المسألة الإسرائيلية .. في مسار مختلف
Assafir 30/03/2012
سمير كرم
هذا حدث بالغ الاهمية. تأثيراته واسعة النطاق وتتعلق بجوانب كثيرة مما يمكن ان نعده المسالة الاسرائيلية.
نعني حدث التظاهرات التي قام بها الاسرائيليون في بداية هذا الاسبوع، والتي يتوقع أن تتكرر خلال الاسابيع المقبلة، ضد نيات النخبة الاسرائيلية الحاكمة المعلنة بشنّ هجمات إسرائيلية ضد ايران بذريعة الخطر الذي يمثله احتمال ان تصنع ايران السلاح النووي، فتكون النتيجة كسر احتكار اسرائيل لهذا السلاح الشامل التدميري في منطقة الشرق الاوسط:
(1) ان هذه التظاهرات الاسرائيلية تعني ان اسرائيل انقسمت على نفسها. فهذا تيار يؤكد موقفه ان النخبة الحاكمة اليمينية الاسرائيلية، بزعامة بنيامين نتنياهو لم تعد تملك إجماعا اسرائيليا على سلامة تقديراتها لهذا الخطر الايراني على الدولة الصهيونية وكيفية مواجهته. ان التظاهرات المعارضة لشن هجمات عسكرية على ايران لتلافي هذا الوضع تعني أن مصداقية النخبة الحاكمة الاسرائيلية في هذا الموضوع هبطت كثيرا حتى لو تمكنت خلال فترة قصيرة من إخراج تظاهرة اسرائيلية مضادة تتبنى الدعوة الى مهاجمة ايران.
(2) ان التظاهرة الجديدة تعني ايضا - من زاوية اخرى - ان جانباً مهماً من الرأي العام الاسرائيلي يميل الى الاخذ برأي الولايات المتحدة في ما يعد أول خلاف صريح وخطير بين النخبة الحاكمة في اسرائيل والنخبة الحاكمة في أميركا. ولقد حكمت النخبة الاسرائيلية زمناً طويلاً بناء على روابط التحالف الاميركي - الاسرائيلي التي لا تقترب منها الخلافات، خاصة تلك التي تتعلق بضرورة استمرار احتكار اسرائيل لامتلاك السلاح النووي في الشرق الاوسط. ومعنى هذا انه قد ظهرت في اسرائيل جبهة يمكن أن تعتمد الولايات المتحدة على وجودها لتنفيذ سياسة تختلف عن السياسة التي تعتمد عليها حكومة اسرائيل والتي تصور للولايات المتحدة حتى الآن ان اسرائيل تقف كتلة واحدة ضد هذا الخطر الايراني. ويزيد من أهمية وجود هذه الجبهة المضادة للسياسة الاسرائيلية انها تظهر في وقت حرصت فيه المعارضة الرسمية في اسرائيل على ان تبدي تأييدها لليمين الحاكم في ما يتعلق بالخطر الايراني.
(3) ان الحدث المتمثل في هذه التظاهرات يفرض تأكيدا - يضاف الى التأكيد المخابراتي الاميركي - ان الرد الايراني على هذه الهجمات الاسرائيلية في حالة وقوعها سيكون من الشدة بحيث يلحق بإسرائيل أضرارا واسعة النطاق لا تستطيع ان تواجهها هذه الدولة التي لم تتعرض من قبل لضربات في جبهتها الداخلية على كثرة ما خاضت من حروب. الامر الذي يضع مصير اسرائيل بأكمله في ميزان الخطر. فإسرائيل - وان طال عمرها منذ تأسيسها في عام 1948- لا تزال دولة مهاجرين اعتمد ماضيها على الهجرة ويعتمد حاضرها على الهجرة ذاتها من شباب وشيوخ اليهود ويعتمد مستقبلها عليها. ومن طبيعة الدولة القائمة على الهجرة التمسك بأمنها بوصفه العمود الفقري لوجودها. واذا وصل الخوف بالاسرائيليين الى حد انعدام الثقة في حصانة البلد أمنيا يكون هذا بمثابة نقطة البداية لنهاية وجود الدولة الصهيونية.
