Monday, 6 July 2015

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: وطن عويس

 
وَطَنُ عويس
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الوطن 7/7/2015)
 
هذه القصة الحقيقية رواها أديبنا الكبير جمال الغيطانى حيث عايَشَها من خلال عمله كمراسلٍ حربىٍ أثناء حرب الاستنزاف ..  كان الفتى عويس يعيش فى السويس بلا أهلٍ ولا أقارب مع قليلين ممن لم يغادروا المدينة بعد التهجير .. كان قد أتى للسويس منذ عدة سنواتٍ صبياً عمرُه سبعُ سنوات بصحبة بعض أقاربه الصعايدة بحثاً عن الرزق، رحلوا هم تِباعاً وبقى هو وحيداً.
ظَلّ عويس فى السويس بعد النكسة وقد قارب على العشرين من عمره، يعيش على قروشٍ قليلةٍ هى حصيلة شرائه لكميةٍ من الجرجير والليمون من المزارع المحيطة بالسويس ثم بيعها للجنود الذاهبين إلى وحداتهم .. كان قد انضم لعناصر المقاومة التى تعبر القناة من آنٍ لآخر تحت إشراف المخابرات المصرية .. فى أحد الأيام فاجأه قائده بأن يستعد لتنفيذ إحدى عمليات العبور .. تَمَلمَلَ عويس، إذ لم يكن قد باع حِصةَ اليوم من الجرجير والليمون .. فقال له الكابتن غزالى بِحسمٍ (عليك أن تختار بين قروش الجرجير وبين الوطن) .. دون ترددٍ قال (الوطن) وذهب معهم واستُشهد .. عويس الذى لم يُعطه (الوطن) الأسرة ولا التعليم ولا المنصب ولا العمل اختار (الوطن)، دون أن يشغل نفسه بالكلام الكبير عن تعريف الوطن والانتماء وتبرير التخاذل والرغبة فى الهجرة مِن هذا البلد (الذى لم يُعطنا شيئاً) كما يقول بعض المُتنطعين فى الفضاء الإلكترونى.
فَهِم عويس معنى الوطن فهماً مباشراً دون كلماتٍ .. أو كما تقول الأغنية (بالروح يِتحّس)، فَهْمَاً جَعَلَه لا يتردد فى التضحية مِن أجلِه فى لحظةٍ بكل ما يملك من مالٍ (يوميته من الجرجير والليمون) ثم جاد بالنفس من أجله.
لم يَشْكُ عويسٌ مِنْ ظُلمِ (الوطن) له، ولم يسجد على أرضٍ غير مصريةٍ فَرِحاً بوصوله لها متحصناً بجواز سفرها .. عويس لم يكن معه جواز سفرٍ أصلاً .. مِصريتُه فى دمه لا فى أوراقه .. لم يطلب شفاعة نيكسون ولا أوباما .. هو واحدٌ من هؤلاء المصريين العاديين الذين يعيشون بيننا ويحفظون لهذا (الوطن) ديمومته فى الحرب والسلم  ويفعلون الأعاجيب فى وقت الشدة ويفدوننا بصدورهم دون أن يطلبوا مِنّا جزاءً ولا شكوراً، مع أن لهم مثلنا أحلاماً يَتُوقون إلى تحقيقها وصِغاراً يتوقون إلى احتضانهم فى أول إجازة ..  لكأننى شاهدتُ عويساً فى الأسبوع الماضى فى الشيخ زويد متجسداً فى الجندى عبد الرحمن أو النقيب محمد عادل أو الجندى إسلام أو رامى أو المقدم الدرديرى، كان عويس مُتحصناً فى كمينه فى سيناء صائماً ومُدافعاً عن وطنٍ أَحَبّه دون مَنٍّ، يموت لنحيا بمن فينا أولئك المتنطعون الذين لا ينالُه منهم إلا الشماتةُ والسخرية.
فيا كُل عويسٍ بَذَل وسيبذُل عُمره من أجل الوطن، والله  ما استمر هذا الوطن آلاف السنين إلا بأمثالك .. نحنُ مدينون لك ببقائنا .. فَطِب نفساً وأنت فى كَنَفِ رَبِّ الشُهداء .. ولا يُحزِنكَ ما يفعل السفهاء والمتنطعون والشامتون والخونة منا .. واللهم احفظ وطنَ عويس.

No comments:

Post a Comment