المرأة وقضايا الاختلاط واللباس والزينة والحلية
اتضح لنا من خلال الفصلين السابقين أنه لا يوجد حياة عامة للرجال وأخرى خاصة بالنساء، وإنما هناك مجتمع إنساني مليء بالحيوية والنشاط وتتكامل فيه أدوار الجنسين. على هذا خلق الله الشعوب والقبائل والأزواج، وبناء عليه كان التكليف. بجهود الناس جميعاً تبنى المجتمعات وبتعاونهم يتحقق التقدم والبناء وتسير الإنسانية إلى الأمام. لكل فرد حياة عامة وأخرى خاصة وهما يعززان بعضهما بعضاً ومن خلالهما يستطيع تحقيق ذاته فيشعر بقيمته وينسجم مع ذاته ويصبح أكثر قدرة مع الزمن على تقديم ما فيه الخير لذاته ولمجتمعه.
هناك فروقات جسمانية بين الذكر والأنثى، لكن لا توجد دلائل في خلق الله أن هذه الفروقات تقود إلى إلغاء الحياة العامة لأي من الذكر والأنثى، إلا أنها بالضرورة تقود إلى فروقات وظيفية. الفروقات الوظيفية هي أيضاً ذات طبيعة تكاملية تيسر على الجنسين البناء الأسري والمجتمعي. أي أنها ليست مقيدة للحركة والنشاط وإنما تجعل من اليسير توزيع الأدوار حسبما تقتضيه الحاجات الأسرية وتقديرات كل من المرأة والرجل في حياتهما معا. وينعكس هذا بالتأكيد على التكليف فيسعى كل طرف حسبما يجد أن في قدرته أن يسعى ويحجم عن تلك الأعمال خارج قدرته وطاقاته. وهذا أيضا لا يتغذى على الحياة العامة ولا يلغي الحياة الخاصة.
من الملاحظ أن التكوين الإنساني بشخصيه الذكري والأنثوي يشكل عاملاً تنظيميا طبيعيا للمجتمع. فبسبب تدخل هذا التكوين في الطاقات وبالتالي في الوظائف فإنه يعمل على ترتيب الأمور بين الرجل والمرأة ترتيبا طبيعيا، على الأقل في عدد من الأمور مثل القوامة وحضانة الأجنة. وعليه من المتوقع أن يأتي التشريع الخاص بالحياة الاجتماعية واليومية منسجما مع الترتيب الطبيعي. فهل هذا التوقع صحيح؟
إذا نظرنا إلى جدل المسلمين حول المرأة في الإسلام والذي تمت الإشارة إليه في بداية هذا العمل، نجد أن المسلمين لا يركزون على مسألة الحق والباطل، وإنما ينهمكون في مسألة الحلال والحرام، ويكرسون الجهد والوقت الكبيرين في تحليل ما هو وارد في التشريع وأطرافه من روايات عن صحابة أو أناس صالحين أو سلف صالح. وهناك قضايا اجتماعية تشد انتباهم أكثر بكثير مما يشد إلى قضايا الحق والباطل مثل الاختلاط والزينة واللباس. وهذه قضايا عنيت بها الكثير من الكتابات الإسلامية والدروس الدينية وخطب الجمعة وتوجهات الوعظ والإرشاد. ومن شدة التركيز عليها، امتلأت موضوعاتها بالتفاصيل الدقيقة وبأقوال العديد من الدعاة والناصحين والواعظين. فهل هم بهذا على حق؟ أم أنهم وجدوا في هذه المواضيع ما يسد عجزاً عن تناول مسائل إسلامية ذات علاقة أكثر أهمية في ترتيب الحياة الإسلامية؟
يتناول هذا الفصل هذه القضايا بحثا عن بعدها الإسلامي ومحوريتها في التركيب الاجتماعي والتنظيم. وكمقدمة لبحثها أرى ضرورة استبعاد الآيات الخاصة بنساء النبي كأساس لاستنباط الأحكام. تقول الآيات:
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً * واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة، إن الله كان لطيفا خبيرا" ( الأحزاب، 32-34 ).
هذه آيات خاصة بنساء النبي بدليل قول الله تعالى: " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ". بمعنى أن ما ينطبق على نساء النبي لا ينطبق بالضرورة على نساء المؤمنين لأنهن عبارة عن حالة خاصة، وبالتالي فإن ما يترتب عليهن بسبب هذا الوضع مختلف عما ينطبق على بقية النساء. وقد أولى سبحانه نساء النبي بآيات خاصة أخرى مثل:
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما * يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما" (الأحزاب، 28-31).
