Sunday, 10 April 2016

{الفكر القومي العربي} article

 
عن طهران وأبا ذر الثورة الإيرانية
صباح علي الشاهر
 
قبل نصف قرن قيّض لي التعرف على إيران من الداخل، كنت هارباً من البعث والحرس القومي، ترى ماذا يكون مصير عضو إرتباط في الحزب الشيوعي العراقي لو وقع بأيدي الجلادين؟!
كنت وصديقي ورفيقي هادي السيد جايد في ضيافة حزب " تودة"، وزيادة في الحذر كانوا ينقلوننا من بيت إلى آخر، بحيث قيّض لنا التعرف على طهران من شمالها إلى جنوبها .
أول ما لاحظته أن طهران " طهرانان"، طهران الشمالية، وطهران الجنوبية، الأولى أقل تديناً وعصرية منفتحة، لاهية، متنعمة، تجد فيها كل شيء، بارات، ومراقص، ومسارح، وسينمات، ودور لهو بريء، وغير بريء، ونساء يتبخترن في الشوارع وهن يرتدين أحدث الموديلات، و(مشاهد أخرى سيحين وقت التحدث عنها)، وطهران جنوبية فقيرة على وجه العموم، متدينة بإفراط، لا تجد في شوارعها امرأة سافرة إلا ما ندر، فالشادور هنا متسيد بلا منازع، تتجاور فيها أحياناً الجوامع والحسينيات.
في طهران الشمالية قلما تجد من يتحدث العربية، اللغة الثانية بعد الفارسية هي الإنكليزية ، وفي طهران الجنوبية لا يتكلمون سوى الفارسية، ولا تعدم وجود من يتكلم العربية بطلاقة، مع وجود عوائل لا تتكلم داخل جدران البيوت إلا باللغة العربية.
عندما كنا في ضيافة أحد الدور في طهران الشمالية، تبين لنا فيما بعد إنها دار جلال رياحي، عضو اللجنة المركزية لحزب تودة، والمسؤول عن إذاعة" بيكي إيران" في برلين، الناطقة باسم حزب تودة والتي ستمنح حزبنا فيما بعد ساعة من البث، لبث " صوت الشعب العراقي"، تفطنت عرضاً للأسماء، كان إسم الولد الأكبر لجلال رياحي" أرجفان" ، وإسم الولد الثاني" كوماتا"، بعد التمحيص غير الدقيق أصبحت شبه متيقن أن الأسماء العربية والإسلامية هنا تشح، وتقل لحد الندرة، أكثر الأسماء شيوعاً " شيرين " للفتيات، و" فرهاد" للذكور، على عكس الوضع في طهران الجنوبية، حيث تشيع أسماء محمد، وعلي، وحسن وحسين، وموسى، وجعفر، وكاظم، ورضا، وعباس، إلى آخر الأسماء العربية للذكور، وفاطمة، وزينب، وخديجة، ورقية، ومعصومة، للأناث..
قادتني هذه الملاحظة للتوصل إلى إكتشاف أن بعض الطهرانيين الجنوبيين محب للعرب، ليس فقط عبر التسمي بأسمائهم، وإنما الفخر بالإنتساب لهم، على العكس مما يحدث في طهران الشمالية، حيث ينظرون بتعال إلى العرب، ويعدونهم "بدو همج"، ويرونهم السبب الأساس في تخلف إيران عبر العصور، وهم يعلنون عن إنبهارهم بالغرب وحبهم له، ويحسبون أنهم ينتسبون لهم عرقياً، فهم "آريون" مثلما الغربيون، في حين أن العرب "ساميون" !!
الشوارع، والأسماء، والعمارة، والولاء، والإنتماء، والشعائر، والممارسات، واللغة والمصطلحات، والأزياء، والإهتمامات، تشعرك أنك بإزاء عالمين مختلفين، لكنهما في عالم واحد، فطهران أولا وأخيراً طهران
من السهل جداً معرفة أن العلمانيين والليبراليين الإيرانيين، مثلما القوميين الإيرانيين، يحملون نظرة إزدراء للعرب، كل العرب، وهم يتجهون بإنظارهم إلى عالم آخر، بعيد، لكنهم يرونه الأقرب والأكثر إبهاراً، سواء كان غربي " رأسمالي" أو شرقي " إشتراكي " ، ولكن من الإنصاف القول أن الطهرانيين الآخرين، المؤمنين تحديداً، وإستعمل مفردة (الإسلاميين) بعد وضعها بين قوسين، على العكس من هذا فهم يرتبطون بالعرب إرتباطاً لا فكاك له، فمن العرب محمد، وعلي، والحسين، وعند العرب مكة، والمدينة، وكربلاء، والنجف، والقدس ( القدس وقتها ما زالت تحت حكم العرب).
شيء يمكن تلمسه، من دون الجزم فيه، أن اليسار في ذلك الوقت، (نحن نتحدث هنا عن اليسار، ولا يشمل هذا القوميين الفرس، فالقوميين الفرس كانوا تغريبين، أو مندفعين مع هوس آريا مهر شاهنشاه إيران  في إعادة مجد فارس التليد)، قد ضيَق الخندق الفاصل بينه وبين الإسلاميين، ربما بسبب العدو الرئيس، نظام الشاهنشاه، فجميعهم ضحايا السافاك وبطشه، كان اليسار وكذا الإسلاميون ينظرون بتقدير عال لبعض الرموز سواء المحلية كمصدق، أو الإقليمية كجمال عبد الناصر، وكانوا يتعاونون في مجالات شتى، ومنها على سبيل المثال فيما يتعلق بإيواء الرفاق العراقيين، الذين كانوا مطاردين من جهتين، من نظام البعث في العراق، ومن نظام الشاهنشاه في إيران الذي كان يتعاون مع البعث بعد الإنقلاب ، وما قضية إعتقال العديد من الرفاق العراقيين، ومنهم الرفيق " مظفر النواب " وسجنهم في كرج ، ثم ترحيلهم وتسليمهم إلى حكومة البعث إلا مثالاً على هذا التعاون .
قيض لي ورفيقي هادي، وشخص آخر من السماوة إسمه " عبد الزهرة " أعتقل فيما بعد وسلم لحكومة البعث، أن نكون في ضيافة أحد المعممين الكبار في جنوب طهران بالقرب من مرقد أمام يحيي لعدة أسابيع،  كنا نلتقي مع الشيخ المعمم في بعض الأماسي في ديوانه، وكان يحدثنا بلغة عربية صافية، الغريب أن الشيخ عندما كان يتحدث لم نكن نفرق حديثه عن حديث أي يساري، ما خلا ذكره لآيات من الذكر الحكيم ، ثم نقلنا على عجل من الغرفة فوق السطوح في الدار الكبيرة، إلى مكان آخر في شهر ري، كانت إنتفاضة محرم قد بدأت بقيادة الأمام الخميني، فيما بعد عرفنا أن من إستضافنا في داره لأسابيع دافئة ، هو آية الله العظمى الطالقاني، الشخص الذي سيطلق الأمام الخميني عليه فيما بعد لقب " أبا ذر الثورة الإيرانية " .
 

No comments:

Post a Comment