رابط مقال "قارعتان" المنشور 24/5/2014 بجريدة الأهرام
قارعتان
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 24/5/2014)
القارعة الأولى:
منذ أسابيع قليلةٍ وقع حادثٌ جلل بمينا البصل بالإسكندرية أخشى أن يُحاسبنا الله جميعاً عليه .. أمٌ قتلت ابنها الأكبر لأنه طلب شريحة خبز (حاف) إضافية لكى يسد جوعه .. شريحة خبزٍ وليس رغيفاً كاملاً .. كانت تُمسك بسكين المطبخ لتُقسم به أرغفة الخبز بين أبنائها .. قتلته بطعنةٍ فى قلبه دون أن تدرى أو تقصد .. واقرأوا أقوالها باكيةً (كان معايا جنيه اشتريت بيه العيش من الفرن .. وزّعت العيش الحاف على العيال وما كانش فيه تانى .. ورجب يا حبة عين أمه كان جعان .. وأنا كنت خايفة إخواته الصغيرين يطلبوا زيه .. حاجيب منين يا عالم وأنا وفرّت الكام رغيف دول بالعافية .. أنا كنت مغلولة من ضعفى وعجزى عن سد جوعه .. مش عارفة عملت كده إزاى .. سامحنى يابنى .. هو فيه حد يقتل ضناه؟).
وقال أحد جيرانها (أسرة أم رجب ناس غلابة فى حالهم ما نسمعش عنهم حاجة .. حتى لما حصلت الحادثة لم نعرف إلا لما لقيناها نازلة بتجرى فى الشارع شايلة ابنها للمستشفى).
يا رب .. كم "أم رجب" بيننا ونحن لا ندرى؟ أو ندرى ونتشاغل عنها؟
القارعة الثانية:
فى توقيتٍ متزامنٍ لحادثة أم رجب، نشرت هيئة قضايا الدولة إعلاناً بجريدة الأهرام تطلب فيه دفعةً تكميليةً من خريجى كليات الحقوق والشريعة والقانون والشرطة دفعات 2003 وحتى 2009 وذلك للتعيين فى وظيفة قضائية بدرجة مندوب، والإعلان يُثير عدداً من الأسئلة، منها:
1 – لماذا هذه الدفعات بالذات وإحداها انقضى على تخرجها 11 سنة بأكملها وهى دفعة 2003؟ وأين دفعات ما بعد 2009؟.
2 – لماذا لم يشترط الحصول على تقدير جيد فما فوق وهو ما يعنى ضمناً جواز قبول الحاصلين على تقدير مقبول، خلافاً لنص القانون؟.
3 – هل لهذا الإعلان علاقةٌ بإعلانٍ قديمٍ مشابهٍ سبق لهيئة قضايا الدولة أن كررت فيه نفس الفعل منذ أكثر من عشر سنوات، ثم أبطلته المحكمة الإدارية العليا بحكمها بإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 43 لسنة 2003 (2003 مرةً أخرى؟) فيما تضمنه من تعيين الحاصلين على تقدير مقبول فى درجة الليسانس فى وظيفة مندوب مساعد بهيئة قضايا الدولة؟.
4 – من هو هذا الفلتة العبقرى خريج 2003 الذى تُصّر الهيئة على اجتذابه للعمل بها وتُنشر من أجله الإعلانات التى يتقدم لها آلاف الطامحين من الشباب سنة 2003 ثم 2014 أى بفارقٍ زمنىٍ أحد عشر عاماً كانت كافيةً ليبدأ سيادته دراسة الحقوق من جديد ويُحسّن تقديره إلى جيد، بل وينال الماجستير والدكتوراة ونوبل، فيُريح الهيئة ويُريح أباه ويُريح المحاكم من نظر طعون المتظلمين؟
5 – كم شاباً من الاثنى عشر ألف متقدمٍ لهذا الإعلان سيعود لنا مُحبَطاً أو ناقماً أو مشروع إرهابى؟
6 - لماذا تتسابق كثيرٌ من مؤسسات الدولة الآن سباقاً محموماً لتكديس عاملين جُدد قبل الرئيس القادم
، وبمرتباتٍ كبيرةٍ تبتلع ما تسعى الدولة لتوفيره بشتى السبل مثل اللمبات الموفرة؟ وفى وقتٍ يتضور فيه ملايين المصريين جوعاً ويتنازعون رغيف خبزٍ حاف؟
معركة القضاة ضد التوريث الداخلى:
فى الوقت الذى رضخت معظم مؤسسات الدولة لنزوة التوريث لأبناء العاملين بها، كانت مؤسسة القضاء هى المؤسسة الوحيدة تقريباً التى قاومت نزوة التوريث داخلها، عبْر معركةٍ مُشرّفةٍ دارت رحاها على مدى الربع قرن الأخير، قاتل فيها قضاتنا الشرفاء لكى لا يتسرب إلى منصة القضاء من ليس أهلاً لها ولو كان ابن زميل .. وتكللت جهود القضاة الأجلاء بإصدار القانون رقم 17 لسنة 2007 الذى اشترط فيمن يُعيّن معاوناً للنيابة العامة وفى سائر الوظائف المقابلة لها بالهيئات القضائية (ومن بينها مندوب مساعد بهيئة قضايا الدولة) أن يكون حاصلاً على تقدير جيد على الأقل.