واضح من هذه الآيات أن الله يضاعف الجزاء لنساء النبي مميزا إياهن عن نساء المؤمنين. فالتي تأتي بخير يضاعف لها الثواب، ومن تأتي بفاحشة يضاعف لها العقاب.
فضلا عن هذا، تخاطب الآيات نساء النبي بنساء النبي وليس بنساء الرسول، وتطلب منهن الطاعة لله والرسول. وذلك لما يلي:-
أ- تزوج النبي نساء كنبي وليس كرسول صاحب رسالة يبلغها للناس. فكصاحب رسالة بلغ الرسول الناس بما أوحي إليه حول الزواج وكيفية إتمامه لعموم المسلمين. ولو كان زواجه كرسول لوجب الاقتداء به في ذلك القدر من التعدد.
ب- طلبت الآيات من نساء النبي أن يخترن الله ورسوله والدار الآخرة ذلك لأن الرسول هو حامل التعاليم والشرائع وعليهن إطاعته.
ولعل هذا التمييز الدقيق بين الرسول والنبي بحاجة إلى بحث مسهب منفصل. ولكن يبقى من المهم الإشارة إلى أنه تمت مخاطبة نساء المؤمنين بآيات أخرى ستتم الإشارة إليها.
الظهور العام
يتعارف الناس على الظهور العام على أنه الاختلاط. والاختلاط عبارة عن اصطلاح مترجم عن الفرنجية وهو Co-ed، ولا يوجد، حسب معرفتي، ما يقابله في اللغة العربية سوى الظهور العام أو المشاركة العامة، علماً أن المصطلح الفرنجي يتعلق فقط بالتعليم المختلط في المدارس والجامعات، وهو يعني التعلم معا، أن يتعلم الذكور والإناث معا في ذات المكان. أخذ المسلمون هذا المصطلح وعمموه على كل النشاطات التي يمكن أن يجتمع فيها الجنسان.
تعبير الاختلاط ليس مستعملا في التاريخ الإسلامي ولم يرد في التشريع، وهو تعبير حديث أدخل إلى الثقافة الإسلامية بفعل تأثير الحضارة الأوروبية. ما يمكن أن يكون في الإسلام هو الظهور العام أو المشاركة بهدف قضاء مصالح خاصة أو عامة وهو يشمل الذكور والإناث. وهذه مسألة لم تأخذ حيزا في أدبيات التاريخ الإسلامي لأنها لم تكن مثار جدل لدى المسلمين ولا كانت قضية تستفز أعصاب الناس أو تتعدد حولها اجتهادات المجتهدين.
من خلال تتبعي لهذه المسالة إسلاميا انتهيت إلى أنها ليس القضية المهمة والكبيرة التي يجب أن ينشغل بها المسلمون ويركزوا عليها. إنها قضية لا علاقة لها بالإسلام ولا تمت له بصلة ولا يعنى بها الإسلام. وجدت في كتب التاريخ الإسلامي ما يزخر بنشاطات المرأة العامة ومشاركتها. كان هناك المجاهدة والمحاسبة والمعلمة والطالبة والتاجرة والمضمدة والفقيهة والراوية والمرضعة والحكيمة والمشترية والمشاركة في المجالس العامة والخاصة، الخ. لم أجد أن المرأة في التاريخ الإسلامي كانت غائبة عن مختلف النشاطات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحربية. وهناك العديد من الكتب التي تروي قصصا عن مسلمات لامعات نابغات مبدعات، والكتاب المسلمون المعاصرون لا ينفون ذلك وإنما يؤكدونه. وعادة ما تتردد أسماء مثل خديجة والشفاء وعائشة وأسماء وخولة وأم عمارة والخنساء وفاطمة.
