الحوار الساخن الدائر الآن فى مصر حول قضايا الغاز وحقوق مصر فى البحر المتوسط وجدوى التعامل اقتصاديا مع إسرائيل، وهو الحوار الذى رحب به الرئيس السيسى، يعكس الرغبة الجارفة للمصريين فى المشاركة فى صناعة مستقبل البلاد وليس الوقوف موقف المتفرج.
فى نوفمبر من العام الماضى حضرت ندوة فى مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية، وهى من أعرق معاهد العلم الأكاديمية فى لندن. كانت المناسبة صدور كتاب «مصر» للبروفسور الأمريكى الأصل «روبرت سبرينجبورج» وهو متخصص فى دراسات الأمن القومى ومن المهتمين بدراسة مصر ويشغل حاليا منصب زميل بمعهد الدراسات الدولية الإيطالى. والكتاب يقدم تحليلا بالغ الأهمية للحالة المصرية إبان ثورة 25 يناير وما أعقبها ويحذر من تداعيات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة. وليس المجال هنا عرض كل الكتاب ولكن إلقاء نظرة على بعض مداخلاته لعلها تفيد فى الحوار الوطنى الدائر ونحن نقترب من المدة الثانية والأخيرة لحكم الرئيس السيسى.
تكلم «سبرينجبورج» عن مصر بحب وتذكر شوارع قاهرة الخمسينيات الهادئة التى كانت تعبق برائحة الفل والريحان، ثم دلف بسرعة إلى بيت القصيد، فى القرن التاسع عشر كانت مصر أغنى من اليابان، وفى الستينيات كانت أغنى من كوريا الجنوبية، وفى السبعينيات كانت أغنى من تايلاند، وعندما استدارت الألفية الثانية سبقتها المغرب، وهى الآن أفقر من كل هذه الدول. وتساءل: لماذا تخلفت مصر عن الركب العالمى بهذا الاطراد المخيف؟ وكيف يمكن وقف عجلة التقهقر ثم اكتساب قوة دفع للأمام؟ لم يستغرب أن ثورة يناير لم تنجح فى تحقيق أهداف النهوض، وأرجع ذلك إلى عدة أسباب منها أن غالبية المجتمع من الشباب وهم بالضرورة تنقصهم الخبرة والمعرفة، وهى ظاهرة تتكرر فى معظم الدول النامية التى تعجز عن تفعيل التغيير، وقد صاحب ذلك غموض الرؤية لدى الكبار مما حدا بالجميع إلى اللجوء للمجلس العسكرى لإدارة الأمور تماما مثلما فعل الرئيس المخلوع. تطرق بعد ذلك إلى الدور المحورى لعناصر الدولة العميقة التى نجحت فى استرداد الدولة المصرية من براثن الإخوان المسلمين إلى حضن النظام القديم.
***
فى محاولة لفهم الأسباب ربط «سبرينجبورج» بين تعثر الاقتصاد المصرى ونظرة جهاز الدولة لدور الأفراد والتنظيمات المدنية فى المساهمة فى النشاط الاقتصادى للدولة، واستند فى ذلك إلى نظريات المؤرخ الاقتصادى دوجلاس نورث الذى حصل على جائزة نوبل فى عام 1993 ورحل عن عالمنا منذ عامين. فرق نورث بين الدول المتقدمة والدول النامية طبقا لدرجة الانخراط المجتمعى فى النشاط الاقتصادى والتى تصل إلى أعلى درجاتها فى المجتمع المتقدم وسماها مجتمعات النشاط المفتوح، بينما تكون درجة هذا النشاط محددة فى المجتمعات النامية وتقتصر على نخب منتقاة تستحوذ على حرية المشاركة فى النشاط الاقتصادى وتجنى ثماره لنفسها وتمنع حرية باقى المجتمع من التعبير أو المشاركة، وسماها مجتمعات النشاط المحدد. وأوضح أن مجتمعات النشاط المفتوح تتميز بالتزام الجميع بالقانون فى إطار استقلال المؤسسات واستقرار مبدأ تداول السلطة سلميا بينما لا تتوافر هذه المقاييس فى المجتمعات النامية ذات النشاط المحدد، واعتبر أن هذا هو السبب فى تأخر نمو هذه المجتمعات. واعتبر «سبرينجبورج» أن هذا العامل هو أهم معضلة تقف فى وجه النمو الاقتصادى المصرى. ونبه إلى أن زيادة الناتج القومى لا تكفى وحدها لصنع التقدم وأن التقدم يحدث كلما اتسعت دائرة المشاركة من أكبر عدد من السكان فى النشاط الاقتصادى وهو ما لا يمكن حدوثه إلا باطمئنان الجميع لرسوخ حكم القانون واستقلالية المؤسسات، أى أن تكون قواعد اللعب واضحة وثابتة للجميع وبالتالى يمكن أن تزداد المشاركة ويرتفع مستوى معيشة الغالبية ويتحقق التقدم الفعلى.