(4) ان التظاهرات الاسرائيلية لإعلان معارضة تيار واسع في اسرائيل لقيام اسرائيل بشن هجمات ضد ايران تعطي إشارات للاتحاد الأوروبي وبخاصة الدول التي ينتمي اليها أغلب سكان اسرائيل من شأنها - أي من شأن هذه الاشارات - ان تدفع الدول الاوروبية بعيدا عن ترددها الذي بدا حتى الآن في توجيه النصح لإسرائيل بأن تتجنب صداما عسكريا مع ايران من شأنه ان يعرّض الاسرائيليين لخسائر بشرية ومادية لم يعرفوها من قبل. لقد بدا طوال السنوات الاخيرة ان الاتحاد الاوروبي يستند الى الأضرار الاقتصادية التي يمكن ان تلحق بأوروبا من وراء حرب تشعلها اسرائيل ضد ايران. يضاف الى هذا اعتماد أوروبا على الموقف الاخير من الادارة الاميركية في إبداء موقف معارض لهجمات تهدد اسرائيل بتوجيهها الى ايران. ولكن الاتحاد الاوروبي يجد في الغارات التي نظمها اسرائيليون قبل أيام ضد هذه التهديدات عاملا مشجعا آخر يمكن ان يدفعه الى معارضة صريحة لسياسة اسرائيل التي لا تزال تميل الى العدوان مع ميل النخبة الحاكمة فيها.
(5) جاءت هذه التظاهرات في وقت بدأت فيه اسرائيل تتحسس أسلحتها لفرض حل عسكري على النزاعات على مكتشفات الغاز الطبيعي التي ظهرت في منطقة تشمل - الى جانب فلسطين - كلا من لبنان وسوريا ومصر وكذلك قبرص. وليس من المتصور عمليا أو نظريا ان تستعد اسرائيل لخوض صراع عسكري ضد ايران وفي الوقت نفسه وقريبا منه صراع عسكري آخر مجهول الابعاد والآثار مع دول شرق البحر المتوسط العربية كلها.
(6) تفرض التظاهرات الاسرائيلية الاخيرة المعارضة لحرب مع ايران التفكير في تأثيراتها على توجهات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. صحيح ان ظهور لوبي اسرائيلي أكثر ميلا للسلام وأكثر عقلانية في التعامل مع اسرائيل وقضاياها التي لا تنتهي ولا تهدأ، قد سبق بوقت غير قصير هذه التظاهرات التي ترمي الى وقف تهور اسرائيل العسكري، إلا انه من المؤكد، ان ظهور هذا التيار وسط الرأي العام الاسرائيلي انما يصيب اللوبي الصهيوني في أميركا بهزة شديدة، بعد ان كان قد اعتاد على التعامل مع اسرائيل على انها كتلة بشرية وسياسية ودينية واحدة على الرغم من انتمائها الى جذور متباينة. ولكنه في الوقت نفسه يقوّي من عزيمة اللوبي الجديد وخططه في أميركا الذي أدرك مبكرا ان تأييد الرأي العام الاميركي لإسرائيل ليس أبديا. ولقد بدا واضحا في الايام الاولى لانعقاد منظمة «جاي ستريت» اليهودية الاميركية في مؤتمرها السنوي الثالث في واشنطن ان الميل الى الفكر اليساري في هذا اللوبي الجديد يأخذ أعضاءه باتجاه لا يخدم، بل لا يريح، أفكار النخبة الحاكمة في اسرائيل وأهدافها. ان الافكار السياسية التي تسود هذا اللوبي الجديد تأخذ اليهود الاميركيين بعيدا عن الافكار التقليدية للوبي الصهيوني. فهذا اللوبي قائم على قبول اسرائيل اليمينية والعدوانية والمناوئة للمنطقة التي أوجدت فيها والعاملة دوما على إثبات هيمنتها على الرؤساء الاميركيين المتعاقبين، فضلا عن نفوذها المؤثر في الكونغرس الاميركي بمجلسيه. والامر المؤكد ان منظمة «جاي ستريت» لن تستطيع في مؤتمرها السنوي الحالي ان تتجاهل النزاع الاسرائيلي مع ايران، الذي تهدد النخبة الحاكمة الاسرائيلية بتحويله الى صراع عسكري. وقد ظهرت بوادر ذلك في مناقشة أفكار من نوع مقاطعة المستوطنات التي تقيمها اسرائيل في أراضي الضفة الغربية الفلسطينية ومن نوع مواجهة أزمة الصهيونية التي يعالجها المشاركون في هذا المؤتمر على انها أزمة ناجمة عن سياسات اسرائيل وخططها.
