العُودُ أَعْوَجُ
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 17 أكتوبر 2015)
من الأقوال المأثورة للدكتور طه حسين (تَحدُثُ فى مصر أمورٌ لم يسمع بها أحدٌ من أهل الأرض).
فى سنوات مبارك الأخيرة صار عُرفاً أن يقوم رؤساء المؤسسات العامة بتقديم هدايا عينية باهظة الثمن من المال العام إلى كبار المسؤولين فى الدولة .. وكان المسؤولون يقبلونها باعتبارها حقاً مُكتسباً وليس كسباً غير مشروع .. حَمَدنا الله أن ثورة يناير قامت قبل أن يتحول العُرف الفاسدُ إلى قانون (يتمنى البعضُ الآن لو استمر الفسادُ عُرفاً فقط كما كان) .. وكان من أشهر القضايا بعد الثورة ما عُرِف إعلامياً بقضية (هدايا الصحافة والإعلام) وكان طَرَفاها فريقين .. الذين قدّموا الهدايا لأن ذلك (قَطعاً) تسهيلٌ لاستيلاء الغير على المال العام .. والذين قَبِلُوا الهدايا لأن ذلك (قَطعاً) كسبٌ غير مشروع .. بادر حوالى أربعين شخصاً بِرَدِّ قيمة الهدايا، من بينهم زكريا عزمى وصفوت الشريف .. والسيد المستشار/ عادل السعيد رئيس المكتب الفنى للسيد النائب العام الأسبق .. لم أندهش لقيام الأستاذ/ أحمد الزند مؤخراً بتعيين المستشار/ عادل السعيد رئيساً لجهاز الكسب غير المشروع (!)، إذ أن تعيين السيد الزند نفسه وزيراً للعدل قبل ذلك كان قد استنفد كل مخزون الدهشة عندى.
فى مارس الماضى صدر القانون الكارثى المشهور بقانون (ادخلوها فاسدين)، أعنى القانون رقم (16) المُعَدِّل لقانون الإجراءات الجنائية، الذى أجاز لأول مرةٍ فى التاريخ المُعاصر (فى مصر والعالم) ما ظل محظوراً دستورياً، وهو التسوية الودية والصلح مع مُرتكبى جنايات الاعتداء على مصالح الدولة والمنصوص عليها فى قانون العقوبات مثل (جرائم اختلاس الأموال العامة والخاصة والاستيلاء عليها بغير حق/ جريمة الغدر أو طلب أو أخذ ما ليس مستحقاً من غراماتٍ وضرائب/ جرائم محاولة التربح من أعمال الوظيفة والإخلال بتوزيع السلع/ جرائم إحداث الضرر بالأموال والمصالح عمدًا بالإهمال/ جرائم الإخلال بتنفيذ بعض العقود الإدارية وعقد المقاولة/ جريمة استخدام العمال سُخرةً/ جريمة تخريب الأموال الثابتة والمنقولة) وأن يكون هذا التصالح خارج ولاية القضاء حتى لو صَدَرَ حُكمٌ جنائىٌ بالإدانة والعقوبة، وبالقيمة التى تُقَدرها لجنةٌ حكوميةٌ يشكلها رئيس الوزراء ويشارك بها محامو السادة اللصوص(!) ولا يوجد ما يمنع مشاركة السيد اللص شخصياً لكى تكتمل البَرَكةُ .. أعتقدُ أن طه حسين لم يخطُر بِبالِه أن الأمور التى تَحَدّثَ عنها يمكن أن تصل لمثل هذا القاع.
هذا هو القانون الأصلى وكل ما ينبثق منه مجرد فروع، لذلك يُدهشنى اندهاشُ البعض من التعديلات الأخيرة على قانون الكسب، فكلها تطورٌ طبيعى وتنويعاتٌ على اللحن الأساسى، وكما يقول عبد الله النديم (كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟!).
كان القانون الأصلى (رغم ما به من عوار) لا يعفى من العقوبة شركاءَ اللص (كالموظف العام الذى سَهّل له السرقة مثلاً) لكن التعديل الأخير جاء ليشمل بعفوه كل العصابة، فيعود كلٌ مِن أفرادها (بالقانون) خالياً من الذنوب كيوم ولدته أُمُهُ .. يُخرجُ لنا لسانه .. ويمضى واثقاً نحو البرلمان .. ومن يدرى فقد يُصبح وزيراً .. شخصياً لن أندهش لو صَدَرَ تعديلٌ على التعديلات يَنُصُ على مكافأتهم بأوسمة (كوسام الجمهورية الذى حَصَلَ عليه محمد إبراهيم سليمان).
فى الأسبوع الماضى وَجّه وزيرُ العدل دعوةً لهؤلاء جميعاً للاستفادة من التيسيرات الجديدة وقد عدَدّها رئيس الجهاز نَصّاً (انقضاء الدعوى الجنائية وجميع الإجراءات التحفظية ومنها التحفظ على الأموال والمنع من السفر، ووقف تنفيذ العقوبات المقيدة للحرية وامتداد أثر التصالح إلى جميع المتهمين وإلى جرائم العدوان على المال العام وغسل الأموال المرتبطة بجريمة الكسب غير المشروع) .. الخُلاصةُ أن الكسب غير المشروع قد صار مشروعاً .. كثيرٌ من الخبراء يؤكدون أننا بهذا القانون نمضى بِخُطىً سريعةٍ نحو نادى دول غسيل الأموال (لا كان هذا اليوم يا رب .. مصرُ أَكرمُ عندك من هذا وأشرف).
أدهشتنى صيغةُ البيان الصادر عن الجهاز مُبَرِراً صدور القانون بأنه جاء (تحقيقاً للمطالب الشعبية وتوعية المواطنين)، إذ على حد عِلمنا لم يحدث أن طالب الشعب باستباحة المال العام، فعن أى شعبٍ يتحدثون؟! كما أننى لم أفهم كيف سيؤدى القانون إلى (توعية المواطنين)!!.
الشئُ اللافِتُ أن كل هذا التدليل الإجرائى يتركز على لصوص المال العام فقط ولا يمتد للصوص المال الخاص (كَقُطّاعِ الطُرُق ولصوص السيارات والمساكن وحقائب السيدات) مع أن القانون الأصلى يُساوى بين اللصوص .. أم أن التمييز الطبقى حتى فى ذلك؟! .. رَحِمَ اللهُ طه حسين .. ورَحِمَ اللهُ عبد الله النديم .. ورَحِمَ اللهُ مصر.
No comments:
Post a Comment