سَقَطَت الأكذوبتان .. فتفاءلوا
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
قد تكون الآلام التى اعتصرت (ولا تزال) مصر فى السنوات الأخيرة هى آلام المخاض التى يُولَد معها فجرٌ جديد .. أو لعلنا ندفع ثمن التخلص السريع من أكذوبتين، دفعت غيرنا من الأمم قروناً من تاريخها وسالت أنهارٌ من الدماء للتخلص منهما .. أكذوبتان كبيرتان .. استقرتا فى الضمير الجمعى لقطاعاتٍ كثيرةٍ من المصريين من كثرة ترديدهما .. وكَبَّلَتا أقدامنا كثيراً إلى أن سقطتا .. وتشابهتا فى رحلة السقوط وكأنهما وجهان لعُملةٍ واحدة .. إذ بدأت قفزة السقوط لكل أكذوبةٍ فى اللحظة التى بدا أنها قد تَوفرت لها أسباب البقاء الطويل على القمة.
أما الأكذوبة الأولى فهى أن نهضة مصر لن تتحقق إلا بِحُكمٍ دينى .. لم يَقُلْ بها أحدٌ رسمياً .. ولكنها كانت تتردد على امتداد عدة عقودٍ وترَّسَخَت فى وعى قطاعٍ كبيرٍ من العامة .. تَسَلَلَت من أفواه شيوخ الزوايا وأقلام الدَّجالين مصحوبةً ببعض البهارات مِن عَيِّنَةِ (لقد جَرَّبتُم الاشتراكية وفشلتم .. وجَرَّبتُم الرأسمالية وفشلتم .. لماذا لا تُجَّرِبون الإسلام؟) .. وهو قولٌ ملئٌ بالمغالطات .. بدءاً من توصيف ما تم تجريبه بأنه اشتراكية أو رأسمالية .. ثم الحُكْم بفشل ما تم تجريبه .. لكن المغالطة الكبرى أن يُقارَنَ دينٌ سماوى بمذاهب اقتصادية .. فضلاً عن أن من يردد الأكذوبة يُسَّوِقُ نفسَه على أنه هو الإسلامُ المطلوبُ مِنَّا أن نُجَّرِبَه.
أحسب أن مُرشد الإخوان د. محمد بديع (من معرفتى به) كان صادقاً وهو يُعلن قبل رحيل مبارك بأيامٍ أن الرئيس القادم لن يكون من الإخوان .. وكان ذلك رأى معظم قيادات الجماعة وعلى رأسهم المرشد الراحل مهدى عاكف .. لكن الله شاء أن تتغلب غريزةُ الطمع على صوت الحكمة .. ويجلس د. محمد مرسى على المقعد الرئاسى فى النهاية .. فى هذه اللحظة بدا وكأن الأكذوبة قد كُتِب لها عمرٌ مديد .. فالرجل يبدأ حُكمَه مدعوماً بالقوى الوطنية المدنية فضلاً عن كل فصائل ما يُسَّمَى بالإسلام السياسى .. فلما التصقت الجماعةُ بكرسى السُلطة صَبَغَها الكرسى بأمراضه وانكشفت أمراضُها .. وانقشعت الهالة النورانية عنهم، فإذا بهم ليسوا مجموعةً من الملائكة كما أشاعوا (ولا من الشياطين كما يُشيعُ خصومهم) .. وإنما هم مجموعةٌ من البشر .. فيهم الصالح والطالح .. القانع والطامع .. الشريف والفاسد .. الناجح والفاشل .. وإذا بمن دانت له السيطرة فى الجماعة يبدأ دون مبررٍ منطقىٍ سياسةَ إقصاءٍ سريعة .. ليس للحلفاء من خارج الجماعة فقط، وإنما لمن هم من خارج الشلّة داخل جماعة الإخوان .. فكان الفشلُ المُبَّكِر .. ثم بدأت التصريحات المنفلتة ضد الجميع .. فأُضيف الاستعداءُ (ومِن ثَمَّ الإفشالُ) إلى الفشل .. المفارقة أن الجماعة التى اكتسبت شعبيتها فى العِقدين الأخيرين قبل الثورة بخطاب السماحة والدماثة، أسلمت إعلامَها ومنصاتها فى عام السُلطة لِعُتاة الإرهابيين والمُنَّفِرين والمُكَّفِرين والمهرجين (وبعضهم من خارجها) .. فاصطدمت مع قطاعٍ كبيرٍ من الشعب (وتلك حقيقةٌ بِغَّضِ النظر عن التهويل أو التهوين فى الأرقام) .. لكن الأهم أن د. مرسى وهو يسقط عن كرسى الحُكم كانت تسقط معه فى نفس اللحظة تلك الأكذوبة العتيقة .. (وإذا كُنَّا نُعددُ أخطاء قيادات الجماعة .. وهى فى الأساس أخطاءٌ سياسية وإدارية .. فإننا نُكرر رفضنا لما يتعرضون له "هم وغيرهم" من تنكيلٍ ومظالم .. ونؤكد أن مجابهة الأخطاء السياسية تكون فى صناديق الانتخاب لا فى غياهب السجون .. ونقاتل من أجل حَقِّهم كمواطنين مصريين فى عدالةٍ حقيقيةٍ ومعاملاتٍ إنسانية).