(7) ولعل أكثر النقاط غموضا في ما يتعلق بهذه التظاهرات الاسرائيلية المناهضة لسياسة اسرائيل الرسمية ضد ايران هي النقطة المتعلقة بتأثير هذه التظاهرات على سياسات الحكومات العربية التي يتسم موقفها منذ سنوات بالتردد - على أقل تقدير - تجاه اسرائيل، سواء كان ذلك لحساب الولايات المتحدة أو لحسابات داخلية خاصة بهذه الحكومات التي تواجه بلا استثناء رأيا عاما داخليا وعربيا مناهضا لإسرائيل ومناهضا لهذه الحكومات نفسها. لكن وسط هذا الغموض لا بد من توقع تظاهرات عربية هنا وهناك تندد بالتهديدات الاسرائيلية ضد ايران كمدخل لتأكيد تأييد الجماهير الشعبية العربية لإيران في هذا الصراع. ان جماهير الشعوب العربية لا يمكن ان تقف موقف المتفرج من تظاهرات اسرائيلية تعادي سياسة النخبة الحاكمة وتصل الى حد حمل لافتات تؤكد ان الاسرائيليين يحبون ايران ويكرهون الحرب. ان بلوغ التظاهرات الاسرائيلية نقطة التحذير من حرب اسرائيلية على ايران كاف لإدراك الرأي العام العربي وجماهيره في البلدان المترددة أو تلك التي حسمت موقفها بتقديم وعود بمساعدة اسرائيل في حرب تشنها ضد ايران، ان وقوف ايران ضد اسرائيل هو في الحقيقة سياسة اختبرت وأكدت ثباتها منذ العام 1978 - عام الثورة الاسلامية الايرانية - ومن المؤكد ان تثبت نجاحها وجدواها اذا تجاهلت اسرائيل تحذيرات الاسرائيليين والاميركيين بشأن ما يمكن ان يسفر عنه صدام عسكري مع ايران. الامر المؤكد الآن هو ان التظاهرات الاسرائيلية تمثل إشارة مهمة من أجل صحوة ضمير في الوطن العربي طولا وعرضا بالإقلاع عن سياسة تقترب من اسرائيل وتبتعد عن ايران في هذه الحقبة التاريخية الفاصلة. وهذا بالقدر نفسه الذي تؤكد فيه هذه التظاهرات ان الثقة التي كانت تتمتع بها قوة اسرائيل العسكرية بقدرتها على مواجهة أعدائها قد تراجعت كثيرا الى نقطة أصبح من المفضل لدى الاسرائيليين أن يعلنوا انهم يفضلون السلام على الحرب مع ايران. ولقد ذكرت صحيفة «جيروزاليم بوست» الاسرائيلية ان المتظاهرين في تل أبيب أوضحوا ان أسباب تنظيم هذه التظاهرة ترجع الى العواقب الوخيمة غير المحسوبة التي يمكن ان تترتب على اسرائيل اذا أقدمت على شن ضربة استباقية ضد المنشآت النووية الايرانية. فضلا عن الضحايا الذين يمكن ان يسقطوا في اسرائيل نتيجة لهذه الخطوة.
