نيرانٌ صديقة
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
يُسَّميها العسكريون النيران الصديقة .. عندما تُفاجَأُ بإحدى وحداتك تُخطئ الهدفَ فتصب نيرانَها عليك .. وهى أخطر من النيران المعادية الصريحة .. وخسائرها أفدح .. والرد عليها يُضاعف الخسائر .. والنتيجة نصرٌ مجانىٌ للعدو .. يبدو أن هذه الحالة العسكرية الاستثنائية انتقلت إلى واقعنا السياسى وانتشرت بصورةٍ محزنة .. والأمثلة لا حصر لها.
يتعرض المستشار الجليل لغضبةٍ رئاسيةٍ مباشرةٍ منذ تصريحه عن تكلفة الفساد .. بدأت بتشويهه إعلامياً، ثم عزله، ثم محاولة اغتياله، وانتهت بحبسه ومحاكمته أمام قضاءٍ غير مختص .. فجأة يدخل على الخط محامٍ ملفوظٌ شعبياً ووطنياً لماضيه فى الدفاع عن الجواسيس والقتلة والفاسدين، فضلاً عن شكوكٍ حول صِلاته بالأجهزة .. يعترض البعض على تلويث الدفاع عن المستشار الجليل بهذا الاسم الموصوم حتى لو كان ذلك ثمناً للبراءة .. وهى وجهةُ نظرٍ يَسهُل تَفَّهُمُها .. وفى المقابل يمكن تَفَّهُمُ وجهة نظر أسرةٍ تتعلق بقشةٍ قد تُعِيدُ الزوج إلى زوجته والأب إلى بناته .. حتى لو كانت قشةً ملوثة .. لكن ما لا يمكن تفهمه واستيعابه أن يحتد البعض فى موقفه لدرجة أن يتحول الأمر وكأن معركتنا صارت مع المستشار الجليل نفسه .. بعيداً عن المجرم الأصلى الذى زَجَّ به فى هذا المسار.
فى البرلمان مجموعةٌ قليلة العد من النواب الذين نجحوا فى التسلل للمجلس بأصوات الناس (لا الأجهزة) .. عندما تَقرر مناقشة اتفاقية التفريط فى الجزيرتين فى البرلمان رغم انعدامها بحكمٍ قضائىٍ بات ونهائى .. كان من رأى البعض أن تستقيل هذه القِلَّةُ المُرابطة احتجاجاً على انتهاك البرلمان للمبادئ الدستورية وتَعَّدِى السلطة التشريعية على السلطة القضائية .. بينما رأى البعض أن استقالتهم تحرم المصريين من الصوت الوحيد الذى يمكن أن يَقُضَّ راحةَ النظام تحت قبة البرلمان فى هذه القضية وفى غيرها .. كلا الرأيين له وجاهته .. لكن ما الوجاهة فى أن يتمادى البعض فى الخلاف والتخوين لدرجة أن تصبح المعركة مع كتلة 25/30 .. بأكثر مما هى مع المُفرِّط الحقيقى.
فى مصر عدة تياراتٍ (اليسار - الليبراليون- فصائل ما يُسمى بالإسلام السياسى- الناصريون .. إلخ ) .. يتعرضون كلهم الآن لبطشٍ وقمعٍ من سلطةٍ غاشمةٍ تُعادى الجميع وتمضى بالوطن فى طُرُقِ المهالك .. كالتفريط فى الأرض والمياه، والتكبيل بالديون، وقمع الحريات، والعبث بكل القواعد القانونية والدستورية .. وبدلاً من أن يَكبرَ هؤلاء على خلافاتهم القديمة ويتوحدوا فى وجه هذا الخطر المحدق بهم وبالوطن .. يستدعى بعضهم بدون مناسبة أناشيدَ الهجوم على عبد الناصر (وللرجل مريدوه ومحبوه) وتحميله أوزار كل مَن جاءوا بعده، مع بعض البهارات المعروفة مثل التأكيد على أنه كان عميلاً إسرائيلياً بنى السد العالى ليغرق مصر لاحقاً لأن أُمَّهُ يهودية(!) .. فيُستثارُ بعضٌ من مُحبى الرجل ومُريديه ويستديرون ليردوا الصاعَ صاعين بالهجوم على حسن البنا (وللرجل أيضاً مُحبوه ومُريدوه) وتحميله بكل خطايا من جاءوا بعده من فصائل ما يسمى بالإسلام السياسى (بما فيها الجماعات الإرهابية) مع بعض البهارات المضادة مثل التأكيد على أن الرجل كان عميلاً إنجليزياً تقاضى خمسمائة جنيه لينشئ هذه الجماعة الماسونية وأمه يهودية (أيضاً!).
أمثلةٌ لا تنتهى .. لكن القصة واحدة .. حبيسان .. بدلاً من أن يفكرا معاً فى كيفية فك القيد .. يعتب أحدهما على الآخر .. فيرد الآخر بعتابٍ أشَّد .. ثم يتحول العتاب إلى لوم .. واللوم إلى عِراكٍ .. وسجانهما يتسلى بعراكهما .. بل يؤججه .. لَعَنَ اللهُ الغباء.
(المشهد - 19 أبريل 2018).
No comments:
Post a Comment