Friday 23 September 2016

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: تكفير جرير-2

تكفير جرير (2)
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام- السبت 24 سبتمبر 2016)

كان من السهل على ابن الجهم أن يترك لغة التيوس التى نشأ فى أكنافها إلى لغة الرُقِّى والتحضر بمجرد انتقاله لمدة ستة شهورٍ فقط إلى حى الرصافة على شاطئ دجلة، لأن فى داخله شاعراً .. أما أحفاده فلن ينصلح لسانهم ولو أسكنتهم فى قصرٍ على النيل لأن بداخل كل واحدٍ منهم بلطجياً أو مُتعالماً.. الشاعر إذا انتقل للرصافة انصلح لسانه .. أما البلطجى إذا انتقل للنيل لَوَّثَه .. لم يكن جرير هو الشاعر الوحيد الذى تم تكفيره فى القرن الحادى والعشرين بأثرٍ رجعى عن بيتٍ قاله من أكثر من ألف عام .. وإنما كل شعراء العربية تقريباً، فصحى وعامية .. قلت لمُحَدثى: إنكم تلوون عُنق قصيدةٍ لِتُكَّفِروا صاحبها، ثم كيف تُفتى بِحُرمةِ شعر الغزل؟ .. أهكذا بجرة قلم تَشْطُبُ قسماً من الشعر العربى؟ .. إذن لن يبقى مباحاً إلا الرثاء .. فقال: والرثاء أيضاً حرام .. قلتُ إذن نلغى الشعر .. فقال لا .. شعر الحماسة والأخلاق مُباح! .. قلتُ له يا بُنَىّ إن قصيدة نهج البُردة لأحمد شوقى فى مدح الرسول عليه الصلاة والسلام تبدأ بأكثر من عشرة أبياتٍ من الغزل الصريح، أولها:
ريمٌ على القاعِ بين البانِ والعَلَمِ …. أحل سفك دمى فى الأشهر الحُرُمِ
ولو فسرناها بمعيار الفقه كما تفعلون لأخرجنا شوقى من مِلَّة الإسلام لأنه يتغزل أولاً، ويُحِلُ ما حَرَّمَ اللهُ وهو سفك دمِهِ ثانياً، وفى الأشهر الحُرُمِ ثالثاً .. وقد عاصر شوقى ثم تعاقب على مشيخة الأزهر بعدها أكثر من خمسة عشر من الأئمة الكبار كالظواهرى والمراغى ومصطفى عبد الرازق وعبد المجيد سليم وإبراهيم حمروش ومحمود شلتوت فضلاً عن عشرات الألوف من علماء الأزهر الأجِلاَّء ولم يُحَرِّم واحدٌ منهم أبياته تِلك .. أجابنى بهدوءالغافل وجرأة الجاهل: لا شوقى ولا هؤلاء حُجَّةٌ على الدين، وإذا كان كل هؤلاء قد فاتهم تدارك الخطأ فالحمد لله الذى أرسل فى الأمة من يكتشفه ولو بعد تسعين عاماً!.
نَصَبتُ له فخاً فقلتُ له: إذن ما قولُك فى شاعرٍ بدأ قصيدةً فى مدح الرسول عليه الصلاة والسلام بغزلٍ صريحٍ فى حبيبته التي تَيَّمَت قلبه وقيدته بقيود حبها لفرط جمالها الذى يشرحه بالتفصيل فيصفها بأنها كأنثى الغزال مكحولة العينين، ناعسة الأجفان، ذات صوت ناعم رقيق جميل كأنه غُنَّةُ الظبى، أما فمها فكأنه كأسٌ من الخمر المعتقة التي أضيفت إلى نكهتها الروائح الجميلة (وقد قيلت القصيدة بعد تحريم الخمر) وتبدأ بهذا البيت:
بانت سعادُ فقلبى اليوم متبولُ …. مُتَيَّمٌ إثرَها لم يُفدَ مكبولُ
.. فقال مُحَدِثى فى جُرأةٍ لا يؤتاها إلا جاهلٌ: هذه أبياتٌ إباحيةٌ وقحةٌ لا يشفعُ لصاحبها أن يمدح الرسول بعدها .. قلتُ له تَمَهَّلْ يا رجل .. هل تعلم من هو ناظم هذه القصيدة؟ إنه كعب بن زهير بن أبى سلمى رضى الله عنه .. ألقاها فى حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله عليهم، ولم يقل أحدهم مثل قولتك .. بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام عَبَّر عن إعجابه بالقصيدة فمنحه بُردته فسُمِيَّت قصيدة البُردة .. كيف تُحَرّمون ما أباحه الرسول صلى الله عليه وسلم .. فبُهِتَ الذى جَهَل.
كان الأستاذ الشربينى وزملاؤه من مدرسى اللغة العربية يُدَّرِسون اللُغة ويُدَّرسون الدين .. كانوا أفذاذاً فى اللغة فقهاء فى الدين، ولكنهم ما كانوا يخلطون بينهما .. وإن تجاسر طالبٌ وتساءل فى حصة الدين عن حُكم الدين فى بيت شعرٍ، أحاله المدرس إلى حصة اللغة (لنفس المدرس) .. تتعدد أبعاد المشكلةُ حالياً .. سائلٌ خاوٍ تماماً وإن تَزَيَّن بشهادةٍ جامعية .. يتوجه بسؤال خاوٍ مثله إلى متشايخٍ، معلوماته عن الدين محدودة، وعن الشعر معدومة .. يسألُه الخاوى عن حكم الدين فى بيت شعرٍ.. فيتكبر المتشايخ أن يقول ليس هذا تخصصى اذهب لمن يزنه لك بميزان البلاغة، وإنما يصرخ: هذا كُفرٌ بواحٌ .. ويتلقف السائلُ الخاوى هذه الإجابة ويستشيخ بها على غيره من الخاوين فى زوايا العمارات أو صفحات الفيسبوك .. وهكذا يتكون مجتمعٌ موازٍ من الشيوخ الاستراتيجيين، الذين يُفتون فى كل شئٍ من الفقه إلى البلاغة إلى السياسة إلى الاقتصاد إلى الطب ولا يقولون لسائلٍ (لا أدرى) .. هذا الخواء العام يُشَكِّلُ بيئةً خصبة لترديد وتصديق خزعبلات الجيل الرابع والطابور الخامس ومجلس إدارة الدنيا والنبضة الكهرومغناطيسية والخيانة والعمالة إلى آخر هذه الهلاوس والهَطَل .. وهو العقبة الكأداء فى طريق أى مجتمع .. إذا تَسَيَّدت لغةُ التيوس تعطلت لغة الكلام .. الكلامُ لُغةُ البشر .. والبشر يتحاورون .. أما التيوس فتتناطح .. وقانا الله وإياكم من شر التيس .. إذا نَطَح.


No comments:

Post a Comment