كي لا تصبح الإنتخابات البرلمانية مهنة من لا مهنة له
صباح علي الشاهر
لعله من النادر جداً أن يتوفر لحدث ما ما توفر للإنتخابات العراقية التي جرت في الثلاثين من نيسان هذا العام ، إذ يمكن للرافضين والمشككين والمعارضين إيراد كم هائل من السلبيات التي لا يستطيع أحد إنكارها بالمجمل ، كما أنه يمكن للمؤيدين والموالين والراضين إيراد كم مواز من الإيجابيات التي لا يتجاهلها إلا من أدمن الإنكار، وأصر على تجاهل الوقائع التي التي تتوالد وبسرعة في واقع متحرك، ومتناقض إلى أبعد الحدود .
ويمكن ، قصد تسهيل المتابعة، تقسيم العملية الإنتخابية إلى ثلاث مراحل ، ما قبل الإنتخابات ، وأثناء الإنتخابات ، وما بعد الإنتخابات ، وسنرى أن في كل مرحلة من هذه المراحل الكثير مما ينبغي قوله، أو الحديث فيه أو حوله سلباً أو إيجابا.
السلبيات والإيجابيات يزاحم بعضها بعضاً، في كل مرحلة من مراحل الإنتخابات الثلاث، وهي تكبر أو تضمر حسب الزاوية التي ينظر منها المتابع، وحسب موقفه إجمالا من العملية الإنتخابية برمتها، أو هدفه منها، وأظن أن أغلب المشاركين في هذه العملية يشبهون المتابع، وهم سينتقلون من موقف إلى آخر حسب المُعطيات التي تتمخض عنها الإنتخابات، إذ ليس من المُستغرب أن ينتقل المشارك من مُتحمس للإنتخابات بإعتبارها الوسيلة المُثلى للتغيير إلى مُشكك بها، وبنزاهة القائمين عليها، وصولا إلى تأكيد عدم جدواها، البعض يعلل هذا بإفتقاد بعض المرشحين إلى ثقافة الإعتراف بالهزيمة، وهذا تعليل مُبسط لقضية أكثر تعقيداً، لماذا مثلاً يبعد البعض إحتمال أن بعض المرشحين لا يفرقون بين الإنتخابات والتآمر، وأنهم تربوا على الضربة القاضية عبر دبابة، أو من خلال تفاهمات الغرف المُغلقة، وأنهم وجدوا أنفسهم في المكان الخطأ، وفي الزمان الخطأ، أو أنهم وضعوا في هذه المواضع لإدامة الفوضى الخلاقة، إذ لا يمكن تجاهل كون العملية السياسية ليست صناعة عراقية بالمطلق، وإنما هي بإطارها العام وتفاصليها الدقيقة من صنع وتخطيط المُحتل، علماً أن هذا الإطار وهذه التفاصيل لم يتم التطرق إليها، ولا مناقشتها خل عنكم إعادة النظر بها بعد إنقضاء أكثر من عشر سنوات، وحيث لا تتم إعادة النظر فإن الخروج من عنق الزجاجة سيصبح مستحيلاً، وستظل التجربة تدور في حلقة مغلقة، وسنتجرع الخيبة مراراً وتكراراً.
جوهر الديمقراطية يكمن في تنظيم حياة المجتمع وقنونة النشاط الإجتماعي مما يسمح للشعب بحكم نفسه بنفسه، وأول خطوات تنظيم المجتمع إقامة الأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني، والنقابات والإتحادات المهنية، والأنشطة الأخرى، وشرعنة الفعاليات والنشاطات السياسية بمختلف أشكالها، وتجاوز أشكال التنظيمات البدائية، تنظيمات ما قبل نشوء الدولة ، كالتنظيمات العشائرية مثلاً، وهيمنة البيوتات الدينية، وكل أشكال التفرقة بين أبناء الشعب الواحد، وكل ما لا يساوي بين المواطنين، ففي النظم الديمقراطية المواطن يساوي المواطن، بغض النظر عن عرقه أو لونه أو دينه أو طائفته، أو أيدلوجيته، ولا يوجد مواطن يساوي مواطن ونص مثلاً، كائن من كان، وابن من كان، والسؤال الذي يطرح نفسه هل حققنا في عراق ما بعد الإحتلال هذه الأمور أو جزءاً منها، أم أننا فعلنا ما هو عكس مستلزمات الحياة المدنية والديمقراطية؟ هل حجمنا النظام العشائري أم كرسناه؟ كيف نريد من المواطن أن يوالي الدولة، وهو يُحكم بقانون العشائر، وشيخ العشيرة وجيعدتها هو من يأخذ له حقه، وهو الذي يتحدث باسمه؟ لقد قرأت بأستغراب عبارات مكتوبة على جدران بعض البيوت ( العقار مطلوب عشائرياً) ، و علمت إنه إذا وضعت مثل هذه العبارة على جدران أحد البيوت، فإن هذا البيت سوف لن يباع ولن يشترى، ليس بحكم قضائي، وإنما بقرار عشائري! كما أطلعت على العديد من حالات الفصل العشائري، والذي يعني من جملة ما يعنيه إضرب وأعتدي وأجرح، وربما أقتل، ثم إدفع الدية للعشيرة، وتخلص من حكم القانون، فهل نحن في دولة القرن الحادي والعشرين أم في غابة؟
إجازة الأحزاب بعد صدور القانون أو القوانين التي تنظم ذلك، ومنحها فترة زمنية لمزاولة نشاطها وتعريف الجمهور بمنطلقاتها وبرامجها ومعرفة قياداتها، شرط أولي قبل أي إنتخابات ديمقراطية، أن عدم صدور قانون الأحزاب يعني أن لا حياة حزبية في البلد، وأن كل التنظيمات المتواجدة حاليا في البلد هي تنظيمات غير شرعية، أن مسميات كالمجلس والتيار والكتلة والتجمع وحتى الحزب، كالحزب الشيوعي والإسلامي والدعوة ومع عدم وجود قانون للأحزاب لا تعني شيئاً، ويمكن أن توصف بكل وصف إلا أن تكون أحزاباً، وهي إذ تغتصب عقارات الدولة وتحولها إلى مقرات، وتنشيء المربعات الأمنية فإنها تلامس ما يمكن تسميته ميليشيات، إن لم نقل عصابات ومافيات، أن بعض هذه التنظيمات تنافس الدولة ، أو تكون البديل عنها في مناطق نفوذها، وهي تنشيء حرسها الخاص وعسكرها الخاص، وهي تشكل بذلك مصدر رعب ومتاعب إضافية للمواطنين، ومما لا شك فيه أنها تشكل ضغطاً نفسياً على المواطن، وتمنح أفرادا عاديين، أو هكذا يُفترض، أو غير رسميين على الأقل، مميزات وإستثناءات لا حق لهم بها، ولا يقرها قانون، وكل هذا لا يشكل أجواءاً صحية أو مناسبة تجري في ظلها إنتخابات نزيهة.
يجب أن تتحول هذه التنظيمات إلى أحزاب تكون الدولة على علم تام ليس ببرامجها ونشاطاتها، ولا عدد أعضائها، وإنما مصادر دخلها، وطرق إنفاق هذا الدخل، وقصد تحقيق مبدأ المساواة، فإن الدولة ملزمة بمراقبة الإنفاق على الحملات الإنتخابية التي ينبغي وضع سقف محدد لإنفاق كل تنظيم وكل مرشح، مع التأكد التام من مصادر هذا الإنفاق ، وإلا فإن العملية الإنتخابية ستتحوّل إلى عملية إرتزاق وشراء ذمم، وتخريب، ليس للديمقراطية فقط، وإنما للمواطن الذي ينبغي أن تخدمه العملية الإنتخابية لا أن تخربه، خصوصاً عندما يتدخل المال السياسي، وعندما يدس الخارج المتخم بالمال أنفه داعماً لهذا الطرف أو ذاك، وهو ما حدث ويحدث في العراق، ولسنا بحاجة للإشارة للبعض الذي تاجر ويتاجر بالعملية الإنتخابية، والذي يسبت أربعة أعوام ثم يُشمر عن ساعديه وقت الإنتخابات، لقد أصبح الإرتزاق من الإنتخابات مهنة من لا مهنة له في العراق الذي يتلمس طريقه بصعوبة إلى ديمقراطية وضعت أمامها العديد من العراقيل، هذه العراقيل التي تجعل الوليد لا يأتي عبر الولادة الطبيعية، وإذا ولد ولد مشوهاً ومصاباً بشتى العلل.
نعم لدينا تنظيم جيد للإنتخابات، وعندنا مفوضوية مستقلة تطوّر عملها وإدائها من إنتخابات إلى أخرى، وأصبحنا ننتخب ببطاقة الناخب الإلكترونية، لكننا ما زلنا نحتاج لشهر أو أكثر لإعلان النتائج الأولية، علماً أن عدد المصوتين لا يتجاوز الإثني عشر مليوناً، في حين تعلن نتائج إنتخابات الهند، بلد المليار والنصف مليار إنسان خلال بضعة ايام لا تتجاوز عدد اصابع اليد الواحده، وهم ليس عندهم مفوضية مستقلة للإنتخابات، وليس لديهم بطاقة ناخب ألكترونية متطورة.
No comments:
Post a Comment