يحدث فى عهد الرئيس المُهَذَّب
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(نُشِر فى البداية- السبت 12 نوفمبر 2016)
يحدث فى مصر الآن .. إذا أردتَ أن تستبيح أى إنسانٍ أو قيمةٍ، فما عليك إلا أن تهتف باسم الرئيس ثم تردد (تحيا مصر) ثلاث مرات ثم افعل ما شئتَ فأنت آمنٌ من العقاب .. ومَن أَمِنَ العقوبةَ أساء الأدب .. أو قُم بسب الإخوان ثم خذ راحتك فى سب من تريد من غير الإخوان.
أعجب لمن فوجئ بطوفان البذاءة المتدفق من شاشة قناة السيد حسن قبل يومين .. فمصر منذ أكثر من عامين تعيش فى هذا المستنقع الذى ابتلع كل الفضائيات بتدخلٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ من أجهزةٍ سياديةٍ فى الدولة .. لكن دخول قناة السيد حسن على شبكة الصرف الصحى الفضائية بهذا المستوى من الفُحش مؤشرٌ له دلالته .. فقرون الاستشعار لدى الرجل تُوجهه إلى حيث يرضى الرئيس .. أى رئيس .. كان الرجل أحد الدعائم الإعلامية لحزب مبارك .. ويحتكر نقل مؤتمراته .. فلما قامت الثورة وسقط مبارك ثم تولى الرئاسة الرئيس الإخوانى محمد مرسى، فاجَأَنا سيادته بأن اسمه الكامل هو حسن البنّا ولكنه كان يُخفى (البنا) خوفاً من بطش النظام المباركى (!) .. المشكلة أن الرجل لم يهنأ باكتمال اسمه كثيراً .. إذ قبل مرور عامٍ تم عزل الرئيس الإخوانى، فلم يجد السيد حسن أى حرجٍ فى خلع كلمة البنّا من اسمه مرةً أخرى، وهو الآن يتقدم الصفوف فى تأييد النظام الجديد وتلقيننا أصول الوطنية .. ولو استشعر الرجل أن هناك احتمالاً ولو ضئيلاً جداً لأن يغضب الرئيس المهذب غضباً حقيقياً من هذا التفحش فى حق المختلفين معه لما أقدم على ما يفعل، لا سيما وأن ضيوفه ومذيعيه المتفحشين لم يُعرف عنهم إلا الانبطاح الكامل لكل الأنظمة، إذا طُلِب منهم أن ينهشوا شريفاً فاقوا رَدَّاحات الحوارى، وإذا طُلِب منهم أن يصمتوا بادروا بقطع ألسنتهم .
ما أشبه الليلة بالبارحة .. قبل ربع قرنٍ، تناثر السباب البذئ من فم وزير الداخلية الأسبق زكى بدر (غفر الله له) فى مؤتمرٍ جماهيرى .. وأصاب لسانُه الجميع (باستثناء مبارك طبعاً) .. واستخدم ألفاظاً يَعَفُّ القلمُ عن كتابتها .. بدأ بالهجوم التقليدى على جماعة الإخوان ومرشديها من الأول للأخير، ثم انتقل إلى رموز المعارضة كإبراهيم شكرى.ومحمد حلمى مراد وخالد محيى الدين وفؤاد سراج الدين .. ثم قِمَم الصحافة والفكر كأحمد بهاء الدين ومحمد السيد سعيد ويوسف إدريس وفتحى رضوان .. ولم يتحرك مبارك .. قَدَّم فؤاد سراج الدين وإبراهيم شكرى احتجاجاً للرئاسة ولم يتحرك مبارك .. فأرسل أحمد بهاء الدين مقالاً غاضباً للأهرام جاء فيه (إنَّ مِنْ حق الدولة أن تقبض على مواطنٍ وتحاكمه وتعدمه ولكن ليس من حقها أن تجعل شرطياً يصفعه على قفاه، فالإهانة شئٌ آخر) .. عند ذلك فقط أُجبر بدر على الاستقالة وسُحِب المقال من المطبعة .. كان حول مبارك فى سنواته الأولى من ينصح فيستجاب له أحياناً .. استبطأنا تبلد مبارك أسبوعاً قبل أن ينهى تلك المهزلة .. أما فى عهد الرئيس المهذب فإن الطفح متواصلٌ منذ أكثر من عامين تحت إشراف أجهزته ورعايتها ورضاها .. لم يشتهر مبارك بأنه رئيسٌ مهذب، بل حكى القريبون منه عن النكات البذيئة التى كان يحب سماعها وترديدها، لكنه كان محظوظاً بحاشيةٍ فيها بعض الأسماء الثقيلة من وزن أسامة الباز التى كانت تستر عورته فى مثل هذه المواقف .. ومنذ أن تخلص من المحترمين حوله بدأ رحلة السقوط .. ولكن ذلك حدث بعد عشرين عاماً من حكمه .. لا بعد عامين فقط .. سيقول قائلٌ إن بعضاً من خصوم الرئيس يتباذؤون أيضاً .. نعم ونحن نرفض ذلك بالقطع .. لكنهم فى النهاية أشخاص .. أما الدولة فمقامها مختلفٌ ولا يجوز لها أن تتباذأ .. لا قولاً ولا فعلاً .. لأن ذلك يُقَوِّض أُسُسَ الدولة بالمفهوم القانونى .. للأسف فإن الدولة شريكٌ فى حالة التفحش عبر أذرعها الإعلامية وكتائبها الإلكترونية وبلطجيتها الذين أطلقتهم لينهشوا فى عرض الجميع تحت حمايتها .. بل إن مجرد نكوص الدولة عن محاربة الفُحش فُحش .. للنيابة دورٌ لم تقم به دون انتظار بلاغاتٍ (مع أن هناك بلاغات) .. وللمنطقة الاقتصادية الحرة لمدينة الإنتاج الإعلامى دورٌ لم تقم به (وقد كنتُ عضواً بمجلس إدارتها قبل عزلى وأعرف يقيناً أنها تملك إيقاف المتفحشين مذيعين وبرامج وقنوات) .. أما التنصت على الحياة الخاصة للمواطنين وفبركتها ثم (تسريبها) للمتفحشين فى انتهاكٍ فاضحٍ للدستور فهو مسؤوليةٌ مباشرةٌ للدولة، سواء كانت هى التى تَنَصَّتَتْ وفَبْرَكَتْ وسَرَّبَتْ، أو لم تُعاقِب وتَمْنَع مَنْ تَنَصَّت وفَبْرَك وأذاع .. وهى جرائم لا تسقط بالتقادم وسيتم محاسبة الأجهزة والمسؤولين عنها ذات يومٍ .. عندما تكون هناك دولة محترمة .. لا شبه دولة.
No comments:
Post a Comment