ولتوضيح فكرته استعان «سبرينجبورج» بكتابات الراحل د. سامر سليمان ود. عمرو عدلى ونبه إلى أن الدولة المصرية حين انتقلت من اقتصاد القطاع العام الذى كان يمول الخزينة ووصل إلى 50% من حجم الاقتصاد إلى القطاع الخاص الذى وصل حجمه الآن إلى 70% من حجم الناتج القومى لم تطور أساليب التحصيل الضريبى، حيث كانت أجهزتها قد تعودت على استقطاع دخولها مباشرة من مؤسسات القطاع العام الذى كانت الدولة تملكه، ولذلك كلما كانت الخصخصة تزداد لم يكن يصاحبها تزايد مواكب فى فرض الضرائب وهكذا تقلص دخل الدولة من الضرائب على القطاع الخاص بعد الانفتاح والخصخصة بشكل مطرد حتى وصل أخيرا إلى 12.5% من الناتج القومى مقارنة بـ51% فى الدانمارك و32.5 % فى تركيا و22.3% فى المغرب، وهو ما يفسر المأزق الاقتصادى والمجتمعى الذى تواجهه الدولة، فهى لا تزال مكلفة بتمويل الخدمات العامة وخدمة الدين العام ودعم الطبقة المتوسطة التى تشكل قاعدتها الاجتماعية. ويلاحظ «سبرينجبورج» أن هذا الدين العام ارتفع إلى 100% من الدخل القومى فى 2016 بعد أن كان انخفض إلى نحو 12% فى 2004. ويشير الكاتب أنه لو كانت مصر التزمت فعليا بالانتقال إلى نظام يقوده القطاع الخاص لوجب أن يشارك هذا القطاع بشكل فعال فى استثمارات الدولة لكن ذلك لم يحدث إلا بنسب متواضعة بل لقد تراجع هذا الاستثمار من 36 بليون دولار فى 2008 /2009 وهو رقم محدود نسبيا إلى أقل من نصف ذلك فى 2011/ 2012، وهو ما لم يتحسن بعد، كما أن أكثر من نصف استثمارات القطاع الخاص المصرى هى فى مجالات العقارات والهيدروكربونات ولم تحظ مجالات كالصناعة والزراعة والصحة إلا بمساهمات ضئيلة لم تتعد 50 دولارا للفرد سنويا.
***
وإذا كانت السنوات الأربع المنصرمة قد شهدت جهودا مضنية قادها الرئيس السيسى لإثبات القدرة على الإنجاز السريع مستعينا بالانضباط المعهود للقوات المسلحة والدعم اللامحدود للمصريين الذين لم يبخلوا فى تمويل المشروعات الطموح التى تصدى لها فإن السنوات الأربع القادمة جديرة بنفس الاندفاعة الطموح فى مجالين لو التزمنا بهما لتحققت أهداف الرئيس والوطن وهى الاعتماد بشكل أساسى على رأس المال المصرى فى تمويل خطط نهضة مجتمعية وسياحية وصناعية زراعية، بهذا الترتيب. ويتضح من العرض البالغ الاختصار لأفكار الدكتور «سبرينجبورج» أنه كلما اتسعت المشاركة المجتمعية فى النشاط الاقتصادى تغلبت الدولة على أهم معوقات التقدم وهى ضعف طاقة الدفع المجتمعى الواسع لعجلة التقدم. المجال الثانى هو الاستثمار السريع والمدروس فى البنية الأساسية للإنسان المصرى من تعليم وصحة وانضباط فى السلوك ورفع لمستوى الأداء فى كل المجالات وعلى كل المستويات. أى أن رفع مستوى معيشة المواطن من مسكن وملبس ومظهر وسلوك أصبح شرطا للتقدم.
والبداية المطلوبة للولاية التالية للرئيس يجب أن تركز على تصور محدد لماهية التقدم وما يراد لشكل الدولة المصرية فى العقود القادمة. فعلى سبيل المثال لو أردنا للاقتصاد المصرى أن يعتمد على السياحة فلابد أن نضع خططا عاجلة لتطوير نظم الخدمات وثقافة الضيافة، بمعنى إصلاح البنية التحتية وإزالة مظاهر القبح والتكدس، والارتفاع بمستوى النظافة والأناقة لدى الأفراد لا شكليا ولكن فعليا، وهى أمور لا يمكن أن تتم إلا برفع مستوى الإنسان العامل وتدريبه. فعامل النظافة فى فندق أو مطعم لا يستطيع أن يقدم خدمة نظيفة إلا إذا كان هو نفسه نظيفا فى بيته أنيقا فى مظهره، وهكذا.
وبمناسبة القفزة الكبيرة فى مجال تجارة الطاقة وتحويل مصر إلى مركز عالمى لها سيتطلب ذلك تطوير خدمات معاونة على أحدث النظم العالمية فى مجالات موازية كجمع المعلومات واستكشاف التيارات الاقتصادية المتشعبة التى تتقاطع ما بين دول أوروبا وآسيا وإفريقيا مما يفتح المجال لنمو أنشطة اقتصادية جديدة تستفيد من كنوز المعلومات التى يمكن التوصل إليها. من يدرى ربما تستعيد القاهرة دورا دوليا حيويا كانت تحتله فى أربعينيات القرن الماضى.
No comments:
Post a Comment