يُقَيَّمُ ولا يُفَسَّرُ إلا بمعيار التذوق الأدبى وجماليات اللغة وليس بالفهم المباشر، لا سيما من محدودى الثقافة، وأنه يحتاج فهماً متعمقاً لأن السطحية فى تفسيره قد تودى إلى المهالك .. وليدلل على ذلك، روى لنا ما حدث للشاعر على بن الجهم ومنه .. كان بن الجهم شاعراً فصيحاً ولكنه كان بدوياً جِلفاً لا يعرف إلا مفردات بيئته الصحراوية التى لم يغادرها إلى الحَضَر أبداً .. سَمِع الرجل عن المكافآت التى يمنحها الخليفة المتوكل لمادحيه من الشعراء فذهب إلى بغداد وسعى إلى قصر الخليفة وألقى فى حضرته قصيدةً، من أبياتها:
أنتَ كالكلبِ فى حِفاظِك للعـهد …. وكالتَيْسِ فى قِراعِ الخُطوبِ
أنتَ كالدلـوِ لا عَدِمناكَ دلـواً …. مِن كبـارِ الدِلا كثير الذنوبِ
(الدلو هو الجردلُ الذى يُرفَعُ به الماء من البئر .. وكثير الذنوب لا تعنى فى لهجة البادية كثير الخطايا، وإنما تعنى امتلاء الدلو بالماء لدرجة السيلان والطرطشة .. كنوعٍ من المبالغة فى مديح الجردل!) .. واستمر الرجلُ متحمساً يدور فى فَلَكِ نفس المفردات: التيس والعنز والدلو والبعير .. فانتفض الحضورُ وهَمُّوا بقتلِه .. إلا أن المتوكل كان حاكماً مثقفاً، فَفَطِنَ إلى أن الرجل لا يقصد الإساءة ولكنه يتكلم بمفردات بيئته، فمنعهم من الفتك به .. ثم أَمَرَ بإسكانه داراً جميلةً بمنطقة الرصافة على نهر دجلة .. وبعد ستة شهورٍ دعاه إلى مجلسه وقال له أنشدنا يا بن الجهم .. فإذا بِلُغة التيوس تتحول على لسان نفس الشاعر إلى قصيدةٍ تفيض رِقَّةً وعذوبة، يقول فى مطلعها:
عيونُ المَهَا بين الرصافةِ والجسرِ …. جَلَبْنَ الهوى مِنْ حيثُ أدرِى ولا أدرِى
ثم انتقل الأستاذ/ محمد عبد الستار الشربينى بهذا البيت الجميل إلى ساحةٍ أكثر رحابةً، إذ أدار حواراً بيننا (نحن تلاميذ الصف الثانى الإعدادى!) عن أيهما أجمل بلاغةً: بيت على بن الجهم عن عيون المها، أم بيت جرير:
إنَّ العيونَ التى فى طَرفِها حَوَرٌ …. قَتَلْنَنَا ثم لم يُحيِين قَتْلانا
كانت مصرُ التى فى خلفية المشهد الذى أدار فيه الأستاذ الشربينى حواره معنا تتكلم لغة الحضر والحضارة الرحبة بلا عُقَد .. كانت (الست) تشدو بالأطلال فيردد الريفى الأُمى أبياتها ويسأل عن معانيها .. ويحظى فيها برنامج (لغتنا الجميلة) لفاروق شوشة بنسبة استماعٍ عالية من جمهور الإذاعة .. وتجرى على ألسنة الناس مفرداتٌ جديدة مثل الإنتاج والادخار والتصنيع .. ظَنَّ الأستاذ الشربينى وظننا معه أن لغة التيوس قد اندثرت بانتقال بن الجهم إلى حى الرصافة .. ما كُنَّا نتخيل أن على بن الجهم شخصياً يمكن أن يتسلل لنا بعد ألف عامٍ .. لا بِمفرداته القديمة وحدها وإنما بجهله وجهالته.
قبل عامين كنتُ فى أحد المجالس وطرحتُ سؤال المفاضلة بين بيت ابن الجهم وبيت جرير .. فإذا بشابٍ مُتعالمٍ يقول بِجُرأةٍ لا يُؤتاها إلا جاهل: (كلا البيتين حرامٌ لأن الغزل حرام .. لكن ثانيهما كُفرٌ بواح فالذى يُحيى القتلى هو اللهُ وليس عيون النساء!) .. قلتُ له يا بُنَىَّ هل سمعتَ عن جرير؟ أجاب بالنفى .. قلتُ له احمد الله أنه مات قبل أن يسمع رأيك وإلا كان خَلَّدَك بإحدى هجائياته .. اكتشفتُ فيما بعدُ أن هناك مُجتمعاً موازياً تَسَيَّدت فيه لُغةُ التيوس وفِكرها (إن كان لها فِكر) وحُرِّمَ فيه كُلُّ شئٍ بَدءاً من (أعطنى الناى وغَنِّى) و(الأطلال) وليس انتهاءً بالفاول فى مباريات الكرة لأنه وفقاً لقانون الفيفا الوضعى ولا يُطبِّقُ شرع الله الذى يأمر بالقصاص من اللاعب الذى يكسرك .. عندما تتسَيَّدُ لغةُ التيوس تتعطل لُغةُ الكلام والعقول .. وللحديث بقيةٌ بإذن الله.
No comments:
Post a Comment