يزيد من قوة دلالة هذا الحدث انه جاء بعد تحذيرات وجهتها قيادات في الجبهة الداخلية الاسرائيلية في وقت سابق من مغبة قيام اسرائيل بمهاجمة ايران وانها يمكن ان تؤدي الى تعرض اكثر من مليون و700 الف اسرائيلي الى خطر التداعيات التي قد تترتب على هذا الهجوم.
ربما نتساءل هل فعلا يحب الاسرائيليون ايران أو الايرانيين كما تقول اللافتات التي حملها المتظاهرون في تل أبيب؟
والاقرب الى الاجابة الصحيحة ان الاسرائيليين يحبون الحياة ويرفضون الموت ويدركون - ربما للمرة الاولى منذ تأسيس هذه الدولة - ان سياسات حكومتهم ستودي بهم الى هذا الموت. والمرجو الآن ان تدرك جماهير الامة العربية مغزى هذا التحول. وان تدرك ايضا ان الموقف برمته يمكن ان يصبح أكثر تاثيرا على الرأي العام الاسرائيلي اذا اتضح لهم - للاسرائيليين - ان ايران ليست وحدها في المنطقة.
ان الوضع الراهن يشير الى ان اسرائيل تواجه تحديا مصيريا نتيجة عدائها لإيران. فهل تختار الامة العربية اتخاذ الموقف السليم الذي طالما ارتجته من صراعها الطويل مع اسرائيل؟ هل تختار الامة العربية التضافر مع ايران والتحالف معها في مواجهة مع اسرائيل، سواء اقتصرت هذه المواجهة على جوانب الصراع السياسية والاقتصادية والثقافية أو اندفعت نحو الجانب العسكري من هذا الصراع؟
لا بد للأمة العربية ان تتفهم الدوافع الحقيقية التي أوصلت اسرائيل الى نقطة الانقسام بفعل الخوف، ويمكن ان تصل بالعالم كله الى نقطة الاتحاد مع الاسرائيليين الذين يخشون قوة ايران والابتعاد عن الاسرائيليين الذين يلوّحون بقوتهم لفرض أهدافهم.
Assafir 30/03/2012
سمير كرم
هذا حدث بالغ الاهمية. تأثيراته واسعة النطاق وتتعلق بجوانب كثيرة مما يمكن ان نعده المسالة الاسرائيلية.
نعني حدث التظاهرات التي قام بها الاسرائيليون في بداية هذا الاسبوع، والتي يتوقع أن تتكرر خلال الاسابيع المقبلة، ضد نيات النخبة الاسرائيلية الحاكمة المعلنة بشنّ هجمات إسرائيلية ضد ايران بذريعة الخطر الذي يمثله احتمال ان تصنع ايران السلاح النووي، فتكون النتيجة كسر احتكار اسرائيل لهذا السلاح الشامل التدميري في منطقة الشرق الاوسط:
(1) ان هذه التظاهرات الاسرائيلية تعني ان اسرائيل انقسمت على نفسها. فهذا تيار يؤكد موقفه ان النخبة الحاكمة اليمينية الاسرائيلية، بزعامة بنيامين نتنياهو لم تعد تملك إجماعا اسرائيليا على سلامة تقديراتها لهذا الخطر الايراني على الدولة الصهيونية وكيفية مواجهته. ان التظاهرات المعارضة لشن هجمات عسكرية على ايران لتلافي هذا الوضع تعني أن مصداقية النخبة الحاكمة الاسرائيلية في هذا الموضوع هبطت كثيرا حتى لو تمكنت خلال فترة قصيرة من إخراج تظاهرة اسرائيلية مضادة تتبنى الدعوة الى مهاجمة ايران.
