Friday 9 September 2016

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: اللى بنى مصر حلوانى .. مدنى

اللى بنى مصر حَلَوانى .. مدنى
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(موقع البداية- السبت 10 سبتمبر 2016)

أصبح الأمرُ بالغ الفجاجة .. ويوشك أن يضيف إلى ثنائيات الانقسام التى تشطر الوطن خرقاً جديداً .. فتنةٌ ليس للخارج دورٌ فيها وإنما هى فتنةٌ محليةٌ خالصةٌ من صنع النظام وبإصرارٍ مُدهشٍ .. فتنةٌ ذات بُعدين: تزايد تكليف القوات المسلحة بأدوارٍ مدنيةٍ بالأساس، وإغراق المناصب التنفيذية القيادية بعسكريين سابقين .. حتى هؤلاء فإن معظمهم عاديون ليس لهم أَمارةٌ أو تاريخٌ مشهودٌ من الإنجازات، وهى للأمانة سِمةٌ مشتركة فى اختيارات المسؤولين فى هذه الأيام، مدنيين وعسكريين .. فتنةٌ صارت تسبب حرجاً لكثيرٍ من العسكريين السابقين الذين لم يتعودوا على مثل هذا التمايز الممقوت وليسوا بحاجةٍ إليه .. نحن بصدد قضيةٍ مَدنيةٍ يجب أن تُناقَشَ في النور، وليست شأناً عسكرياً مما يُحظر الخوضُ فيه .. وقبل أن يتشنج المُزايدون ألفِتُ إلى أننى ذو خلفيةٍ عسكريةٍ .. وأعتز بسنوات عمرى التي قضيتُها في جيش الشعب .. أدعو الله أن يجعلها واقيةً لعينىَّ من مَسِّ النار يوم القيامة.
هذا حوارٌ يُستبعدَ من مائدته فريقان .. أولهما أولئك الذين يهاجمون الجيش (كجيشٍ) ويسعون إلى هَدمه أو تفكيكه .. نتحدث عن الجيش لا العسكريين .. فالعسكريون ليسوا مقدسين طبعاً .. هم بشرٌ .. يصيبون ويخطئون .. ولكن الجيش مُقَدَّسٌ .. لا يُهاجمه إلا عدوٌ (إن كان غير مصري) .. أو خائنٌ (إن كان مصرياً) .. الفريق الثانى هم قارعو الطبول الذين يفسدون كل نقاشٍ جادٍّ بضجيجهم المُبتَذَل .. فلا خيرَ يُرتجى من حوارٍ مع خائنٍ أو طبال.
فى بداية خدمتى بالقوات المسلحة فى سبعينيات القرن الماضى، فوجئتُ بأن العشاء المقرر للضابط والجندى فى هذا الجيش المنتصر هو قرص جبن نستو مستدير أو بيضة واحدة ورغيف جراية، يقيم به أَوْدَه فى خدمته حتى الصباح .. لأن غذاء وكساء أى جيشٍ فى العالم هو مسئولية الدولة، وهذا ما تستطيع أن تقدمه دولةٌ فقيرةٌ مثل مصر لجيشها .. كان يُخالجنا شعورٌ بالأسى لهذه الحالة البائسة، يمتزج بشعورٍ من الخجل لأننا نُثقل كاهل الدولة الفقيرة بعبئنا .. ثم استنكف وزير الدفاع عبد الحليم أبو غزالة أن نظل عبئاً على الدولة وكان مما قاله: أليس منا بيطريون وزراعيون يستطيعون أن يفعلوا ما يفعله أى فلاح مصرى بإنشاء مزرعة دواجن؟ .. بعد عامٍ عَمَّت الجيشَ سعادةٌ غامرةٌ عندما أُعلِن أن ثُلث احتياج الجيش من البيض تم تدبيره ذاتياً .. ثم تطور الأمر سريعاً عاماً بعد عام إلى أن تم إعفاء ميزانية الدولة من العبء الإدارى بالكامل للقوات المسلحة .. وبدأ هذا النشاط يحقق فائضاَ بسيطاً يدعم به الجيش مجهوده الحربى الذى لا تكفيه الميزانية المعتمدة من الدولة .. إلى هنا يمكن تسمية ذلك دوراً تنموياً بامتياز .. ولا اختلاف عليه .. يبدأ اختلاف الرؤى بدخول الجيش كمنافسٍ لمؤسسات الدولة المدنية أو حلوله محلها .. وهو ما ينعكس، في رأينا، بالسلب لا الإيجاب على التنمية في مصر .. ويفاقم من المشكلة أنها تتزايد على إيقاع معزوفةٍ لفرقة الصاجات النحاسية الصاخبة التي تردد مقولاتٍ تبريريةً من عينة (إن الجيش يجب أن يتولى إدارة مؤسسات الدولة بنفسه لأنه الأكثر كفاءةً) .. وهو قولٌ فاسدٌ ومُفسد ومُجافٍ للحقيقة .. فضلاً عن أنه يَدُّقُ إسفيناً لا مُبرر له بين شعبٍ يُحِّبُ جيشَه وجيشٍ نُحَمِّلُه بما هو فوق طاقته .. وتتضاعف الكارثةُ إذا صَدَّقَه متخذ القرار .. الجيوش تتدخل استثنائياً في حالات الكوارث الطبيعية .. كمُساعدٍ لا كبديلٍ لأجهزة الحماية المدنية .. الأصل فى الأشياء أن الدولَ تنهضُ بتكامل (لا بتبادُل) أدوار مؤسساتها .. دور الجيش أن يحمى بكفاءةٍ كل أنشطة الدولة المدنية .. لا ينافسها فى مجالاتها ولا تنافسه فى مجاله .. فكما نرفض لدرجة التحريم أن يقوم قطاعٌ مدنىٌ بدور الجيش (الميليشيات) نرفضُ أن يحل الجيش محل قطاعات المناقصات والمزايدات فى وزارات الدولة .. أو أن يُنافس فى سوقٍ استهلاكىٍ .. منافسة لن تكون عادلةً بأى حالٍ مهما صدقت النوايا .. فضلاً عن أن ممارسات السوق تخدش نقاء وطهارة الصورة الذهنية للجيش.
أما القول بأن العسكريين هم الأصلح للمناصب المدنية، فهو أيضاً مُجافٍ للحقيقة والواقع تماماً .. فالعسكريون الذين يضعهم المصريون فى منزلة التقديس مثل عبد المنعم رياض والشاذلى والرفاعى والجمسى وغيرهم نالوا مكانتهم لكفاءتهم العسكرية لا المدنية .. والأسماء التى برزت فى قطاعات الإنتاج والإبداع مثل ثروت عكاشة وصدقى سليمان ومحمود سامى البارودى وغيرهم برزوا لأنهم أكفاء لا لأنهم عسكريون .. بدليل أن غيرهم فشلوا .. لكن وجه مصر الحضارى والاقتصادى هو وجهٌ مدنىٌ بالأساس .. زانته وتزينه نجومٌ لامعةٌ لا تكفى لحصرها آلاف المقالات .. فضلاً عن ملايين الشرفاء الأكفاء المخلصين من مهندسين وأطباء ومعلمين وقضاة ومحامين وعمال وفلاحين وغيرهم من الذين يديرون ماكينة الحياة فى أرجاء مصر في كافة المجالات .. كلهم مدنيون يحبون جيشهم وتؤذيهم مثل هذه المقولات الخبيثة.
خلاصة القول: إن الذى بنى مصر حلوانى مدنى .. في حماية عسكرى مقاتل .. وأى عبثٍ بعناصر تلك المعادلة يهدم البناء .. لا قَدَّرَ اللهُ.



No comments:

Post a Comment