Friday, 18 November 2016

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: الحجَّار الذى تتفجر منه الأنهار

الحَجَّارُ الذى تتفجر مِنْه الأنهار
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام- السبت 19 نوفمبر 2016)
من الفنانين مَن هو أكثر عمقاً وثقافةً من فَنِّه المتواضع .. ومنهم مَن هو على العكس من ذلك، أي شديد الخواء وأقل كثيراً من الانطباع الذى يتركه فنه عنه .. أما الخلود فلأولئك الذين يتطابقون مع فنهم عمقاً وسُمُوَّاً، وعلى الحجار واحدٌ من هؤلاء .. هو مِرآةُ فنه مثلما أن فَنَّه مرآةُ شخصيته .. لستُ ناقداً فنياً ولكننى أتحدث بانطباعاتِ مُستمعٍ ضمن الملايين من مُعجبيه، وصديقٍ اقترب منه منذ أن شرفنى بصداقته الصديقُ المشترك المبدع أسامة غريب.
هو أيضاً مرآة أبيه .. ورث عن أبيه المطرب والملحن إبراهيم الحجار مزيجاً عجيباً لا يجتمع إلا فى صعيدى: شدة البأس (أو سَمِّها الاعتداد بالنفس) وعذوبة المشاعر ورِقَّتها .. عندما تقرأ عن إبراهيم فكأنك تقرأ عن على .. هذا أبٌ فنان وَرَّثَ أبناءه جينات الفن لا مناصبه .. لذلك نجح الابن وفاقت شهرتُه شهرةَ أبيه .. على العكس من الفنانين الذين فرضوا أبناءهم على الفن عنوةً فكان الفشل نصيبهم ونصيب الفن فى آنٍ واحد .. كان الأب مطرباً معتمداً فى الإذاعة لجمال صوته فى منتصف القرن الماضى، إلى أن طلب منه مديرٌ متسلطٌ ومستظرفٌ للإذاعة أن يُغيّر لقب (الحجار) .. لم يكن إبراهيم الحجار ممن يجيدون المجاملة أو النفاق فرفض بحدةٍ تغيير لقب عائلته ولو فى إطار الهزار، ليجد نفسه فجأة خارج الإذاعة بدون عملٍ، يكابد الحياة وتكابده .. بعد ربع قرنٍ كان الابن على يتعرض لموقفٍ مشابه .. أذكر أننى قرأت مقالاً لكاتبٍ مشهور فى السبعينات عبارة عن استظرافٍ وسخرية من لقب المطرب الجديد (وقتها) على الحجار .. لم يتحدث عن الصوت ولا الكلمات ولا اللحن وإنما عن اسمٍ لا يليق بمطرب .. رغم (إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) .. لم يتأثر على ولم يتخذ لنفسه اسماً فنياً واحترم فنه وأخلص له إلى أن صار (الحجار) عنواناً للعذوبة والجمال .. وبقى اسمه وسقط اسم الكاتب من ذاكرة الشعب.
لا يعلم كثيرون أن على من المُجازين من الأزهر كمقرئٍ ومُجَوِّدٍ للقرآن الكريم، ولديه تسجيلاتٌ للقرآن بصوته يختص بها بعضاً من أصدقائه ولكنها ليست للتجارة والنشر .. ولعل ذلك سر إتقانه للغناء بالفصحى .. وهو فى ذلك يسير على خطى جده، الذى كان من كبار المنشدين الدينيين.
الاعتذار لله عبادةٌ وللناس شجاعة .. على الحجار شجاعٌ وأوَّاب .. لم أعرف فناناً قبله يعترف بأخطائه على الهواء .. هو يعتقد بيقينٍ أنه عندما يكون متصالحاً مع ربه يُلقى اللهُ في قلوب الناس محبته، والعكس صحيح .. قال لى ذات مرة: إذا أخطأتُ أبكى فأرتاح .. بكاء الرجال قوة.
اكتشفه بليغ ووقع معه عقد احتكار، فلما نجحت أغنيته الأولى أَعتَقَه الكبير بليغ حمدى من الاحتكار وسمح له أن ينطلق بفنه مع غيره .. وكان (غيره) هذا هو الكبير سيد مكاوى الذى رشحه له الكبير صلاح جاهين ليغنى له رباعياته .. كان من نِعَم الله عليه أن وضعه بين أيدى الكبار فى مستهل صعوده .. فكان شكر النعمة أنه لم يبتذل فنه وحرص على ألا ينزل عن هذا المستوى مهما كانت المُغريات .. ولحرصه على تقديم الأغانى التى تخاطب الوجدان لا الغرائز، وحتى لا يجبره أحدٌ على غناء ما لا يريد، صار يُنتج أغانيه بنفسه رغم ما فى ذلك من مخاطرة.
في رحلة صعوده المستمر لم يكتفِ الحجار بصيانة صوته الجميل وإنما حرص على قوة الجناحين اللذين يُحَلِّق بهما: الكلمة واللحن .. فطار بكلمات شعراء من وزن محمود درويش وعبد الفتاح مصطفى وسميح القاسم وصلاح جاهين وجمال بخيت وسيد حجاب وعبد الرحيم منصور .. وأنغام ملحنين من وزن بليغ حمدى وسيد مكاوى وعمار الشريعى وغيرهم.
تقول ماجدة الجندى فى أحد مقالاتها بالأهرام (ربما يحظي بعض أصحاب الركاكة، بكثيرٍ من الهيمنة والتسيُّد فتراتٍ من الحياة، لكن الناس تملك حساسيةً مدهشةً وعادلةً بحيث تضع "الصدق" وجوهر "البذل" الحقيقي حيثما ينبغي أن يكون، وبما يليق به وإن طال المدي) .. وأحسب أن على الحجار من أولئك الصادقين والمخلصين لذلك استحق حُبَّ الناس .. عندما تُصبح البذاءةُ والتلوث السمعى مجالاً للتنافس، يصبح الاحتفاء بأمثال على الحجار فرض عينٍ على كل مصرى .. ومن واجب مُحبيه (وكاتب السطور واحدٌ منهم) أن يقولوا له: نحن نحبك .. أخى على .. نحن نحبك وندعو الله أن يزيدك تألقاً ويرسم السعادة فى قلبك بقدر ما احترمت فنك واحترمت جمهورك وأدخلت على قلوبنا البهجة فى زمنٍ عَزَّت فيه أسبابها .. يا أبا جَنَى.








الحَجَّارُ الذي تتفجر مِنْه الأنهار



No comments:

Post a Comment