(2) ان التظاهرة الجديدة تعني ايضا - من زاوية اخرى - ان جانباً مهماً من الرأي العام الاسرائيلي يميل الى الاخذ برأي الولايات المتحدة في ما يعد أول خلاف صريح وخطير بين النخبة الحاكمة في اسرائيل والنخبة الحاكمة في أميركا. ولقد حكمت النخبة الاسرائيلية زمناً طويلاً بناء على روابط التحالف الاميركي - الاسرائيلي التي لا تقترب منها الخلافات، خاصة تلك التي تتعلق بضرورة استمرار احتكار اسرائيل لامتلاك السلاح النووي في الشرق الاوسط. ومعنى هذا انه قد ظهرت في اسرائيل جبهة يمكن أن تعتمد الولايات المتحدة على وجودها لتنفيذ سياسة تختلف عن السياسة التي تعتمد عليها حكومة اسرائيل والتي تصور للولايات المتحدة حتى الآن ان اسرائيل تقف كتلة واحدة ضد هذا الخطر الايراني. ويزيد من أهمية وجود هذه الجبهة المضادة للسياسة الاسرائيلية انها تظهر في وقت حرصت فيه المعارضة الرسمية في اسرائيل على ان تبدي تأييدها لليمين الحاكم في ما يتعلق بالخطر الايراني.
(3) ان الحدث المتمثل في هذه التظاهرات يفرض تأكيدا - يضاف الى التأكيد المخابراتي الاميركي - ان الرد الايراني على هذه الهجمات الاسرائيلية في حالة وقوعها سيكون من الشدة بحيث يلحق بإسرائيل أضرارا واسعة النطاق لا تستطيع ان تواجهها هذه الدولة التي لم تتعرض من قبل لضربات في جبهتها الداخلية على كثرة ما خاضت من حروب. الامر الذي يضع مصير اسرائيل بأكمله في ميزان الخطر. فإسرائيل - وان طال عمرها منذ تأسيسها في عام 1948- لا تزال دولة مهاجرين اعتمد ماضيها على الهجرة ويعتمد حاضرها على الهجرة ذاتها من شباب وشيوخ اليهود ويعتمد مستقبلها عليها. ومن طبيعة الدولة القائمة على الهجرة التمسك بأمنها بوصفه العمود الفقري لوجودها. واذا وصل الخوف بالاسرائيليين الى حد انعدام الثقة في حصانة البلد أمنيا يكون هذا بمثابة نقطة البداية لنهاية وجود الدولة الصهيونية.
(4) ان التظاهرات الاسرائيلية لإعلان معارضة تيار واسع في اسرائيل لقيام اسرائيل بشن هجمات ضد ايران تعطي إشارات للاتحاد الأوروبي وبخاصة الدول التي ينتمي اليها أغلب سكان اسرائيل من شأنها - أي من شأن هذه الاشارات - ان تدفع الدول الاوروبية بعيدا عن ترددها الذي بدا حتى الآن في توجيه النصح لإسرائيل بأن تتجنب صداما عسكريا مع ايران من شأنه ان يعرّض الاسرائيليين لخسائر بشرية ومادية لم يعرفوها من قبل. لقد بدا طوال السنوات الاخيرة ان الاتحاد الاوروبي يستند الى الأضرار الاقتصادية التي يمكن ان تلحق بأوروبا من وراء حرب تشعلها اسرائيل ضد ايران. يضاف الى هذا اعتماد أوروبا على الموقف الاخير من الادارة الاميركية في إبداء موقف معارض لهجمات تهدد اسرائيل بتوجيهها الى ايران. ولكن الاتحاد الاوروبي يجد في الغارات التي نظمها اسرائيليون قبل أيام ضد هذه التهديدات عاملا مشجعا آخر يمكن ان يدفعه الى معارضة صريحة لسياسة اسرائيل التي لا تزال تميل الى العدوان مع ميل النخبة الحاكمة فيها.
(5) جاءت هذه التظاهرات في وقت بدأت فيه اسرائيل تتحسس أسلحتها لفرض حل عسكري على النزاعات على مكتشفات الغاز الطبيعي التي ظهرت في منطقة تشمل - الى جانب فلسطين - كلا من لبنان وسوريا ومصر وكذلك قبرص. وليس من المتصور عمليا أو نظريا ان تستعد اسرائيل لخوض صراع عسكري ضد ايران وفي الوقت نفسه وقريبا منه صراع عسكري آخر مجهول الابعاد والآثار مع دول شرق البحر المتوسط العربية كلها.