لا يوجد في القرآن الكريم أي نص يحرم الظهور العام أو يمنعه أو يدعو إلى تجنبه، ولم أجد في الحديث ما صح منه وما حسن ما ينص على ذلك. بل هناك ما يؤكد ويؤيد مشاركة المرأة في الأعمال العامة. قال تعالى: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم " ( التوبة، 57 ). الرجال يأمرون النساء بالمعروف والنساء يأمرن الرجال بذات الأمر، والإثنان يعملان من أجل إحقاق الحق. وقال سبحانه في معرض النشاط الاقتصادي والاجتماعي: " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير * فجاءت إحداهما تمشي على استحياء، قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين * قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " ( القصص، 23-26 ). حسب هذه الآيات لم تتوارى الفتاتان خجلا وإنما ابتعدتا عن الازدحام، ولم يكن لديهن حرج في التحدث مع الشاب، ولا في أن تدعوه إحداهن على استحياء إلى أبيها، ولا في تشجيع أبيها على استئجاره.
والمرأة في القرآن تحاور وتجادل، إذ قال سبحانه: " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير " ( المجادلة، 1 ). والمرأة تبايع وتلتزم بالشرائع السماوية والرسول عليه السلام يقبل المبايعة: " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله … فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم " ( الممتحنة، 12 ). وهي يمكن أن تناجي الله رب العالمين: " قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، قال كذلك الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( آل عمران، 47 ). وهي أيضا مضيافة تقدم الطعام: " ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ * فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب * قالت يا ويلتي ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب. قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد " (هود، 69-73). إنها تتحدث مع الضيوف وتضحك وتناقش.
أما في السيرة النبوية والأثر فالأمثلة كثيرة على الظهور العام للمرأة ومشاركتها في مختلف نشاطات الحياة. فكانت النساء تستفتي الرسول عليه السلام في مختلف المجالات. حتى أن الاستفتاء كان يمس أمورا خاصة جدا. فإن صحت الرواية، قبل رجل امرأته وهو صائم ، فسألت المرأة عن ذلك فقال لها رسول الله: " إن رسول الله يفعل ذلك ". و في رواية عن زينب بنت أم سلمة أنها شكت لعائشة من غلام يدخل عليها. فنصحتها عائشة بأن ترضعه عملا بما قاله عليه السلام لسهلة ابنة سهل حول ذات القضية: " أرضعية حتى يدخل عليك …. " ينسجم هذا مع ما رواه مسلم:
عن عائشة أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم فأتت سهلة ابنة سهل النبي عليه السلام فقالت : إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوا وإنه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فقال لها النبي عليه السلام : أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة. فرجعت فقالت: إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة2.
يقول الشيخ عبد الحليم أبو شقة عن الحافظ ابن حجر أن هذه القصة ثابتة وأن عائشة كانت تأمر بنات أخوتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها ويراها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها3.
وفي السيرة أن المرأة قد قامت على خدمة الرجال وتقديم الطعام لهم ". عن سهل قال: لما عرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي عليه السلام وأصحابه فما صنع لهم طعاما ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد: بلت تمرات في تور من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي عليه السلام من الطعام أماثته له فسقته تتحفه بذلك4".
وحسب الروايات فإن رسول الله عليه السلام كان يزور أم سليم وكان يطلب منها أن تحضر الطعام له وأن تخرج ونسوة أخريات معه إلى الجهاد. فيروي البخاري، على سبيل المثال، أن رسول الله عليه السلام قال: " هلمي يـا أم سليم ما عندك. فأتت بذلك الخبز فأمر به رسول الله عليه السلام ففت وعصرت أم سليم عكة فأدمته. فأكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون أو ثمانون ….5.
شاركت المرأة الرجال الهجرة إلى الحبشة مثل أسماء بنت خميس، وشاركتهم في مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقبلت الرسول في المدينة المنورة عند وصوله من مكة. وقد استقبلت أسماء بنت خميس الرجال في بيتها. أما أسماء بنت أبي بكر فكانت تلتقي الرسول باستمرار في منزل والديها، وقد دعاها ذات مرة ليحملها خلفه على راحلته وهو مسافر مع جمع من الأنصار6. وكانت المرأة تحاور الرجال دون وجل ". عن أم الفضل بنت الحارث أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم. وقال بعضهم: ليس بصائم. فأرسلت له بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه7 " وكان رسول الله عليه السلام يساعد النساء في قضاء حاجاتهن: " عن أنس بن مالك قال: كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت8 ". وعن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال: يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها9 ".
وقد كان من المعروف أن أم شريك الأنصارية كانت مضيافة وكان بيتها منزلا لأصحاب رسول الله. أما أسماء بنت أبي بكر فقد استقبلت رجلاً فقيرا بعد أن نزعت الغيرة من نفس زوجها. وأما في الغزوات فكانت المرأة تقوم على العطشى والجوعى وتداوي الجرحى وترد القتلى.