.. وقد صدر هذا القانون معدِلاً لقوانين الهيئات القضائية جميعها والتى كانت تسمح للحاصلين على تقدير عام مقبول بالانضمام للسلك القضائى وأيّاً كانت عدد سنوات الدراسة (أحدهم أمضى فى كلية الحقوق 12 سنة)،وقد صدر بإرادةٍ من القضاة الأجلاّء أنفسهم لتطهير ثوب العدالة من بعض ما علق به من شبهة مجاملةٍ فى تعيين غير ذوى الكفاءة.
ومما يؤكد ما أقول أن أحد أعضاء هيئة قضايا الدولة نفسها (وهى هيئةٌ عريقةٌ مليئةٌ بالنابهين المخلصين ممن يخافون الله) وهو المستشار الجليل/ خالد نجاح أحد نواب رئيس الهيئة، قد انتفض معبراً عن غضبته للحق وتقدم بالطعن رقم 48859 لسنة 68 ق أمام مجلس الدولة طالباً إلغاء قرار الإعلان المشار إليه.
وقال فى الدعوى (حيث إن القرار الصادر بفتح باب التقديم للمسابقة المذكورة قد خلا من شرط الحصول على تقدير جيد على الأقل إنفاذاً لنص القانون، فإنه يكون قد صدر مشوباً بعيب مخالفة القانون بمعنييه الضيق والواسع، إذ هو أيضاً يخالف المبادئ الدستورية المستقرة فى دساتير العالم، بل وفى الضمير الجمعى للأمم قاطبة- وبما يؤكد قصد محاباة أبناء المستشارين من جميع الجهات والهيئات القضائية الحاصلين على تقدير مقبول بتمكينهم من ولوج الوظائف القضائية، وهى محاباةٌ تضعنا أمام أجلى صور الانحراف بالسلطة). هكذا قال فى دعواه.
أتعجّب بعد ثورتين عظيمتين كان من أسبابهما انتشار التمييز والمحسوبية، لماذا يصر البعض على تلويث هذا الثوب الناصع لقضاة مصر بالتحايل على القواعد والقوانين واستفزاز الشعب المصرى؟ ولماذا يتم إشغالنا باستدعاء نفس المعارك القديمة التى ظننا أننا تجاوزناها إلى ما هو أهم وأنفع؟ ..
القاتل الحقيقى:
تعلمتُ من أبى الذى أحببتُ فيه الأب وأحببتُ فيه القاضى، أن القاضى لا يكون قاضياً إلا إذا طلب العدلَ لظالميه، وأنصف الغير ولو على حساب نفسه .. وأن القاضى يكتسب حصانته من عدله قبل أن يكتسبها من الدساتير والقوانين.
ضميرى لا يسمح لى بألا أرى الصلة بين واقعة الأم التى قتلت ضناها (حبة عين أمه) وبين الإعلان المستفز المُشار إليه.
أعرف ضعف الإنسان أمام مشاعر الأبوّة .. ولكن القاضى ليس كأى إنسان .. القاضى يقبض على ميزان العدل كالقابض على الجمر .. فإذا اهتز هذا الميزان فى يده يفقد صلاحيته كقاضٍ وكإنسان.
إن الأب (قاضياً كان أو غير ذلك) الذى يطلب لابنه ما ليس حقه، ينزع هذا الحق فى نفس اللحظة من مستحقٍ بائسٍ مظلومٍ فى مكانٍ ما.
والله ما جاع ومات (حبة عين أمه) إلا بسبب أمثال (حبة عين أبيه) خريج 2003 الذى تُفصّل من أجله الإعلانات وتُهدر الأموال العامة وتُخلى له وظيفةٌ لا يستحقها لكى يغرف من مزاياها (وأموالنا) ثم يورثها إلى حبة عين جده .. والله ما زاد العَوز فى مصر إلا بأمثال هؤلاء الذين يستحلون السطو على حقوق غيرهم .. والله ما وُجد مظلومٌ إلا بظلم ظالم .. وما افتقر فقيرٌ إلا بفُحش وطمع غنِّى .. ألا لعنة الله على الظالمين والفاسدين .. الطف بنا يا رب.
No comments:
Post a Comment