(6) تفرض التظاهرات الاسرائيلية الاخيرة المعارضة لحرب مع ايران التفكير في تأثيراتها على توجهات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. صحيح ان ظهور لوبي اسرائيلي أكثر ميلا للسلام وأكثر عقلانية في التعامل مع اسرائيل وقضاياها التي لا تنتهي ولا تهدأ، قد سبق بوقت غير قصير هذه التظاهرات التي ترمي الى وقف تهور اسرائيل العسكري، إلا انه من المؤكد، ان ظهور هذا التيار وسط الرأي العام الاسرائيلي انما يصيب اللوبي الصهيوني في أميركا بهزة شديدة، بعد ان كان قد اعتاد على التعامل مع اسرائيل على انها كتلة بشرية وسياسية ودينية واحدة على الرغم من انتمائها الى جذور متباينة. ولكنه في الوقت نفسه يقوّي من عزيمة اللوبي الجديد وخططه في أميركا الذي أدرك مبكرا ان تأييد الرأي العام الاميركي لإسرائيل ليس أبديا. ولقد بدا واضحا في الايام الاولى لانعقاد منظمة «جاي ستريت» اليهودية الاميركية في مؤتمرها السنوي الثالث في واشنطن ان الميل الى الفكر اليساري في هذا اللوبي الجديد يأخذ أعضاءه باتجاه لا يخدم، بل لا يريح، أفكار النخبة الحاكمة في اسرائيل وأهدافها. ان الافكار السياسية التي تسود هذا اللوبي الجديد تأخذ اليهود الاميركيين بعيدا عن الافكار التقليدية للوبي الصهيوني. فهذا اللوبي قائم على قبول اسرائيل اليمينية والعدوانية والمناوئة للمنطقة التي أوجدت فيها والعاملة دوما على إثبات هيمنتها على الرؤساء الاميركيين المتعاقبين، فضلا عن نفوذها المؤثر في الكونغرس الاميركي بمجلسيه. والامر المؤكد ان منظمة «جاي ستريت» لن تستطيع في مؤتمرها السنوي الحالي ان تتجاهل النزاع الاسرائيلي مع ايران، الذي تهدد النخبة الحاكمة الاسرائيلية بتحويله الى صراع عسكري. وقد ظهرت بوادر ذلك في مناقشة أفكار من نوع مقاطعة المستوطنات التي تقيمها اسرائيل في أراضي الضفة الغربية الفلسطينية ومن نوع مواجهة أزمة الصهيونية التي يعالجها المشاركون في هذا المؤتمر على انها أزمة ناجمة عن سياسات اسرائيل وخططها.
(7) ولعل أكثر النقاط غموضا في ما يتعلق بهذه التظاهرات الاسرائيلية المناهضة لسياسة اسرائيل الرسمية ضد ايران هي النقطة المتعلقة بتأثير هذه التظاهرات على سياسات الحكومات العربية التي يتسم موقفها منذ سنوات بالتردد - على أقل تقدير - تجاه اسرائيل، سواء كان ذلك لحساب الولايات المتحدة أو لحسابات داخلية خاصة بهذه الحكومات التي تواجه بلا استثناء رأيا عاما داخليا وعربيا مناهضا لإسرائيل ومناهضا لهذه الحكومات نفسها. لكن وسط هذا الغموض لا بد من توقع تظاهرات عربية هنا وهناك تندد بالتهديدات الاسرائيلية ضد ايران كمدخل لتأكيد تأييد الجماهير الشعبية العربية لإيران في هذا الصراع. ان جماهير الشعوب العربية لا يمكن ان تقف موقف المتفرج من تظاهرات اسرائيلية تعادي سياسة النخبة الحاكمة وتصل الى حد حمل لافتات تؤكد ان الاسرائيليين يحبون ايران ويكرهون الحرب. ان بلوغ التظاهرات الاسرائيلية نقطة التحذير من حرب اسرائيلية