عن صحيفة "القدس العربي" اللندنية
مصر: صراع إرادات و'فتنة ديمقراطية' وانتخابات رئاسية
محمد عبد الحكم دياب
2012-03-31
سماء مصر ملبدة بالغيوم، وأزمتها استفحلت بصراعات الساسة والسياسة، وأوشكت أن تفقدها مناعتها؛ بتأثير الصفقات التي عُقدت بين مراكز القوى على حساب المواطن وثورته، والمواطن الذي انتظر الفرج مع اندلاع الثورة وجده بعيدا ولم يأت بعد. والمعركة الدائرة الآن تجري فوق جثة الثورة وعلى أشلائها. وهذا سبب ما تتعرض له البلاد من اضطرابات ومخاطر، حدثت بفعل تراكمات عبرت عن نفسها في تعقيدات اختيار اللجنة التأسيسية للدستور والأزمات السابقة عليها والمصاحبة لها.
والأزمة الراهنة تعكس صراع إرادات لم تمر به مصر بهذه الصورة من قبل؛ أبرزها إرادتان.. إرادة 'الإسلام السياسي'، وهي في حقيقتها إرادة مزدوجة لحزبي الحرية والعدالة والنور السلفي، ولها أكثرية برلمانية، ووزن تشريعي ومالي وعشائري، وامتداد إقليمي ودولي، يقابلها إرادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بما له من ثقل عسكري وتنفيذي وأمني.. إراداتان تتصارعان بعيدا عن الحسابات الوطنية الجامعة، والصراع هنا من النوع الذاتي والأناني المطلق.
وتبدو الأوضاع في طريقها لتجاوز المنافسة السلمية، ودخلت مرحلة تكسير العظام، التي قد تتصاعد إلى صدام لا يقل عن صدام 1954، وهذا يزيد المرحلة حرجا وتوترا وارتباكا. خاصة أن هناك تجاهلا لباقي الإرادات وهي إرادة ما يمكن تسميته 'الإرادة المدنية'، التي ليست بالدينية ولا بالعسكرية.
الإرادات المتصارعة تجاوزت المعنى العقائدي (الأيديولوجي) وجسدته 'غزوة الصناديق' في 19/ 3/ 2011 ووصل ذروته بتكفير المخالفين من جانب 'المتشددين'، وتوجيه تهمة الخبل والجنون من قِبَل 'المعتدلين' إلى مخالفيهم، وسقطت بذلك الفروق بين التطرف والاعتدال في الإسلام السياسي تجاه الرأي الآخر؛ وأخذ منحى آخر وصل إلى ما يمكن تسميته صراع الغنائم والنفوذ والانفراد بالقرارات.
وتكشف شهادة النائب محمد السعيد إدريس إلى جانب من هذا الصراع. وهي شهادة لها قيمتها لأنها لواحد من 'أهل البيت' أي من داخل البرلمان، ومن نائب هو في الأصل باحث مرموق في 'مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية'، وعروبي ناصري لكنه لا يحمل شبهة عداء للإسلام السياسي؛ فقد دخل الانتخابات ممثلا لحزب الكرامة العربية لكن على قائمة 'التحالف الديمقراطي'، الذي شكله حزب الحرية والعدالة (الإخواني).
وصف ما يجري في مقال له بصحيفة 'الأهرام' الثلاثاء الماضي (27/ 3/ 2012): بأنه 'كارثة مزدوجة، الأولى أنه ربما يوجد فعلا عوار أو عيب دستوري في انتخابات مجلس الشعب. وأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يعرف ذلك وتستر عليه ويريده ورقة ابتزاز لمجلس الشعب، وإن صدق ذلك فنحن أمام كارثة التستر على خطأ، أما الكارثة الثانية فهي أنه ليست هناك أي مشاكل تتعلق بدستورية مجلس الشعب. وأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يريد أن يلعب بورقة حل المجلس للضغط عليه لتبرير ما يريده من مطالب، أو لمنع المجلس من الإقدام على خطوات أو إجراءات أو إصدار تشريعات لا يريدها المجلس الأعلى'.
