سَيِّدِى إبراهيمُ الرفاعى رَضِىَ اللهُ عَنْه
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 11/7/2015)
في مِثل يوم أمس (23 رمضان) من اثنين وأربعين عاماً استُشهِد إبراهيمُ الرفاعى صائماً وكان عُمرُه اثنين وأربعين عاماً أيضاً، أي أنه الآن في الرابعة والثمانين حىٌ يُرزَقُ عند رَبِّه مع رفاقه الشهداء .. أو لعلّه كان بين أبنائه الصائمين يذود معهم عن كمين الرفاعى (لاحظوا الاسم) فى الأسبوع الماضى.
يُلقّب بأميرِ الشُهداء، وكُلُّ شهدائنا أُمراء .. كان قائد المجموعة 39 قتال التي عُرِفت بمجموعة الأشباح، والتى لم نَرَ فيلماً واحداً عن أىٍ من بطولاتها الأسطورية ضِمن سَيلِ الأفلام والمسلسلات الذى داهمنا على مدى أكثر من أربعين عاماً .. هُم فِتيةٌ آمنوا بربهم وتعاهدوا على الموت فى سبيل مصر .. يُحكى أَنّ مِزاحَه مع رجاله كان بأن ينزع فتيل قنبلةٍ يدويةٍ ويقذفها إلى المقاتل الذى عليه أن يُسرع بالتخلص منها وإلقائها إلي مكانٍ بعيدٍ قبل مرور أربع ثوان وإلا انفجرت فيه .. كانوا يتدربون علي كيفية الموت وألا يُستشهدَ الفردُ قبل أن يأخذ معه عشرةً من أرواح العدو على الأقل ثمناً لروحه .. كانت أولى عمليات المجموعة (قبل تسميتها) ولم يَمضِ على النكسة شهرٌ (4 يوليو 1967) حيث نسفت قطاراً للعدو ثم مليون صندوق ذخيرة فى المخازن التى تركتها قواتنا عند انسحابها .. كانت عمليةً مُرَوِّعةً عند الشيخ زويد .. ولم يخطر ببالهم يومها أن نفس المنطقة التى شهدت بطولتهم ضد الصهاينة ستشهد اعتداء بعض السَفَلة من بنى جلدتهم على ذُريّتهم من أبطال الجيش المصرى .. والحمد لله الذى اصطفاهم إلى رحابه قبل أن يشهدوا هذه الفجيعة .. عندما طَلَبَ مِنه عبدُ المنعم رياض إحضارَ صاروخٍ بأىّ ثمنٍ من تلك التى نشرتها إسرائيلُ حديثاً على الضفة الشرقية للقناة لدراسة تأثيراتها المحتملة على قواتنا، لم يكتفِ الرفاعى ورفاقُه بصاروخٍ وإنما أحضروا معهم ثلاثة صواريخ وعدداً من الأسرى .. وعندما استُشهد رياضٌ نَفسُه طَلَبَ منهم عبدُ الناصر الثأرَ فى ذكرى الأربعين فانقضوا على الموقع الذى قَتَلَه وأبادوه عن آخره.
ونقفزُ إلى استشهاده، فبعد بطولاتٍ خارقةٍ فى عُمق سيناء أثناء معركة أكتوبر، صَدَرَت إليه الأوامر بالارتداد لتطويق الثغرة، وعندما وصلوا كانت الثغرة قد استفحلَت ووجدوا أنفسهم فى قلبها فلم ينسحبوا .. ويصف أحد رفاقه ما حَدَث (أيقنا أننا مَيّتون لا محالة فودعنا بعضَنا .. وقررنا أن نفعل شيئاً ذا قيمةٍ قبل أن نموت، و"هِجنا هياج الموت" وصعد أربعةٌ مِنّا فوق قواعد الصواريخ وبيننا الرفاعى، وبدأنا في ضرب دبابات الصهاينة الذين لاحظوا أن الرفاعي يُعلّق برقبته ثلاثة أجهزة اتصال فعرفوا أنه القائد، ورأينا مجموعةً كاملةً من مدافعهم تخرجُ من مكامنها لتضربنا .. فقفزنا من فوق القاعدة وحاولتُ أن أسحب يدَه ليقفز ولكنه "زغدني" ورفض أن يقفز .. وظل يضرب العدو حتى أصابته طلقة .. ونجحنا فى تهريبه لمستشفى الجلاء والدماءُ تملأ صدره .. واستُشهد صائماً فقد كان يأمرنا بالإفطار ويرفضُ أن يفطر .. وتسلمنا جثته بعد ثلاثة أيام .. وفي حياتنا لم نَرَ ميتاً يظل جسمُه دافئاً بعد وفاته بثلاثة أيام وتنبعث منه رائحة المسك).
انضم الرفاعى من ساعتها إلى طابورٍ مُقَدّسٍ من شهدائنا الذين نعلمهم وأضعافِهم من الذين لا نعلمُهم ولكن الله يعلمُهم .. أولئك الذين حفظوا لهذا البلد ديمومته .. يعيشون عاديين بيننا ويفعلون الأعاجيب فى وقت الشدة ويَفدوننا بصدورِهم دون أن يطلبوا مِنّا جزاءً ولا شكوراً، مع أن لهم مثلنا أحلاماً شخصيةً يريدون تحقيقها، وصِغاراً يَتُوقُون إلى احتضانِهم فى أول إجازة .. لكأننى شاهدتُ الرفاعى مُتهللاً فى الأسبوع الماضى وقد عاد إلى الشيخ زويد يُقاتل مع ذُرِيّتِه من الرجال وقد (هاجوا هياج الموت) .. كانوا وبينهم الرفاعى مُتحصنين فى أكمنتهم صائمين ومُدافعين عن وطنٍ أَحَبّوْه دون مَنٍّ .. ويصنعون بأرواحهم ودمائهم سياجاً حارساً لهذا الوطن وكل من يعيشون على أرضه، بمن فيهم أولئك المتنطعون الذين لا ينالُهم منهم إلا الشماتةُ والسخرية... ما أروعَ النُبْل فى وجه الحَقَارة.
فيا سيدى إبراهيم الرفاعى .. ويا كُلّ ساداتنا الشهداء السابقين واللاحقين .. رَضِىَ الله عنكم وأرضاكم وجَزَاكم عن مصر خيراً .. ولا يحزنكم ما يفعل السفهاءُ والمتنطعون والشامتون والخَوَنَةُ منا .. واسلمى يا مصر.
No comments:
Post a Comment