Monday, 26 February 2018

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين عبد الهادى: للفساد دُر

للفساد .. دُر
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى

الفسادُ ليس حدثاً عارضاً .. وإنما هو اختيارٌ واضحٌ .. هناك إصرارٌ على الهبوط معه نحو قاع مؤشر الشفافية (والصعود بالتالى إلى قمة مؤشر الفساد .. الصعود إلى الهاوية) .. هذا ما يستخلصه بسهولةٍ أى قارئٍ لتقرير منظمة الشفافية الدولية الصادر منذ أيامٍ .. فالتقرير يشير إلى هبوط ترتيب مصر على مؤشر الشفافية فى عام 2017 إلى المركز 117 على العالم (بنسبة شفافية 32%) .. بعد أن كان ترتيبها 108 سنة 2016 (بنسبة شفافية 34%).. وكان ترتيبها 88 سنة 2015 (بنسبة شفافية 36%) .. ويشير نفس التقرير إلى تربع نيوزيلاندا على قمة الشفافية (أى الأقل فساداً فى العالم) بنسبة شفافية 89% .. ويتذيَّل القائمة (أى الأكثر فساداً) الصومال بنسبة شفافية 9%.
العالم يرانا هكذا وليس فى الأمر مفاجأة .. فالعالم لا يقيس مكافحة الفساد فى بلدٍ ما بعدد الذين تضبطهم الأجهزة الرقابية .. فكل الدول والأنظمة (بما فيها الفاسدة والفاشلة) تلقى القبض من آنٍ لآخر على فاسدٍ هنا أو هناك .. حتى العصابات تعاقب بعض لصوصها أحياناً .. الأعداد مجرد مؤشرٍ على إنجاز الجهاز الرقابى القائم بالضبط .. وحتى هذا الإنجاز لا يكتمل قياسه إلا بمعرفة عدد المضبوطين الذين انتهت محاكمتهم بالإدانة .. فضبط الأبرياء ليس إنجازاً.
والعالم لا تخدعه العبارات البراقة مثل (القانون على الجميع) وهو يرى القانون ليثاً هصوراً فى مواجهة البعض .. خجولاً ذليلاً فى مواجهة من يتستر أكثر من ثلاثة شهورٍ على مكان اختباء وزيرٍ أسبق للداخلية مُدانٍ باللصوصية .. العالم يعرف أن الانتقائية في محاربة الفساد .. فسادٌ.
والعالم لا تنطلى عليه عباراتٌ مثل (ما شفتوش شريف قبل كده؟) .. وإنما يراقب التزام رئيس الدولة بنشر تفاصيلَ ذِمَّتِه المالية فى الجريدة الرسمية، ومِن أين اكتسبها، ليس تفضلاً وإنما التزاماً بالدستور .. فإذا لم يفعلها لا يستمر على مقعده يوماً واحداً وتتم محاسبته أمام البرلمان .. المشكلة أن العالم يضع مواصفاتٍ مختلفةً للبرلمانات .. فميزانياتها أيضاً معلنة وليست سراً من أسرار الأمن القومى.
والعالم لا يتخيل أن دولةً تَدَّعِى محاربة الفساد تصدر قانوناً ليس له شبيه فى تاريخ الأمم للتصالح مع لصوص المال العام وتكريمهم .. قانوناً لا تجرؤ حتى عصابات المافيا على إصداره لإدارة شؤونها .. وعندما اكتشف السادة اللصوص بعد عدة شهورٍ أن هذا القانون (رغم ما به من عوار) لا يعفى من العقوبة شركاءَ اللص (كالموظف العام الذى سَهّل له السرقة مثلاً) صَدَرَ تعديلٌ آخر يشمل بالعفو كل العصابة، ليعود كلٌ مِن أفرادها (بالقانون) خالياً من الذنوب كيوم ولدته أُمُهُ .. ادخلوها فاسدين.
المقياس الوحيد المعتمد عالمياً لمكافحة الفساد هو مستوى الشفافية .. التي تعنى بالبلدى أن يكون كل شئ فى النور .. لأن الفساد لا ينمو ويترعرع إلا فى الظلام .. وتتحدد درجة الشفافية في الدولة بناءً على مدى استيفائها لعدة متطلبات، أهمها ما يلى:
1 – وجود برلمان حقيقى يمارس رقابةً حقيقية على السلطة التنفيذية.
2-توسيع نطاق مساءلة كافة مؤسسات الدولة أمام الشعب، حيث لا استثناء لفئة أو مؤسسة (جيش/ شرطة/ قضاء … إلخ).
3-وجود منظمات مجتمع مدنى قوية ومستقلة وفعَّالة (ولا تُلَفَق لها القضايا أو يُبتَدَع لها قانونٌ أضحوكة بالطبع).
4-قضاء قوىٌ ومستقلٌ استقلالاً لا شُبهة فيه، وتطبيقٌ صارمٌ للقانون على الجميع بلا استثناءات.
5-درجة عالية من إتاحة المعلومات وحرية تداولها، ومنع تضارب المصالح، والإفصاح عن الذمة المالية.
6-إعلامٌ حرٌ مستقلٌ .
7-التزام المزيد من الشفافية حيال العقود التى تبرمها الدولة وكافة أوجه الإنفاق العام والمشروعات الحكومية (أو ما يُسَّمَى بالمشروعات القومية) والميزانيات العامة.
رأيى أن تقرير الشفافية الأخير لا يدين الشعب وإنما يدين النظام .. فالتدهور فى البنود السابقة كلها مسؤولية النظام لا الشعب .. الشعب المصرى أشرف من نظامه .. معظم المصريين يلاطمون الحياة ويبيتون على الطوى ولا يسألون الناس إلحافاً ولا يمدون أيديهم إلى مالٍ حرام.
قبل أسابيع قلتُ للمستشار هشام جنينة مُداعباً (لقد تسببتَ فى تقهقر مصر على مؤشر الشفافية فى العام الماضى الذى اعتبر ابتداع قانونٍ لإقالتك دليلاً على استشراء الفساد فى غيبة أى إرادةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ لمحاربته) .. الحمد لله أن التقرير الجديد لم يلحق بما حدث له بعد ذلك من حبسٍ بعد محاولة اغتيال .. كما لم يلحق بالتجليات السابقة واللاحقة للانتخابات الرئاسية .. لكن فى ضوء البرامج والنوايا المُعلَنَة للمرشحين الرئاسيين الوحيدين نستطيع أن نُخَّمِن حالة الشفافية فى مصر فى السنوات القادمة .. نحن نسير بخُطىً سريعةٍ على الطريق .. إلى الصومال.
(مصر العربية- الاثنين 26 فبراير 2018).


No comments:

Post a Comment