الاحتفاءُ بالبذاءة
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 20/9/2014)
فى بداية السبعينات من القرن الماضى (أى منذ أكثر من أربعين سنة) قالت بطلة الفيلم فى نهايته (يا أولاد الكلب) واعتُبرت هذه كبيرةً من الكبائر دارت حولها مُجادلاتٌ كثيرةٌ فى الصحف، رغم أن التطور الدرامى لأحداث الفيلم وخِسّة شخصياته كان يؤدى بالجمهور فى نهايته لأن يقول نفس اللفظ فى اللحظة التى كانت تصرخ به البطلة .. كان هذا في فيلمٍ سينيمائى .. أما مسلسلات التليفزيون التى تقتحم علينا بيوتنا، فقد حافظت على التقاليد طوال هذه المُدّة إلى أن انفجرت فى وجوهنا فى العاميْن الأخيريْن بألفاظٍ يُدينها معظم المصريين لو سمعوها فى شارعٍ عمومى .. ورغم انتقادنا لذلك، إلا أن الأمر يظلُ تمثيلاً فى تمثيل .. الجديدُ فى الأمر أن البذاءة والفُحش فى القول لم تنتقل فى الأعوام الأخيرة إلى البرامج الحيّة فى الفضائيات الخاصة والواقع المُعاش فقط، وإنما صارت موضع احتفاءٍ وترحيبٍ وتنافس.
منذ شهورٍ قليلةٍ كان أحد الشخصيات العامة يتدفق لسانه بسبابٍ يعاقب عليه القانون وبألفاظٍ جنسيةٍ صريحةٍ (وليس تلميحاً) ضد المختلفين معه .. وبدلاً من إيقاف البرنامج على الهواء، إذا بالمذيعة تبتسم وهى تستمع لسيْلِ الألفاظ الخادشة للحياء .. ثم تتسابق الفضائيات الخاصة فى اليوم التالى لاستضافته (إلى يومنا هذا) .. ولم أستغرب ماحدث لأنه جاء متسقاً مع حالة الاحتفاء بالبذاءة التى شارك فيها كثيرٌ من السياسيين والإعلاميين وثوّار ما بعد الثورة على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة، رغم أن الثورة نفسها والثوار الحقيقيين لم يكونوا كذلك.
أذكر أننا كنا نقاوم نظام مبارك وسياسات الوريث ونتعرض للأذى المعنوى والمادى والبدنى ونرفض أن يتلفظ أحد شبابنا المتحمسين بأى لفظٍ خارج، وفى القلب مِنّا الدكتور/ عبد الوهاب المسيرى وحوله كل القامات الكبيرة يهتفون بإصرارٍ (سلمية .. سلمية)، ومعظمنا يتعجب كيف يمكن أن يسقط هذا النظام القمعى سلمياً .. لكن الكل كان يلتزم بتعليمات الكبار .. وبعد سنواتٍ تحققت نبوءة المسيرى وجاءت ثورة المصريين فى يناير 2011 متفردةً فى تحضرها الذى يليق ببلدٍ ضاربٍ فى عمق التاريخ .. أول شعبٍ يثور وهو يضحك ويرسم ويُغّنى ويجعل من ميدان التحرير كرنفالاً للإبداع .. كان ميداناً بلا خطيئةً .. إلى أن سقط النظام .. فإذا بمعظم وسائل الإعلام (لا سيما المملوكة لرجال أعمال مبارك) تتجنب معظم النماذج الثورية المحترمة وتحتفى بنماذج بعينها .. معظمهم لم يكن لهم دورٌ فى الثورة (بل البعض كان دوره سلبياً) .. إلا أن القاسم المشترك الأعظم بينهم كان هو التجاوز اللفظى .. وانتقلت العدوى للكثيرين من ثوار ما بعد الثورة بحيث بدا وكأن من مواصفات الثائر الحق أن يكون صفيقاً وسليط اللسان.
لا ألوم هؤلاء الصغار بقدر ما ألوم الكبار (من كل التيارات) الذين تعايشوا مع هذه الظاهرة (بل باركوها أحياناً) فى كل مراحل ما بعد ثورة يناير .. وإليكم بعض الأمثلة:
ففى مرحلة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تطاولت فتاةٌ غريرةٌ على المشير/ محمد حسين طنطاوى وبدلاً من أن يلومَها الكبار، تَسابق الجميعُ للاعتراض على تقديمها للمحاكمة .. وعندما تطاول (نائبٌ) شاب على نفس الرجل تسابقت بعض الصحف والفضائيات للإشادة بتمسكه بعدم الاعتذار عن السب العلنى .. وكأن الوقاحة فضيلة.
وفى مرحلة الدكتور محمد مرسى، اعترض شابٌ طريق الدكتور محمد بديع مرشد جماعة الإخوان وهو خارجٌ مع أسرته من أحد المطاعم وأسمَعَه (أمام أسرته) ما لا يليق (بغضّ النظر عن الاختلافات السياسية) .. ولقى هذا التصرف المعيب استحسان معظم برامج الفضائيات لَيْلَتَها دون أن يقول أحدٌ إن ما حدث عيب (باستثناء إبراهيم عيسى).
أما مرحلة ما بعد 30 يونيو فقد سقط الجميع فى هذه الخطيئة، وإن تكفّل طلبة وطالبات الجماعة بالقسط الأوفر من سخائمها، التى أصبحت جدرانُ المبانى شاهداً تاريخياً عليها .. وهم لا يدرون أن الجزء الأكبر من رصيدهم (الذى كان) لدى الشعب المصرى كان يرجع للصورة المهذبة للمنتسبين للجماعة .. وأن جزءاً من شعبية السيسى لدى المصريين راجعٌ إلى نظافة لسانه وتعففه عن الرد على هذا السباب.
وقد اندهشتُ لما قيل فى تبرير بذاءة الطلاب الذين اقتحموا احتفال كلية الاقتصاد والعلوم السياسية منذ عدة شهورٍ .. إذ قيل إنهم كانوا يظنون أن المدعو للاحتفالية هو الدكتور/ يوسف بطرس غالى وزير المالية الأسبق وليس الدكتور/ بطرس غالى عميد الدبلوماسية المصرية والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، وكأن سبّ الأول جائز .. لقد اختلفتُ وغيرى (ولا زلنا) مع بعض سياسات يوسف بطرس غالى وزير المالية .. لكن أحداً منا لم يتعرض لشخصه وما كنا لنسمح لأحدٍ أن يَسُبّه بسخائم من عينة (خسيس .. حرامى .. بياع حشيش) .. وغير ذلك مما هَتَف به طلاب الجماعة .. فيوسف غالى مسؤلٌ مصرىٌ اجتهد فى رسم وتنفيذ سياساتٍ، واجتهدنا نحن فى معارضتها .. وحتى إذا أدانه القضاءُ بحكمٍ نهائيٍ فى أحد القضايا فسيكون بعقوبةٍ محددةٍ، ليس من بينها التجريس
يا كل فرقاء السياسة .. لا تنسوا أن الشعب المصرى فى معظمه شعبٌ مؤدبٌ متحضرٌ يعرف الأصول .. ويُحبُ من يُشبهه.
No comments:
Post a Comment