Friday, 2 October 2015

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: فليغفر لى آبائى القضاة

 
فلْيَغْفِرْ لِى آبائِىَ القُضاةُ
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
الأهرام 3/10/2015


أَستأذنُ الدكتور/ أيمن الصياد فى اقتباس المشهد التالى الذى جاء فى إحدى مقالاته ليكون مدخلى للموضوع (في فيلم "فاطمة" للسيدة أم كلثوم مشهدان في قاعة المحكمة، يحكم القاضي في أولهما كما تقضي قواعد العدالة بما توافر له في ملف القضية من أدلةٍ، فيُدين فاطمة "البريئة" .. فلا يرتفع صوت احتجاجٍ في القاعة التي يعرف كلُ الجالسين فيها أن الفتاة بريئةٌ .. بل يقتصر الأمرُ على تكاتف أهل الحارة الطيبين في جمع "الكفالة" التي قضى بها الحُكمُ، وغناء أم كلثوم رائعتها «السنباطية» المؤثرة "ظلمونى الناس" .. ثم تمضي أحداثُ الفيلم كما هي أفلامُ تلك الفترة، حتى يأتي المشهدُ الآخرُ (في المحكمة أيضاً) عندما تتضح "الحقيقة" للقاضي فيحكم ببراءة فاطمة، فتصدح القاعة بالهتاف الذي لا تحيا الأوطان والمجتمعات بغيره "يحيا العدل" .. ثم تنزلُ لافتةُ النهاية على صورةٍ مُعبّرة لحارةٍ هادئةٍ مطمئنةٍ بعد أن قضى القاضي مِنْ على مِنصته المهيبة العالية بما يعرف الناس قبله أنه "العدل") انتهى الاقتباس.
في هذه الحارة الهادئة المُطمَئِنة (مصر) نَشَأَ كاتبُ هذه السطور في بيت قاضٍ .. أَحَبّ فيه الأبَ وأَحَبّ فيه القاضى .. وامتزج الحُبّان شيئاً فشيئاً فى وجدانه حتى صارا شيئاً واحداً .. فصار يُبصرُ فى كلِ قاضٍ وجهَ أبيه، بِغَضِّ النظر عن السِن .. ويَغضبُ للقضاةِ إذا تطاول عليهم أحدٌ .. ألا يغضب المرءُ لأبيه؟! .. لكن الحُبَ أيضاً قرينُ العتاب .. نعتبُ على أي تصرفٍ يخدش قيمةَ العدل لدى القاضي ولو كان خدشاً شَكْلياً .. فالشكلُ جزءٌ من المضمون في العدالة .. فى ثقافة المصريين المتوارثة شعورٌ بالحب الممزوج بالهيبة تجاه القاضى .. لا لمنصبِه ولا لراتبِه ولا لسُلطتِه ولا لوضعِه الاجتماعى .. ولكن لِعَدْلِه .. وقد تعلمتُ من أبى أن القاضى يكتسبُ حصانته مِنْ عَدْلِه .. وإذا اهتز ميزانُ العدالة فى يد القاضى يفقد صلاحيته قبل أن ينزعها عنه مجلسُ الصلاحية .. وهو ما يُعبّر عنه القاضى الجليل (فعلاً) المستشار/ طارق البشرى بقوله (إن شرعية القاضى عند الخصوم الماثلين أمامه أنهم يطمئنون إلى حِيادِه).
إذا كان المُجتمعُ المصرى قد (تَعايشَ) منذ أواخر عهد مبارك مع ظاهرة تضارب المصالح، فإن الأعراف القضائية تقتلُ هذه الخطيئةَ فى مَهدها .. فقد تَرَبينا على أن القاضي إذا استشعر في نفسه (مجرد استشعارٍ) انحيازاً مع أو ضد أحد المتخاصمين، يَرّدُ نفسَه استشعاراً للحرج قبل أن يَرُدَه الخصوم .. أمّا أن يَفصِلَ القاضى أو يُحَققَ مع خَصُمِ أبيه فهو شئٌ لو سمع به شيوخنا الأجلاّءُ منذ عقدين من الزمان لاعتبروه من علامات الساعة القضائية .. لذلك لا أكادُ أُصدق أن الخبرين التاليين قرأهما الكثيرون وعامَلوهُما مُعاملةَ الأخبار العادية ..
الخبر الأول نشرته (الشروق) عن أول جلسةٍ في قضية التخابر مع قطر المُتهم فيها الدكتور محمد مرسى وآخرون، وكانت عقب استشهاد النائب العام المستشار/ هشام بركات على يد الإرهاب الأسود (حيث حضر المستشار/ محمد هشام بركات نجل النائب العام الراحل، ممثلاً عن النيابة العامة في الجلسة .. وقد بدا عليه التماسك الشديد مصمماً على القصاص لوالده بالقانون) !!!! علامات التعجب من عندى، إذ أن حجم الكارثة يتجاوز قدرتى على التعبير.
أما الخبر الثانى فلا بد من التمهيد له بتنشيط الذاكرة بأن من أشهر القضايا التى لَخّصَت فساد عصر مبارك ما سُمِّىَ (أرض العياط) حيث باعت الدولة الفاسدة 26 ألف فدان (110 ملايين متر) بسعر المتر 47 مليماً (!) لشركةٍ (استثمارية) يرأسها المحافظ الأسبق فاروق التلاوى بغرض استصلاحها، ثم قامت لجنةٌ في رئاسة مجلس الوزراء (أيام نظيف) بالموافقة للشركة الاستثمارية على تغيير النشاط من الزراعة إلى البناء مقابل رفع السعر إلى 10 جنيهات للمتر (!) ليباع بخمسمائة جنيه (!) .. تصدى لهذه المهزلة كثيرون (من بينهم الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة) لكن مَن ذهبَ بها إلى المحكمة هو النائب السابق/ حمدى الفخرانى مختصماً رئيس الشركة الاستثمارية فاروق التلاوى .. مِن نافلةِ القول أن أحداً لم يُحبس فى هذه المهزلة، لكن حمدى الفخرانى محبوسٌ حالياً في قضيةٍ ملتبسةٍ ليس هذا مجال تناولها .. لكن ما أزعجنى هو هذا الخبر الذى نشرته "اليوم السابع" وصُحُفٌ ومواقع أخرى (تم تجديد حبس حمدى الفخرانى بواسطة السيد المحامى العام الأول لنيابات جنوب الجيزة المستشار/ ياسر فاروق التلاوى) ..أدعو الله أن يكون الأمرُ مجرد تشابه أسماء .. وإلا فهى آزفةٌ ليس لها من دون الله كاشفة.
من المؤكد أن كُلّاً من القاضيين الذين تناولهما الخبران سيبذل جهده ليكون عادلاً .. لكن من المؤكد أيضاً أن إحساس المتقاضين بالعدل سيظل مجروحاً .. والعدلُ (كما يقولون) إحساسٌ.



No comments:

Post a Comment