أما الأكذوبة الثانية التى تشابهت مع الأولى إلى ما يُقارب التطابق فى رحلة الصعود والسقوط .. وترَّسَخَت أيضاً فى وعى قطاعٍ كبيرٍ من المصريين، فهى أن مصر لا يصلح لها إلا رئيسٌ قوىٌ .. وفى ذهن قائلها أن الرئيس القوى هو بالضرورة رجلٌ عسكرىٌ .. وفى ذهنه عسكرىٌ مُعَّيَنٌ يُحبه .. ناصر .. أو السادات .. أو مبارك .. وساعد فى ترسيخ الفكرة أن نظام الفرز والترقى فى الجيش المصرى لم يكن يُظهر على وجهه عادةً إلا عناصر جديرةً بالاحترام .. فوزى .. رياض .. الشاذلى .. الجمسى .. أبو غزالة .. وأحسب أن معظم من أعطوا أصواتهم للفريق أحمد شفيق (حوالى نصف الناخبين) كانوا مؤمنين بهذا الاعتقاد وليس نكايةً فى الإخوان ولا تقديراً لإنجازاته .. بل أحسب أن ذلك كان الدافع وراء معظم الأصوات التى ذهبت لعبد الفتاح السيسى فى 2014.
وأعتقدُ أن الطمع فى الحكم لم يكن موجوداً فى لحظة 30 يونيو (والله أعلمُ بالنوايا) .. وهو الانطباع الذى وصل إلى اللواء أحمد وصفى فَعَّبَرَ عنه صادقاً بقوله (لو وجدتم السيسى يترشح للرئاسة يَحِّقُ لكم عندها أن تصفوا ما حدث بالانقلاب) .. لكن الله شاء مرةً أخرى أن تتغلب غريزةُ الطمع على صوت الحكمة .. ويجلس عبد الفتاح السيسى على المقعد الرئاسى فى النهاية .. فى هذه اللحظة بدا أيضاً وكأن الأكذوبة الثانية قد كُتِب لها عمرٌ مديد .. فالرجل يبدأ حُكمَه مدعوماً بتيارٍ كاسحٍ من القوى الوطنية المدنية .. منتسباً إلى مؤسسةٍ وطنيةٍ لها فى قلوب المصريين محبةٌ ومهابة .. فإذا به يُبادر (أيضاً) دون مبررٍ منطقىٍ بإقصاء كل من حوله من كفاءاتٍ .. مستعيضاً عنهم بأسوأ العناصر التى تَحَّلَقَت حول مبارك وكانوا سبباً مباشراً فى سقوطه .. واستبدل المنبطحين بالأكفاء .. فكان الفشلُ والإهدار فى معظم الملفات .. وبالتوازى سقطت نظرية أن كُلَّ عسكرىٍ قوىٌ .. واتضح أن هناك أيضاً عسكريين ضعفاء وتافهين .. واكتشف الجميع أن الجيش شأنُه شأن أى قطاعٍ فى الدولة .. يُمكن أن يضم عناصر كالسابق ذِكرُهُم .. ويمكن أيضاً أن يضم عناصر كعبد العاطى و (….) .. وهكذا سقطت الأكذوبتان اللتان عَوَّقتا انطلاقَ مصر على الطريق الطبيعى للتقدم .. وهل للتقدم طريقٌ عند كل خَلْق الله غير دولة المُوَاطَنَة؟ دولة القانون؟ .. الدولة المدنية .. التى يتنفس فيها الشعب نسائم الحرية .. بلا تمييزٍ ولا عنصريةٍ ولا توريث .. الكفاءةُ فيها قبل الولاء .. والوطن قبل الجماعة أو المؤسسة .. الشعب فيها هو السيد .. والحاكم فيها هو الخادم .. أَيَّاً كان ما يحمله فوق رأسه .. عمامةً أو كاباً .. (كان أيزنهاور ماريشالاً حقيقياً ومنتصراً، فَلَّما انتُخِب رئيساً مدنياً صار من حق أصغر جندى من مرؤوسيه السابقين أن يراقبه ويحاسبه كرئيس .. وكان عمر بن الخطاب كصحابىٍ أحد المُبَّشرين بالجنة، ولكنه كحاكمٍ صار من حق أضعف امرأة فى الدولة أن تراجعه فى قراراته).
وإذا كان الرئيس مرسى قد أسقط الأكذوبة الأولى .. فقد تَكَفَّل الرئيسُ السيسى بإسقاط الثانية .. فالشكر بعد الله لهما.
قد يكون هذا حديثاً عن الماضى (مرسى) .. والحاضر الذى يوشك أن يصير ماضياً (السيسى) .. لكنه الماضى الذى يُفسحُ بإذن الله طريقاً للمستقبل .. تفاءلوا.
(مصر العربية- الثلاثاء 28 نوفمبر 2017).
No comments:
Post a Comment