هل سيدشن ترامب سياسة الإنكفاء على الذات الأمريكية ؟
صباح علي الشاهر
الإنكفاء على الذات هنا مرادف للإنعزالية السياسية ، والإنعزالية فيما يتعلق بالدول تعني أن الدولة تنهج سياسة تعزل بها بلدها عن الشؤون العالمية، وبهذا المعنى فسياسة أمريكا في القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين كانت كذلك، أي أن لأمريكا تأريخ طويل في إنتهاج هذه السياسة، وهناك ما يبرر لبلد كأمريكا إنتهاج مثل هذه السياسة ، فأمريكا قارة باذخة الغنى، هي إتحاد لواحد وخمسين دولة، ولديها كل ما تحتاجه، وسوقها الداخلي لا يعيق تطورها الإنتاجي والتكنولوجي والعلمي، وتستطيع عبر موانئها المبثوثة على ضفتي أهم وأكبر المحيطات، ومطاراتها المنتشرة على كامل التراب الأمريكي، أن تتاجر مع الدنيا، فالإنكفاء على الذات هنا لا يعني الإنقطاع عن العالم، وإنما يعني عدم التدخل في شؤونه، والإبتعاد عن المساهمة في تأجيج خلافاته، والغوص في تعقيداته، فهل هذا متاح لأمريكا التي أضحت منذ أمد إمبريالية مكتملة؟ .
لقد كرست أمريكا نفسها خلال عقود كقائد أوحد للعالم، وعززت هذه القيادة بتشريعات وقوانين ونظم أسهمت هي في صياغتها وإقراراها في المحافل الدولية، بحيث أصبحت أدبيات مابات يعرف بالمجتمع الدولي، والنظام الدولي، ومن أجل إنتهاج سياستها المقترحة في الإنكفاء على الذات يستلزم منها لا التخلي عن هذه القوانين والأنظمة فقط، وإنما إسقاطها، وإنهاء العمل بها، ولنأتي هنا بمثال حي ( التجارة الحرة وحرية السوق) ، لقد فرضت أمريكا أثناء عزها هذه القوانين لإستباحة أسواق العالم الآخر، الأضعف إقتصادياً، مما تسبب في كوارث للصناعات الوطنية والنمو في بلدان ما كان يعرف بالعالم الثالث، وأرادت عبر الشركات متعددة الجنسيات، التي كانت بقيادتها، الهيمنة كلياً على إقتصاديات العالم لا تسويقاً فحسب بل إنتاجاً وإستخراجاً، وغاب عنها أن التكنولوجيا الحديثة لم تعد حكراً على أحد، وحيث أن السوق يجذب الأرخص، فقد غزت الأسواق منتجات الصين وشرق آسيا الرخيصة، بسب رخص اليد العاملة، وعدم المبالغة في الإرباح، بحيث إنقلب السحر على الساحر، وباتت أسواق أمريكا سوقاً تصريفية للمنتجات الصينية واليابانية والآسيوية، وقلبت على نحو درامتيكي الميزان التجاري بين أمريكا ودول كالصين واليابان رأساً على عقب، وبفوارق فلكية لصالح الدولتين، وبالأخص الصين. والأرقام الاقتصادية في هذا الجانب تشكل رعباً حقيقيا يواجه أي سياسي أمريكي ، فإما السير على نهج التجارة الحرة وحرية السوق، ومن ثم وضع أمريكا في مكانها المناسب، وهو بالمناسبة خلف عمالقة آخرين مثل الصين، أو التخلص من هذا المأزق الذي صنعته هي بنفسها، ولذا فليس من المستغرب أبداً أن نجد الصين، واليابان إلى حد ما سيقفان بوجه السياسة الإنعزالية التي قد ينتهجها ترامب وإدارته الجديدة .
إن إنتهاج أمريكا لسياسة الإنكفاء على الذات ستواجه مخاطر أخرى، من نوع لا يقل خطورة عن الاقتصاد، وهو موقع أمريكا في المحافل الدولية، وبالأخص هيئة الأمم المتحدة ومجلسها، وسيثار سؤال جدي عن مغزى إمتلاك أمريكا لحق النقض ( الفيتو) في مجلس الأمن الدولي إذا كانت تنأى بنفسها عن مشاكل العالم وأزماته، وهذا مما يؤدي بالضرورة إلى تغييرات كبرى وإنقلابية ستبدأ حتماً من مجلس الأمن ، وصولاً إلى بقية المحافل ، خصوصاً أن لا دولة تعشق أمريكا لذاتها ، حتى أكثر الدول تعلقا وتمسحاً بها، بسبب العنجهية الصارخه والإبتزاز الفج التي وسمت سياساتها أثناء مكوثها على قمة هرم قيادة العالم .
وتأسيساً على ما ذكر أعلاه ، سيطرح أمر مبرر قيادة دولة إنعزالية لحلف شمال الأطلسي ( الناتو) ، والناتو أسس بداهة للتدخل في شؤون الدول المارقة !، أو لحماية أعضائه ، وسوف لن يكون ثمة دولة مارقة في نظر الإنعزالين ، فبوتين صديق للرئيس ، والدول الأوربية مسؤولة عن حماية نفسها ، فلماذا على أمريكا حمايتها؟
ثم ماذا سيفعل ترامب بما يقارب الألف قاعدة عسكرية أمريكية ، موزعة على 130 بلداً من بلدان العالم، مهمتها المعلن عنها الحفاظ على البلدان الموجودة على أرضها، ومهمتها الحقيقية تطمين مصالح أمريكا ، وتعزيز هيمنتها على العالم؟
ليس بمقدور أحد تحديد حجم الأموال التي تنفق على هذه القواعد إلا تخميناً ، بسبب السرية المضروبة على هذا النوع من الإنفاق، لكنها بكل الأحوال تثقل كاهل الميزانية الأمريكية، وتسبب تململ المواطن الأمريكي ، لأنها تنمو وتتكاثر على حساب تقليص منافعه وحقوقه في السكن والصحة والتعليم .
من حق المواطن الأمريكي أن يتساءل عن الحاجة لوجود قواعد أمريكية في المانيا مثلاً ، علماً أن الألمان يرفضون هذا التواجد، ولديهم في كل موسم مظاهرات في هذا الشأن ، شأنهم شأن زملائهم في اليابان الذين دأبوا منذ أمد بعيد على تسيير مظاهرات ضد تواجد القواعد على الأرضي اليابانية .
كان المبرر لتواجد هذه القواعد في المانيا، حماية المانيا الغربية من المانيا الشرقية الشيوعية ، فأين هي المانيا الشيوعية الآن ، لقد أضحت المانيا واحدة ؟، وقالوا حمايتها من حلف وارشو ، فأين هو حلف وارشو؟ ، وقالوا حمايتها من المعسكر الإشتراكي ، فأين هو المعسكر الإشتراكي؟ وقالوا حمايتها من الإتحاد السوفيتي، فأين هو الإتحاد السوفيتي؟
لقد تغير العالم ، لقد إنتهى القطبان منذ أمد، والآن ينتهي القطب الواحد لينشا واقع أخر ، يحتاج إلى أدوات ومفاهيم جديدة .. الوقائع على الأرض ستفرض نفسها ..
No comments:
Post a Comment