جهلنا يحز رقابنا
صباح علي الشاهر
"الإنسان عدو ما جهل" حكمة تُوضع في صدارة الحكم، تُرى كم هي الإشياء التي نعاديها جهلاً منا بها؟
"وتكرهون شيئاً وهو خير لكم، وتحبون شيئاً وهو شر لكم" حكمة أخرى لا أبلغ ولا أعمق تسير في نفس المنحى، وبين الجهل بما نكره، والجهل بما نحب، قد يصبح سعينا قبض ريح، وقد ينقضي العمر هباءاً منثوراً.
بعيداً عن ثنائية الشر يكره الخير، والخير لا يتوافق مع الشر، فإن هذه القاعدة ليست فاعلة على طول الخط، إذ قد لا يكره الشر الخير، ولا يكره الشر الشر، وقد يتوافق الخيرمع الشر، وقد لا يتوافق الخير مع الخير، و يحدث هذا حتماً عندما لا يتمكن الإنسان من تحديد الشر الحقيقي، وإنما ما يتوهم أنه شر، ولا تحديد الخير الحقيقي، وإنما من وما يتلبس لبوس الخير، وما هو بخير، بل هو الشر بعينه، عندئذ يحدث اللبس الذي يعمي القلوب والأبصار.
الشر ليس خارجنا، فلا شر في الطبيعة، ولا شر في الكون، وإنما الشر منا وفينا. الشر في دواخلنا، في أفكارنا وتصوراتنا، وموقفنا بعضنا من بعض، لذا فإن الشر بكل أشكاله وألوانه ذو طبيعة إنسانية بحتة، ونتاج إنساني بحت.
وبعيداً عن الحقيقة الثابتة القائلة بأن لا وجود لشر مطلق، ولا لخير مطلق، وإنما الخير، مثلما الشر، نسبيان، ومُخلطان، إذ ماهو شر بالنسبة للبعض، يكون خيراً بالنسبة للبعض الآخر، والعكس صحيح، فإزالة إسرائيل خير بالنسبة للفلسطينين، فيما هي كامل الشر بالنسبة للصهاينة، ولكن الثابت أيضاً أن ثمة ما هو خير بصفاته الأعم، وما هو شر بصفاته الأعم، وإن صفات الشر الكامنة في الخير قد تسود في مرحلة ما، مثلما أن صفات الخير المُتنحية في الشر قد تبرز في ظروف معينه، ومن هنا يمكن تفسير إنتقال الخير إلى شر بإنتقال الخيّرإلى شرير، وإنتقال الشر الى خير بإنتقال الشرير إلى خيّر، وهو أمر يؤخذ دائماً بعين الإعتبار، لذا فإنه لا توجد عداوات دائمة، ولا صداقات دائمة، وهذه حقيقية لا تقتصر على عالم السياسة والسياسين، والدول والأمم، وإنما تملك راهنيتها وعموميتها على نطاق الأفراد أيضاً، فكم صديق صدوق تحوّل إلى عدو شرس، وكم عدو لئيم تحول إلى صديق حميم؟
تبدو الحماسة في الولاء، مثلما الحماسة في العداء، أمراً صبيانياً، ينم عن إنعدام الحصافة، وعدم وضع الإحتمالات الممكنة في الإعتبار.
دائماً تجد المُتعصبين للشيء أكثر الناس جهلاً وفراغاً، في حين تجد من يتعصب لهم المتعصبون أكثر الناس قدرة على التفاهم والتلاقي، وربما الإنتقال من ضفة إلى أخرى، ومن حليف إلى آخر، المتعصبون يستعملون دائما قنطره للتفاهمات، وتفسير هذا ببساطة أن من يُتعصب له يلعب، وذاك المتعصب يُلعب به وعليه، أن الأول لاعب والثاني ملعوب.
