كَفَى إساءةً
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
كان القلبُ يَنزف وهو يتابع ضابطاً يُعَّرِفُ نفسَه بكل جِدِّيَةٍ بأنه قائد خط الجمبرى .. ليتدفق بعدها بحرٌ من السخرية التى تطعن الوجدان .. ليس كلُ مَن سَخِر من حديث الجمبرى ممن يكرهون الجيش .. بل أحسب أن معظمهم كانوا ينزفون نِكاتِهم كالذى يضحك على بَلواه إلى أن يذرف الدمع .. إنه الضحكُ الذى كالبُكا .. الضابط لم يُخطئ قطعاً .. هو كأى ضابطٍ (وقد كُنَّا مِثلَه ذات يومٍ) يعتبر نفسه مقاتلاً وهو ينفذ المهام المُكَّلَف بها .. يستوى فى ذلك أن تكون دفاعاً عن حدودٍ .. أو مقاومةً لإرهاب .. أو تغليفاً لأسماك .. تتلبسه روح المقاتل الذى ليس أمامه إلا الإنجاز ولو كانت تكلفته الشهادة .. المُشكلةُ ليست فيه وإنما فيمن كَلَّفَه .. والله لم يُسئ للجيش إلا مثلُ هذا الرجل الذى أَصَّر على أن يربط بين شخصه وبين الجيش الذى هو أكبر من كل الرؤساء.. وهو ربطٌ خبيثٌ لم يرتكبه أَىٌ ممن سبقوه من الرؤساء ذوى الخلفية العسكرية .. مفهومٌ أن مصلحة أى شخصٍ أن يخلط بين أدائه وأداء الجيش .. فكل نجاحٍ لهذه المؤسسة الوطنية (الناجحة والمُنجِزة) سيُنسَبُ له .. لكن مكمن الخطورة أن الجيشَ سيُحَّمَلُ ظُلماً بأخطاء هذا الشخص وخطاياه .. عاتبنى البعضُ بأن الإخوان يجدون مُتَنَفساً فى المقالات التى أنتقده فيها .. أكاد أُجزم الآن أن الإخوان (أو غيرهم) لو أرادوا الإساءة للجيش ما فعلوا أكثر مما يفعله هذا الرجل الذى يُمدُّهم كل يومٍ بمادةٍ للإساءة ولو بِحُسن نية .. ويُصِّرُ على تأكيد (العسكرة) بشكلٍ لم يحدث إلا فى مقدمات نكسة 67 (وقانا الله من تكرارها) .. ودَقَّ إسفيناً لا مُبرر له بين شعبٍ يُحِّبُ جيشَه وجيشٍ نُحَمِّلُه بما هو فوق طاقته ونُقحِمُه فى غير دوره .. دور الجيش أن يحمى بكفاءةٍ كل أنشطة الدولة المدنية .. لا ينافسها .. لأنها ستكون منافسة غير عادلةٍ بأى حالٍ مهما صدقت النوايا .. فضلاً عن أن ممارسات السوق تخدش نقاء الصورة الذهنية للجيش حتماً.
قد يقول قائلٌ إن هذه الممارسات لم تؤثر على كفاءة أداء الجيش لمهامه القتالية الأصلية .. وبافتراض أن هذا القولَ صحيحٌ (وهو ما نتمناه)، إلا أن المؤكد أنها أثَّرَت بالسلب على النشاط الاقتصادى فى مصر .. وهو فى الأساس نشاطٌ مَدَنىٌ قائمٌ على المنافسة والحرية .. لكنه صار يُعانى من الاختناق (بقطاعيْه الخاص والعام) بسبب الإدارة العشوائية غير العلمية للحاكم الفرد مِن جهة .. وتَغَّوُل مؤسسةٍ واحدةٍ من جهةٍ أخرى.
بناءُ مصر مُهَّمَةٌ مدنيةٌ بالأساس بامتداد تاريخها .. المدنيون هم الذين بَنَوْا السد العالى .. وأقاموا المصانع والمزارع والمدارس والمستشفيات .. وأبدعوا الفنون .. وأداروا كل شؤون الحياة .. أما الجيش فله مهمةٌ واحدةٌ مُشَّرِفة تكفيه وتكفينا، هى حراسة كل ذلك.
قبل عدة أعوامٍ وصف أحد القادة مشروعات الجيش الاقتصادية بأنها (عَرَقُ) الجيش .. كان اللفظ غريباً على الأسماع واعتبرناه زَلَّةَ لسانٍ لا سيما أن تلك المشروعات كانت تقتصر على تحقيق الاكتفاء الذاتى الجيش من الغذاء والكساء واللوجيستيات .. لا سامَح اللهُ مَن يُصِّرُ اليوم على تأكيد هذا اللفظ السُوقِىّ الذى نَفيناه سابقاً .. نحن من جيلٍ لم يعرف أن للجيش عَرَقاً .. للجيشِ دمٌ لا عَرَق .. والشعب يضع جيشَه فى مكانةٍ لا يتخيله فى غيرها .. مكانة الجيش الحارس لا الجيش التاجر.
ما يَحدثُ يُسئُ للجميع .. فالغَيْرةُ على الجيش ليست حِكْراً على العسكريين وحدهم.
(مصر العربية- الاثنين 20 نوفمبر 2017).
No comments:
Post a Comment