هذه مجرد أمثلة سقتها حول نشاطات المرأة ومشاركتها في الحياة العامة للمسلمين جنبا إلى جنب الرجل. والسيرة تزخر بأمثلة كثيرة وكذلك سير الصحابة والتاريخ الإسلامي. وهي جميعا ترد بوضوح على من ينكرون الظهور العام للمرأة ويعملون على حصرها بين جدران المنزل. فالقرآن واضح والسنة تؤكد ما ورد في القرآن. علما أنه من المحتمل أن بعض الروايات التي وردت في كتب السنة قد لا تكون صحيحة، لكنها موجودة في كتب يتمسك بها أصحاب إنكار الظهور العام على المرأة بشدة ويعتبرونها مراجع أساسية في فهم الدين الإسلامي، ويقدمونها أحيانا في جدلهم على القرآن الكريم.
واجهت عددا من المتخصصين في الشريعة بهذه المسألة فمنهم من أقر بالأقوال أعلاه ومنهم من خلط بين المبدأ والآداب. قال بعضهم أنه بما أن الفتاة تخرج سافرة الوجه كاشفة الرأس ولابسة للقصير من الثياب فإنها تحدث فتنة، وفي ذلك ما يجعل الاختلاط ( الظهور العام ) حراما. أي أن هؤلاء يحرمون مبدأ إسلاميا بسبب ما قد يصاحب تطبيقه من سلوكيات غير إسلامية. وهذا أمر يشكل بالحقيقة مشكلة كبيرة لأن فيه اعتداءاً على الشرع الإسلامي بحجج لها علاقات بتصرفات أفراد. فبدل أن يتم الحديث حول هذه التصرفات يجري زج الإسلام بجريرة من هو أو هي غير ملتزمة بالتعاليم الإسلامية.
إذا قسنا مثلا ما يقوله هؤلاء على التجارة المختلطة بالغش فإنه من الضروري أن نحرم التجارة. هناك تجار وباعة يغشون بأشكال متعددة، ولا بد من تحريم مبدأ التجارة لأن السلوكيات غير ملتزمة بالتعاليم الإسلامية. فهل هذا مـن المنطق؟ طبعا لا. فتعطيل التجارة يعطل الكثير من مصـالح الناس ويجعل حياتهم أكثر صعوبة وقسوة، وهو عمل مناقض للمبدأ الإسلامي الذي يحل البيع والشراء. والأفضل دائما هو إصلاح السلوكيات بحيث تتمشى مع الآداب الإسلامية التي من المفروض أن يلتزم بها البيع والشراء. وهكذا الأمر بالنسبة للظهور العام. فلا يجوز تحريم ما أحل الله، والمنطق الإسلامي يفرض العمل على ترسيخ الآداب لكي تنسجم مع المبدأ. وعليه فإن تعطيل مشاركة المرأة في الحياة العامة ليس من الإسلام.
يظن بعض الكتاب الإسلاميين أن الاختلاط معناه أنه خلطة من الذكور والإناث لا هدف لهم سوى الاحتكاك الجنسي. هذا ظن خاطئ على الرغم من إمكانية استغلال الظهور العام لهذا الغرض. ولهذا حرم الله انتهاك العرض والزنا ووضع العقوبات. فلو أراد الله ، ولله المثل الأعلى، أن يمنع الظهور العام لسبب ما يمكن أن ينشأ من احتكاكات جنسية لفعل. لكن حكمة الله، وكما رأينا خلقا وتكليفا، اقتضت تعاون الناس ومشاركتهم في الأعمال العامة. ولو حصل لظهرت تناقضات في المجتمع الإسلامي يصعب حلها، إذ كيف يمكن أن يخلق الإنسان بذكره وأنثاه بطاقات لتلبية حاجاته ثم يمنعه من ممارسة هذه الطاقات؟ وكيف يمكن أن يحصل التكليف والذي يعتبر القيام به عملا إسلاميا ثم تمنع الأنثى من السعي الذي لا يمكن أن ينحصر داخل جدران المنزل أو بمعزل عن كل عناصر المجتمع؟