على ايران كاف لإدراك الرأي العام العربي وجماهيره في البلدان المترددة أو تلك التي حسمت موقفها بتقديم وعود بمساعدة اسرائيل في حرب تشنها ضد ايران، ان وقوف ايران ضد اسرائيل هو في الحقيقة سياسة اختبرت وأكدت ثباتها منذ العام 1978 - عام الثورة الاسلامية الايرانية - ومن المؤكد ان تثبت نجاحها وجدواها اذا تجاهلت اسرائيل تحذيرات الاسرائيليين والاميركيين بشأن ما يمكن ان يسفر عنه صدام عسكري مع ايران. الامر المؤكد الآن هو ان التظاهرات الاسرائيلية تمثل إشارة مهمة من أجل صحوة ضمير في الوطن العربي طولا وعرضا بالإقلاع عن سياسة تقترب من اسرائيل وتبتعد عن ايران في هذه الحقبة التاريخية الفاصلة. وهذا بالقدر نفسه الذي تؤكد فيه هذه التظاهرات ان الثقة التي كانت تتمتع بها قوة اسرائيل العسكرية بقدرتها على مواجهة أعدائها قد تراجعت كثيرا الى نقطة أصبح من المفضل لدى الاسرائيليين أن يعلنوا انهم يفضلون السلام على الحرب مع ايران. ولقد ذكرت صحيفة «جيروزاليم بوست» الاسرائيلية ان المتظاهرين في تل أبيب أوضحوا ان أسباب تنظيم هذه التظاهرة ترجع الى العواقب الوخيمة غير المحسوبة التي يمكن ان تترتب على اسرائيل اذا أقدمت على شن ضربة استباقية ضد المنشآت النووية الايرانية. فضلا عن الضحايا الذين يمكن ان يسقطوا في اسرائيل نتيجة لهذه الخطوة.
يزيد من قوة دلالة هذا الحدث انه جاء بعد تحذيرات وجهتها قيادات في الجبهة الداخلية الاسرائيلية في وقت سابق من مغبة قيام اسرائيل بمهاجمة ايران وانها يمكن ان تؤدي الى تعرض اكثر من مليون و700 الف اسرائيلي الى خطر التداعيات التي قد تترتب على هذا الهجوم.
ربما نتساءل هل فعلا يحب الاسرائيليون ايران أو الايرانيين كما تقول اللافتات التي حملها المتظاهرون في تل أبيب؟
والاقرب الى الاجابة الصحيحة ان الاسرائيليين يحبون الحياة ويرفضون الموت ويدركون - ربما للمرة الاولى منذ تأسيس هذه الدولة - ان سياسات حكومتهم ستودي بهم الى هذا الموت. والمرجو الآن ان تدرك جماهير الامة العربية مغزى هذا التحول. وان تدرك ايضا ان الموقف برمته يمكن ان يصبح أكثر تاثيرا على الرأي العام الاسرائيلي اذا اتضح لهم - للاسرائيليين - ان ايران ليست وحدها في المنطقة.
ان الوضع الراهن يشير الى ان اسرائيل تواجه تحديا مصيريا نتيجة عدائها لإيران. فهل تختار الامة العربية اتخاذ الموقف السليم الذي طالما ارتجته من صراعها الطويل مع اسرائيل؟ هل تختار الامة العربية التضافر مع ايران والتحالف معها في مواجهة مع اسرائيل، سواء اقتصرت هذه المواجهة على جوانب الصراع السياسية والاقتصادية والثقافية أو اندفعت نحو الجانب العسكري من هذا الصراع؟
لا بد للأمة العربية ان تتفهم الدوافع الحقيقية التي أوصلت اسرائيل الى نقطة الانقسام بفعل الخوف، ويمكن ان تصل بالعالم كله الى نقطة الاتحاد مع الاسرائيليين الذين يخشون قوة ايران والابتعاد عن الاسرائيليين الذين يلوّحون بقوتهم لفرض أهدافهم.
No comments:
Post a Comment