دستوركم يسلبنا" عراقنا"
صباح علي الشاهر
كل هذا الخراب والدمار، وهذا الفساد الذي تفشى في كل مفاصل الدولة، وإنسداد الأفق الذي جعل أكثر الناس تفاؤلاً يُصاب بالإحباط التام، وكل هذه النكسات والهزائم، وأنهار الدماء التي لا يتوقف سيلها، وذل البلد وهوان ناسه، وتجرؤ حتى الأقزام على التطاول على العراق، الذي أصبح فيئاً ونهباً لكل نهّاب، كل هذا وغيره مما لا يتسع المجال لذكره، والساسة لا يجدون في التجربة ما يدعو لإعادة النظر، فكل شيء على مايرام، ونحن نقدم إنموذجاً ديمقراطياً غير معهود في المنطقة !!
المهم بالنسبة لهم التقيد بالدستور الذي لا يتقيد به أحد ، ولا يحترمه أحد ، ويخرقه كل أحد.
كأني بهؤلاء الذين إجتمعوا تحت إمرة بريمر، لينقاشوا نصاً مُقدماً لهم، لا يجوز لهم التعرض لجوهره، وسُمح لهم بأن يضيفوا فقرة هنا، وأخرى هنا، ويطيلوا في ديباجه إنشائية تزيل بعض مخاوفهم الأبدية، وتشعرهم زوراً بأنهم لم يعودوا مضطهدين بعد الآن، فلن يدخلوا السجون، ولن يمنعهم أحد من اللطم، وحتى التطبير، لكن لحومهم ستهرس في الشوارع، والأزقة، والأسواق، ومجالس العزاء، ولن يمنحوا علاجاً مناسباً، ولا تعليماً كافياً، سيضطرون لوضع شهاداتهم التي حصلوا عليها في الإدراج، ويقبلوا ألإنخراط في جيش أو حماية متنفذي آخر زمن، أو القبول ببيع الماء والسجاير في الطرقات ، كأني بهم قد جاؤوا بما لم يجيء به الأولون، ولا الآخرون، رغم أن دستورهم هذا منقول بالنص من قوانين مبثوثة هنا وهناك، هي نتاج تجارب الآخرين، وإلا فهل لأحد أن يبين لنا الموقع الإعرابي لنص ورد في النسخة الأولى، يدعو لتحريرالعبيد، وكأننا في عهد إبراهام لنكولن!
يتحدث هؤلاء، وبالأخص من أسهم في صياغة الترجمة التي سموها دستورهم، وكأنه كمن ( جاء بالذيب من ذيله) كما يقول أخوتنا أبناء الكنانة .
وعلى إفتراض أننا، نحن من كتب الدستور، وقد وضعناه بناء على مقتضيات حالنا آنذاك ونحن في ظل الإحتلال، فقد تغيّرت الحال، وهذا على الأقل ما يتضح لكل ذي بصيرة ، وإستبانت لنا جميعاً الثغرات المميتة والقاتلة في هذا الدستور، وتلك الفقرات التي تمنع إلزاماً وبحكم فقراته التي صيغت بخبث ما بعده خبث، من وجود دولة عراقية موحدة، ووجود حكومة مركزية تتمتع بقدر من السيادة، وقادرة على العمل، والنهوض بالبلد عبر خطط تنموية، ترى الجماهير مفاعيلها رؤية العين، لأنها ملموسة وليست على الورق. على إفتراض هذا فإن الدستور، شأنه شأن كل الدساتير في العالم ليس مقدساً ولا أبدياً ، لأن من صاغه ليسوا مقدسين، ولا مؤبدين، ولا الحالة التي صاغوه فيها مؤبدة وغير متحولة أو متغيرة . الدستور ليس أكبر من الشعب، ولا أهم من الوطن الذي نراه بفعل بنود الدستور يتفتت أمام أنظارنا.
كل حديث عن معالجة العلل في الحالة العراقية محض هراء ولغو، إذا لم يعالج الأسباب الحقيقية للتشتت والفساد، والضعف، والفوضى، وهوان العراق، وإفتقاد الأمن والإستقرار، وتوقف عجلة التطور والنمو، وواحدة من أهم الإسباب هي بعض فقرات الدستور، التي شرعنت للطائفية والتقاسم الطائفي، وإسستبعاد الكفاءات، وإحلال غير الكفوئين في كل مفاصل الدولة، وحكماً إشاعة الفساد ، وهمشت الوطنية ، وأحلت محلها المذهبية والعنصرية والمناطقية، التي تمثلت بالتطبيق العملي بما سموه " الكيانات"، فالعراق ليس بلد العراقيين، وإنما بلد المكونات، التي تستحيل في التطبيق العملي إلى ممثلين حصريين لهذه المكونات، ينطقون بإسمها، لكنهم لا يعبرون عنها، ولا عن مصالحها، وإنما يعبرون عن مصالحهم هم، ومصالح من يرتبط بهم من جيوش النفعيين الذين هم في خدمة كل صاحب نفوذ ، يتمتعون بكل خيرات البلد، ويقتسمون الكعكعة فيما بينهم ، بحيث يقتسمون 80% من الميزانية العامة ، وما تبقى لما يسمى بالعراق، وحتى ما تبقى تتم سرقته عبر أشكال وخطط لا تخطر ببال إبليس!
العراق يفتقر، والجماهير العريضة من أطيافه ومكوناته تزداد فقراً وتهميشاً ، ومن نصّب نفسه ممثل الكيانات يزداد غنى بلا حدود، ويزداد تحكماً بمفاصل الحياة كلها، إقتصاداً وإعلاماً، وقوة ضاربة، بحيث يكون لكل منهم جيشه الخاص، وقواته الخاصه، وميليشياته التي يحركها وقتما يشاء وبالكيفية التي يشاء .
هؤلاء هم من يريد أن يجعل من الدستور قرآناً لا يُمس، لأنه ضمن مصالحهم ، لكنه لم يضمن مصالح الشعب والوطن، لقد منحنا جمل وتعابير جميلة، لا مصداقية لها على أرض الواقع، قال لنا "الشعب مصدر السلطات "، وتبين أن مجموعة من القطط السمان المتخمة، والمتحكمة بكل شيء، هي مصدر السلطات ، لا الشعب .
لقد سلبنا دستوركم ( عراقنا) ، ويريد منا أن نبدله بـ ( شيعة ستان) ، و (سنة ستان) ، و(كردستان)، وبدل أن يكون لنا رئيس جمهورية واحد ، ورئيس وزراء واحد، وبدل أن تكون لنا سفارة واحدة في كل بلد أجنبي ، سيكون لنا أكثر من عشرين رئيس ، وأكثر من عشرين رئيس وزراء ، وآلاف الوزراء ونوابهم، وما لا يُحصى من السفراء والقناصل في أقطار المعمورة، وكل هذا سيستنفذ واردات النفط ، حتى لو صدرنا عشرة ملايين برميل يوميا، أما الشعب فسوف يصفونه في المناسبات، في قاعة فارهة، أو كراديس في الهواء الطلق، للإستماع لخطبة هذا المعمم، وذاك الزعيم، وهذا الشيخ، ثم يمنحون وجبة غذاء ، أو فانيلات داخلية عليها صورة المحروس ، بعد أن تحمّر أكفهم من التصفيق .
No comments:
Post a Comment