العمل الجماعي عبارة عن مبدأ إسلامي ولهذا خاطب الله المسلمين كأمة وقال لهم: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، " وهو يعود على الأمة بمنافع تزن أضعاف الضرر الذي يمكن أن ينشأ عن احتكاكات جنسية. فلا تؤخذ الأمة بهوس جنسي على حساب العمل الجماعي والتعاون المتبادل الذي يؤدي إلى التقدم والرقي الأخلاقي. التعاون المتبادل يولد الثقة المتبادلة بين الناس ويرسخ مفهوم الأخوة ويعزز رغبة الناس في تحقيق الإنجازات وزيادة الإنتاج ويؤدي إلى تطوير مفاهيم المشاعر المتبادلة ويضعف آفاق الاستغلال والانحراف. وهكذا هي سيرة الأمم التي تسير سريعا في طريق التقدم وتبدأ بالنهوض في مختلف مجالات الحياة. الأمة المتقدمة تعيش مراحل من المد الأخلاقي الذي يجد طريقه إلى نفوس الأفراد وسلوكياتهم. تسارع الأمة إلى الأمام يؤدي إلى تماسكها الأخلاقي وسموها السلوكي، وهبوطها يؤدي إلى تدهور أخلاقي وانتشار الفاحشة. ولنا في أمتنا الحاضرة أكبر دليل على ذلك. ففي حين ينشغل العديد من الناس في الوعظ والإرشاد حول الإسلام والسلوكيات التي يجب أن يتبعها الأفراد، نجد أن الأمة تغرق في الهزائم والإذلال والتراجعات، وأن السلوكيات التي تتم مقاومتها تستفحل بالمزيد مع مرور الأيام. السبب أن مرحلة التخلف أقوى بكثير من كل الوعظ والإرشاد. فلو استطاعت الأمة أن تحقق إنجازات في مجال عسكري أو اجتماعي أو اقتصادي وبصورة مؤثرة في النفوس لتغيرت الكثير من السلوكيات بفعل ضغط الإنجاز.
فضلاً عن أن الافتراض بأن مجتمع المسلمين يخلو من الآثام واقتراف الحرام عبارة عن افتراض خاطئ. لو كان الافتراض صحيحا لما كان هناك ضرورة للحدود والعقوبات التي شرعها الله سبحانه. لا مفر، مجتمع المسلمين يعاني من تصرفات وسلوكيات تخرج عن التعاليم الإسلامية وتحل الحرام وتحرم الحلال. ومن يتصور أن المجتمع الإسلامي عبارة عن مجتمع مثالي مطلق إنما يوهم نفسه. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لمجتمع إسلامي، فهل يمكن أن نجعل مجتمعا كمجتمعنا خاليا من الآثام، وأن نحاصر الإثم بالعدوان على ما أحل الله؟
اللباس
لباس المرأة عبارة عن قضية كبيرة جداً لدى المختصين في الشريعة والمهتمين بإقامة الإسلام كمنهج حياة. وهي قضية تفوق في الاهتمام الذي تحظى به اهتمام المسلمين بقضايا الجهاد ومقاومة الاستبداد والحاكم الظالم وإنهاء اغتصاب أرض المسلمين والهيمنة الاستعمارية عليهم، وتفوق قضايا التقدم العلمي وبناء الجامعات والمدارس على أسس حديثة وتطوير العقل التحليلي واستصلاح الأراضي والدفع نحو العقلية الإنتاجية على حساب التوجهات الاستهلاكية. وتفوق أيضا قضية الإنسان ككيان وتحريره من قوى الظلم والطغيان والخروج به من دوائر التخلف والتبعية والاستغلال الاقتصادي والاغتراب والتهميش والتجهيل وتغييب الوعي والرأي الحر.
ظهور شعر المرأة مثلا يحظى باهتمام لدى البعض أكثر من الاهتمام الذي تحظى به قضية فلسطين أو قضية التنمية في الوطن العربي. بل يعتبرون اختفاء شعر المرأة تحت غطاء مقدمة هامة نحو معالجة مختلف القضايا. فمأساة الأمة تكمن في المظاهر غير الإسلامية، وإذا ما اختفت هذه المظاهر فإن الأمة تبدأ بالتغلب على كل الصعاب والتحديات.
