الجلبيّة العلاويّة
صباح علي الشاهر
قد يقول قائل كيف يمكن جمع من هم على طرفي نقيض؟ وسيكون الجواب سؤالا أيضاً: هل هم على طرفي نقيض حقاً؟
عبر كل العصور والأزمان وجد نهجان، نهج تمثل بكل الثوار والمصلحين والأحرار في العالم، بدءاً من قادة الفكر والدين، وصولاً إلى قادة الجماعات والإتجاهات والأحزاب، ومختلف الشرائح الإجتماعية، تمثل هذا النهج ليس برفض التعامل مع الأجنبي خصوصاً إذا كان عدواً والإعتماد عليه، أو تخويله أو تفويضه بحسم الصراع الداخلي، فالصراع الداخلي يظل داخلياً، ويحسم داخلياً، وإذا كانت كفة الثوار والمصلحين غير راجحة، فلأن الضعف في الثوار والمصلحين، أو في نهجهم، أو عدم توفر القيادة الفاعلة والمؤثرة لديهم، أو في قوّة المستبد ونظامه، و في كون الناس لم ينضجوا بعد لإحداث التغيير أو المساهمة فيه، أو لم يصلوا لمرحلة الإستعداد لتقديم التضحية اللازمة، ولا يقتصر هذا على الأمم والأوطان، وإنما يمتد حتى إلى الوحدات الأقل كالقبيلة والعشيرة، والجماعة، وحتى الحزب، ولقد أضحى هذا عرفاً يُعد الخروج عليه خيانة ما بعدها خيانة، حتى بالنسبة للعشيرة والأحزاب الكبيرة والصغيرة إذا إعتمد بعض أعضائها على من هم خارج الحزب، حتى ولو لم يكونوا أعدائه، في صراعهم مع رفاقهم فإنهم يعدون خونة بلا شك، ولا أظن حزباً من الأحزاب لا يُقر هذه الحقيقة، فكيف إذا كان الأمر مُتعلقاً بشعب ووطن وأمة ؟!
ونهج تمثل بالمتواطئين والمتعاونين مع قوى الخارج، حتى ولو كانت عدوة، وتمتليء صفحات التأريخ بصفحات حالكة السواد لأمثال هؤلاء فاتحو الحصون والقلاع للعدو. والذين وسموا بالعار، وهذا هو حكم التأريخ، تفيقه من تفيقه، وثرثر من ثرثر، وبرر من برر، فمزبلة التأريخ مزدحمة بخونة الأوطان والشعوب من كل صنف ولون، وبالمقابل فإن صفحات التأريخ تسطر بأحرف من نور أسماءاً حُفرت في وجدان الأمم، وظلت نبراساً مُلهماً، إبتداءاً من الأنبياء والأئمة، والمصلحين، والثوار الحقيقين، لا طلاب السلطة والجاه، والمنافع، تحت ستار رفع المظلومية عن الناس، بوضعهم في عبودية العدو الأجنبي ، وهي أشد وأقسى من كل مظلومية بنتائجها الكارثية.
لم يجرؤ أحد خلال كل تلك المراحل على شرعنة الخيانة، لكننا وجدنا من يُبررها، ويسوغها، بإعتبارها الضرورة التي تُبيح المحضورات، لكن الجلبيّة العلاويّة شرعنت الخيانة وتباهت بها، وهذا أقسى ما يمكن أن يوجه للوجدان الوطني من إهانة وإمتهان، لقد أضحت الخيانة الوطنيّة لدى البعض وجهة نظر، وعندما تصبح قضية كهذه مثار إلتباس عند البعض فهذا يعني أننا مقبلون على مرحلة تنعدم فيها كل المقاييس التي يمكن إعتمادها للتمييز بين الوطني والعميل، والتي يمكن من خلالها وعبرها حماية الوطن، وإذ ما سادت حال كهذه – لا سامح الله- فإننا سندخل مرحلة موت مفاهيم الإستقلال والسيادة الوطنية، وصولاً إلى ضياع الأوطان وتلاشيها، لقد كان كل هذا مطلوباً وبشدة في مرحلة نهوض القطبيّة الواحدة، وهيمنة ما سُمي في حينه بثقافة العولمة، التي كانت في جوهرها نقيضاً لكل ما هو وطني أو قومي، وحتى أممي، فالعولمة ليست كالأممية يمكن أن تتعايش وتتفاعل مع الوطنية والقومية ، بإعتبار الأوطان والقوميات والأمم جزءاً من عالم الأمم والشعوب الواحد الذي ينبغي أن يكون عالماً عادلاً بمعايير إنسانية ، وإنما تعني هيمنة الأقوياء على الضعفاء، وإستعباد الأغنياء للفقراء، ليس على نطاق قطر منفرد، وإنما على نطاق كوني، ومن أجل تحقيق هذا الهدف كان من اللازم تهديم حصون معينة، كانت تشكل سداً منيعاً يحول دون إنتصار مفاهيم العولمة الحاسم، كالوطن والوطنية، والأمة والقومية، والسيادة، والإستقلال الوطني، وما يستتبع كل هذا من قيم ومفاهيم، كانت تشكل عوارض وكوابح تحول دون تقدم المفاهيم النقيضة التي سعت العولمة إلى فرضها، ليس بالحوار والإقناع، وإنما بالتآمر والحروب والفوضى الخلاقة، ولهذا فليس من المستغرب أن تجد مثقفاً ، كان إلى وقت قريب يتغنى بالوطنية واليسارية والتقديمة، يتساءل مستغرباً :( شنو يعني وطن؟!، ثم يجيب : الوطن والأوطان شيء من الماضي !!)، وربما ضمن إطار سياسة الصدمة والترويع تباهي فارس من فرسان العصر الجديد بكونه خدم في ستة عشر وكالة مخابرات أجنبية، وهو أول تصريح علني يفتخر فيه عميل بعمالته دونما خجل ولا حياء، لقد توهم هؤلاء بأن الزمن أضحى زمن العولمة وبالتالي زمنهم، لا زمن الوطنيين، والقوميين، والأمميين الحقيقين، وقد تسرعوا كثيرا في إعلان النصر والتصرف بموجباته، ولو علموا أن شهر عسلهم سيكون قصيراً لما كانوا تورطوا في قول ما قالوه.
الجلبيّة العلاويّة فصيل مُتقدم للعولمة المسلحة في عالمنا العربي، كانت مهمتهم تحطيم حصون وقلاع الوطن والوطنيّة، لقد بدأ هذا الفصيل بالخطوة الأولى من مرحلة الألف ميل، ولكن الأسياد الذين خلقوا هذه الظاهرة ما كان في حساباتهم أن يظل نفس الفصيل في سباق الألف ميل حتى النهاية، لم يكن سباق الألف ميل سباقاً فردياً ، وإنما هو سباق البريد ، حيث يسلم المتسابق المنهك الخشبة لمتسابق آخر يقف مستعداً خلف الخط.
ولنا عودة لمتابعة هذا الموضوع
No comments:
Post a Comment