ويرى إدريس أن الكارثة المزدوجة قابلتها كارثة أخرى هي ما أطلق عليه التلاعب بالإرادة الشعبية في اختيار الأعضاء المئة الذين يشكلون الجمعية التأسيسية. وهو كشاهد عيان من داخل البرلمان وصف ما جرى بقوله أنه في الوقت الذي انهمك فيه النواب في تحديد وتدقيق اختيار الأفضل من بين المرشحين، الذين بلغ عددهم 2078 مرشحا فإذا بهم يفاجأون بقائمة أعدتها قيادة حزبي الحرية والعدالة والنور تتضمن أسماء مطلوبا اختيارها من بين أولئك المرشحين، ويصف ذلك التصرف بالصدمة، وتساءل: هل كل ما قام به النواب طوال اليوم كان مجرد مسرحية هزلية لتمرير تلك القائمة؟، ولماذا لجأ حزبا الأكثرية لمثل هذا؟، هل هي الرغبة في الوصاية؟ أو هي شهوة السلطة، ورغبة التمتع بممارسة القوة والنفوذ وبسطوة الأغلبية؟. باختصار فإن الوزن العسكري والتنفيذي والأمني للمجلس الأعلى للقوات المسلحة يواجه بالثقل العقائدي والمالي لحزبي الأكثرية في البرلمان.
ولذا يبدو الطرفان وهما يستعدان لخوض معركة الرئاسة؛ بوقوف المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلف عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية السابق، والذي يمكن وصفه برجل 'التطبيع' المفضل لتل أبيب، أما مكتب الإرشاد يرى في خيرت الشاطر حصان الرهان، وهو الذي تحبذه واشنطن؛ لكن أمامه عقبتين: الأولى تتمثل في موقف محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة، بعد أن طرح نفسه مرشحا للرئاسة رافضا الشاطر. والعقبة الثانية هي استمرار سريان الأحكام القضائية الصادرة ضد الشاطر وتمنعه من الترشح.
وعقبة الأحكام القضائية يمكن أن تذلل اعتمادا على ما يمكن أن تتمخض عنه مفاوضات الإخوان المسلمين مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة هذه الأيام، ويراهن مكتب الإرشاد على صدور قرار سيادي، كالذي أسقط الأحكام عن أيمن نور لصالح خيرت الشاطر، فيتمكن من ترشيح نفسه للرئاسة، ويبدو ذلك صعبا لكنه في حسابات الصراع الحالي ليس مستحيلا؛ المهم الثمن الذي يقبل به المجلس الأعلى للقوات المسلحة للتنازل عن ورقة الرئاسة، التى يعتمد عليها في إحداث توازن مع الإخوان المسلمين بعد تراجعهم عن كل وعودهم معه.
ومن الصعب تجاهل العامل الأمريكي الذي فرض نفسه بعد ضربات موجعة وجهها المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمعونة فصائل من الإسلام السياسي للثورة، ورهان الإدارة الأمريكية حاليا على الشاطر، لكونه قد قدم ما يكفي من أوراق الاعتماد المطلوبة لواشنطن؛ وهي الالتزام باقتصاد السوق العشوائي وحرص على ترميم منظومة الاقتصاد القديمة والنأي بها بعيدا عن تدخل الدولة، وحصر معالجة قضية العدالة الاجتماعية في الصدقات والتبرعات، وتحصين النشاط المالي والاحتكاري واقتصاد السوق بالدين والفتاوي الشرعية.
ويمكن للقارئ أن يعود إلى ما نشر على هذه الصفحة السبت قبل الماضي (27/ 3) عن العدالة الاجتماعية المفتقدة و'الانتفاضة الاقتصادية' القادمة! وما فيه من معلومات مستقاة من دراسة لاستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس صلاح جودة عن 'امبراطورية خيرت الشاطر وحسن مالك'؛ وتبين حجم الثروة القارونية (نسبة إلى قارون الذي ورد ذكره في القرآن الكريم)، وفاقت كل ما مر على مصر من ثروات شخصية وفردية، ووُصِفت بأنها ستقود 'انتفاضة اقتصادية' كما ورد على لسان الناطق باسم جمعية 'إبدأ' التي أسسها الشاطر ومالك مؤخرا للنشاط المالي والاقتصادي، ووضع مصر في مصاف الدول المتقدمة على حد قوله. وتصف أدبيات الإخوان المسلمين الشاطر بيوسف الصديق عليه السلام، الذي عُهدت إليه خزائن مصر!!، ويفرد له الإعلام الأمريكي؛ المسموع والمقروء والمرئي مساحات كبرى، ولا يرى غيره 'منقذا' لمصر. ومن بين النافذين في جماعة الإخوان المسلمين من حذر الشاطر من مصير أحمد عز وجمال مبارك وباقي المفسدين!.