ينشغل الناس في بلادنا بقضايا اللباس إلى درجة الهوس. فلا يجوز أن تكشف المرأة شعرها ويجب ألا تظهر منه أي شعرة. وحتى يتم ذلك بشكل إسلامي جيد عليها أن تغطي رأسها بغطاءين: أحدهما تحتي محكم والآخر يضرب فوقه. وإذا ظهرت شعرة، حسب رأي أحد خطباء الجمعة، تهتز السماوات، لما لها من أثر سلبي. وعلى المرأة أن تعقد غطاء رأسها بربطة ذاتية عند العنق، ولا يحل لها أن تعقده بمشبك يلمع أو يحمل لمسة جمال. ويجب أن يكون ثوبها الخارجي فضفاضا بحيث لا تظهر معه تفاصيل جسدها حتى مع تعرضها لمهب الريح. ولا يجوز لها أن تحيط وسطها بإزار أو حزام من شأنه أن يظهر الخصر. ومن المفروض أن يكون الثوب طويلا بحيث يكسو الجزء العلوي من القدمين، ولا يحق لها أثناء جلوسها أن تضع رجلا فوق أخرى حتى لا يظهر شيء من ساقها أو أن تظهر انحناءة فخذها من الأعلى. وإلى غير ذلك من التفاصيل التي تجعل المرأة مشغولة باستمرار بجسدها وما يمكن أن يظهر منه وما يجب ألا يظهر.
دققت بما ورد في القرآن الكريم حول لباس المرأة وبما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أجد كل هذه التفاصيل وكل هذه التعقيدات التي يتم الحديث عنها ويُسهب في شرحها. ورد في القرآن آيتان تحتويان على مبدأين يحكمان لباس المرأة وهما: " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن …. " ( النور، 31 ) " يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما " ( الأحزاب، 59 ). المبدآن الواردان في هاتين الآيتين هما الضرب على الجيوب ودنو الجلابيب. لكن ما هي الجيوب وما هي الجلابيب وما هو الدنو؟
هناك من لا يعتمد على هاتين الآيتين ويعتبر أن الآية الموجهة لنساء النبي موجهة أيضا لنساء المؤمنين وعليهن الالتزام بها بما في ذلك مخاطبة الناس من وراء حجاب10. وقد سبق أن أشرت إلى هذه الآية.
تقول أغلب التفاسير الإسلامية حول الجيوب أنها الصدر، وهي تفاسير اجتهادية لا تستند إلى نص صريح. يقول أصحاب هذا الاجتهاد أن المرأة كانت قبل نزول الآية تغطي رأسها وتلقي بذيل الغطاء على ظهرها تاركة صدرها مكشوفا. والذي طلبته الآية هو أن يرتد الغطاء إلى الصدر ليغطيه. أما بالنسبة للجلابيب فيتم تعريفها في أغلب التفاسير على أنها الثوب الفضفاض الذي يلبس فوق الثياب فيغطي الجسد كله. وغالباً ما نجد تفاسير تستند في ذلك على حديث منسوب إلى الرسول عليه السلام ويقول في صيغة خطاب إلى أسماء بنت أبي بكر: " إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى وجهه وكفيه. اعتبر أبو داود هذا الحديث ضعيفا لأنه مرسل ولأن راوي الحديث وهو خالد بن دريك لم يدرك عائشة التي يقال أنه نقل الحديث عنها. وبالتالي لا يجوز الاستناد إليه. وهذا ما يؤكده أبو شقة الذي لا يشك في ضعف الحديث 11. عدا هذا الحديث الضعيف لا يوجد حديث واضح، عدا روايات عن أمور حدثت أمام رسول الله، حول مسألة لباس المرأة.
حاول الشيخ ناصر الدين الألباني أن يدعم الحديث المنسوب أعلاه وأخرج شبيهه عن البيهقي الذي نقل الحديث عن ابن لهيعة. فذكر أنه عن عياض بن عبد الله أنه سمع إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري يخبر عن أبيه أظنه عن أسماء بنت عميس أنها قالت: " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة بنت أبى بكر وعندها أختها أسماء بنت أبى بكر وعليها ثياب شامية واسعة الأكمام فلما نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخرج فقالت عائشة رضي الله عنها: تنحي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا كرهه، فتنحت، فدخل رسول الله فسألته عائشة: لم قام ؟ قال: أو لم تري إلى هيئتها؟ إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا وأخذ بكفيه فغطى بهما ظهر كفيه حتى لم يبد من كفيه إلا أصابعه ثم نصب كفيه على صدغيه حتى لم يبد إلا وجهه. قال البيهقي عن هذا الحديث أنه ضعيف وأن ابن لهيعة كان يحدث من كتب قد احترقت12.