الملعوب بهم لا يدركون أنهم ملعوب عليهم، يظلون دائماً مُتعصبين، ووقوداً لنيران تفتح المسالك أمام نفوذ الغير ومصالح الغير، وهم دائما – وعلى مرّ المراحل- الضحايا الذين يكونون غالباً مجهولين، ألم يسأل أحدكم نفسه لماذا ضحايا الحركات والأحزاب عبارة عن أرقام؟ ولماذا لمئات آلاف الضحايا من الجنود نصب يسمونه نصب الجندي المجهول؟ لماذا الجندي الضحية مجهول، والقائد الذي لم ينزف دماً، ولم يقاتل معلوم، يسطر التأريخ المزيف مئات وآلاف الصفحات عن أمجاده وبطولاته وإنتصاراته؟
ينتابني أحياناً إحساس يلامس حد اليقين بأن أغلب القادة الذين إعتبرهم التأريخ أفذاذا هم ليسوا أفذاذاً بالمرة، هم ليسوا الخير المطلق، الذي تصوره لنا كتب التأريخ لا بارك الله فيها، وإنما هم إن لم يكونوا أشراراً، فإنهم على الأقل (مخلطون)، كيف لخير مثلاً قتل أخيه لأخذ مكانه، أو حرق أناس أحياء لأنهم يخالفونه؟!
لا توجد أمم وشعوب خيّرة، وأخرى شريرة، مثل هذا القول هلوسة لا تصدر إلا عن عقول غادرها المنطق السليم. يوجد في كل الأمم والشعوب من هم أشرار ومن هم أخيار، وداخل كل أمه وشعب يجري الصراع الأزلي، بأشكال متعددة بين الخير والشر، وهذا الصراع الأزلي هو الذي يحدد مسار تأريخ كل أمه وشعب، ومسار التأريخ الإنساني برمته.
وهذ لا يتعارض مع وجود بعض الحساسيات بين الأمم الكبرى المتجاورة، كالعرب والفرس، والفرس والترك، والإنكليز والفرنسيين، والألمان والروس، والصينين والهنود .. إلخ، إلا أن هذه الحساسيات لا تتأتى من كون بعض الأمم شريره، وبعضها خيره، وإنما بسبب التدافع والتنافس وتعارض بعض المصالح في حقب تأريخية معينة، تماماً مثلما يحدث بين أفراد البيئة الواحدة، وبالأخص عندما لا يصار إلى ضبط العلاقات وتقنينها، ومراعاة مصالح الجميع، وهو ما فعلته أوربا في نهايات القرن المنصرم، حيث وضعت حداً للعداء الذي ميز العلاقات بين جميع الدول الأوربية، وهو صراع لم يكن بين شعوب هذه القارة وإنما صراع بين أنظمتها وحكوماتها. لقد توصل الأوربيون إلى عقلنة الصراع والتنافس فيما بينهم عبر إنتهاج طريق تكامل المصالح، وزيادة معرفة هذه الشعوب والأمم بعضها ببعض عبر رفع كل ما كان يعيق تلاقي الناس وتبادل المنافع فيما بينهم، وقد سبقنا نحن غيرنا في إكتشاف هذا الطريق الناجع للعلاقات بين الأمم والشعوب، إعتماداً على الآية الكريمة ("يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ").
جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، لا لتتقاتلوا وتتباغضوا!
الأوربيون حاربوا في نهايات القرن الماضي التعصب، وأعادوا كتابة تأريخهم، بما فيه الأرث الديني، وتوصلوا في النهاية إلى ما توصلنا إلية قبل ألف وأربعمائة عام، غادروا خرافة الفرنسي الغادر، والإنكليزي اللئيم، والكولاك الروسي الغبي والسكير، والإلماني الجزار، وأوقفوا صراعات الكنيسة البروتستانتية والكاثوليكية إلى الأبد على قاعدة (كلنا مسيحيون)، وظللنا نلوك دونما ملل مفردات الرافضي والناصبي، والفرس المجوس، والترك العثمانيين.
تُرى ألم يأن الأوان بعد كل هذا الدمار أن نتساءل: من نحن، وإلى أين نمضي؟
No comments:
Post a Comment