وهي المرة الأولى منذ توقيع اتفاقية 'كامب ديفيد' التي يتنافس فيها أنصار 'التطبيع' يمثلهم عمر سليمان مع مؤيدي 'الأمركة' ويعبر عنهم خيرت الشاطر. وهذا منزلق إذا ما وقعت فيه الجماعة، فسيكون وبالا عليها، خاصة أن شبابها لا يتحمل تأكيد اتهامات سابقة لها عن هذه العلاقة. وإذا كان وزن عمر سليمان الأمني والعسكري هو الذي زكاه لدى أنصاره فإن ثقل خيرت الشاطر المالي أكسبه تعاطف رجال الأعمال. وبهما تستمر مصر أسيرة التطبيع أو الأمركة أو الإثنين معا، وذلك على حساب الوطن والثورة.
وكان ذلك من أسباب قراري بعدم المشاركة في انتخابات الرئاسة والإدلاء بصوتي فيها. ونظرا لرفض الرأي العام لعمر سليمان، وخوف قطاعات الشعبية العريضة من الشاطر، حيث يذكرهم بحيتان لجنة جمال مبارك، المعروفة باسم لجنة السياسات فمن المتوقع أن ينتهي الصراع إلى توافق القطبين المتنازعين (المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحزب الحرية والعدالة الإخواني) على عمرو موسى، وتدخل مصر محنة أخرى قد تطول لعقود قادمة.
وجو هذا الصراع المحتدم أحاط معركة اختيار الجمعية التأسيسية، ونتج عنه وحدة موقف الإخوان والسلفيين لحسم التشكيل لصالحهم. ومشكلة الإخوان أنهم ما زالوا موزعي الولاء بين الجماعة، ونهجها في البيعة والسمع والطاعة، وفي الوصاية والهيمنة على العمل الدعوي والاقتصادي والمالي والسياسي والاجتماعي، وبين حزبها، الذي يُبنى على الالتزام والآليات الديمقراطية، وتُختار مستوياته القيادية بالانتخاب، وتداول القيادة والمسؤولية يتم دوريا.
ونتج عن ذلك الاختيار الأحادي في تشكيل اللجنة التأسيسية، وقد اختارت بدورها سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب رئيسا لها، وأدى إلى انسحاب قوى سياسية وحزبية ومستقلة؛ وصلت حتى كتابة هذه السطور إلى ما يزيد عن ربع أعضاء اللجنة التأسيسية، فضلا عن انسحاب شخصيات مَثَّل خروجها ضربة قاصمة للجنة؛ منهم ممثل المحكمة الدستورية العليا، وممثل الأزهر والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وتغييب نقابات، وعدم اختيار رئيس نادي القضاة، بجانب غياب فقهاء قانون و قامات دستورية عالية مثل أحمد كمال أبو المجد وابراهيم درويش وصلاح صادق.
هذا حصاد أولويات مقلوبة؛ وضعت العربة قبل الحصان، فجاءت ببرلمان بلا دستور، وتُعِد لانتخاب رئيس لا يعرف لنفسه اختصاصا، ولا يعلم وضعه.. هل سيكون مؤقتا حتى إقرار الدستور، أم سيستمر حتى لو نص الدستور على تقليص صلاحياته.
وما تم جزء من مخطط مدروس وممنهج لوأد الثورة بـ'الفتنة الديمقراطية'. فالثورات تبني دولتها وتصنع نظامها أولا، ثم تقيم سلطاتها التشريعية والنيابية المنتخبة والقضائية المستقلة والتنفيذية الخاضعة للثورة والخادمة لها بعد ذلك، ودون ذلك تصبح الديمقراطية والانتخابات مجرد آليات شكلية بلا مضمون، وهذا ما حدث في مصر. والانسحابات أفقدت التأسيسة شرعيتها.
الثورات لا يصنعها دستور.. ولا يحميها برلمان.. وكل التجارب السياسية تؤكد أن العكس هو الصحيح!
No comments:
Post a Comment