إذا أخذنا الاجتهاد الخاص بالجيب والذي يعززه تفسير البعض بان الجيب هو طوق القميص13. بالفحص المنطقي نجد أن مناخ الجزيرة العربية لا يتقبل بسهولة تغطية الراس وبقاء الصدر مكشوفا بسبب حرارة الشمس الحارقة. فالرأس يغطيه الشعر ويحميه والأحرى بالحماية هو الصدر الذي لا حماية طبيعية له. وإذا جاز لنا أن نحتكم إلى الأثر فان ما ورد بعد نزول الآية أن نساء المسلمين شققن مروطهن ( لباس حول الخصر ) وغطين بهن صدورهن14، فإنه يمكن الاستنتاج بأن الراس كان مكشوفا. فإذا كانت النساء تغطي رؤوسها وتلقي بأطراف الغطاء على الظهر، فما هي الحاجة إذن إلى تمزيق المروط؟ الوصف هذا لا يتناسب مع التفسير. هناك من يقول إن غطاء الرأس لم يكن كافيا فكان من الضروري الاستعانة بقطعة من المروط. هذا لم يرد في الأثر ولا يوجد ما يؤيده، وهو يفترض عدم كفاية غطاء الرأس ووجود ما يفضل في المروط ، وهو افتراض ليس بالضرورة صحيحا.
حاولت أن أتبين من الشعر الجاهلي شيئا حول هذا الأمر فوجدت أن الرأس كان مكشوفا. حسب امرؤ القيس الذي يقول في معلقته:
وفرع يزين المتن أسود فاحـم | أثيث كقنو النخلة المتعثكـــل |
غدائرها مستشزرات إلى العلا | تصل العقاص في مثنى ومرسل |
وأن الصدر مستورا حسب عمرو بن كلثوم الذي يقول في معلقته:
تريك إذا دخلت على خـلاء | وقد أمنت عيون الكاشحينـا |
ذراعي عطيل أدماء بكــر | هجان الله لم تقرأ جنينـــا |
وثديا مثل حق العاج رخصا | حصانا من أكف اللامسينـا |
من الناحية اللغوية يقول المنجد أن الخمر هو ما يواري من الشجر فنقول مثلا توارى الصيد عني في خمر الوادي أي في شجره. وخمر خمرا عنه يعني التواري والاستتار، أخمر الأمر أخمر وكتمه. أما لسان العرب فيقول التخمير هو التغطية، وأن الخمرة هو ما ستر وجه الأرض. ويقول لسان العرب أن خمار المرأة هو ما تغطي به رأسها، وهو الاصطلاح الإسلامي. ويقول تخمرت بالخمار واختمرت أي لبسته وخمرت به رأسها، أي غطته. وكذلك يقول المنجد. أما العامرية فعنت الجلباب بالخمار.
لا يوجد نص يشير بوضوح إلي أن الخمار هو بالضرورة غطاء الرأس، بل هناك ما يشير إلي أن تفسيره هكذا ذو بعد اجتماعي وليس تشريعيا. ولا يوجد نص حول الحجاب للمرأة المسلمة إلا إذا اجتهد أحد أن ما ينطبق على نساء النبي ينطبق على نساء المؤمنين. فابن تيمية مثلا يقول بأن الحجاب والمقصود به غطاء الرأس والعنق مختص بالحرائر دون الإماء وأن الحرائر كن يحتجبن في عهد الرسول عليه السلام وأن الإماء كن يبرزن، ويضيف بأن عمر بن الخطاب كان يضرب الأمة المختمرة لتشبهها بالحرائر15. وقال الإمام مالك أن للأمة أن تصلي بغير قناع16. ويؤيده في ذلك ابن قدامة الذي يقول أن صلاة الأمة مكشوفة الرأس جائزة17، ويؤكد ابن تيمية أن السنة لم تفرق بين الحرائر والإماء بلفظ عام ولكن عادة المؤمنين كانت أن تلبس الحرائر الحجاب،وألا تحتجب الإماء18.
هناك من يأتي بأحاديث غير منسجمة مع القرآن أو مع الأثر من أجل دعم وجهة نظره. يقول المرغيناني أن بدن المرأة الحرة كله عورة لأن الرسول عليه السلام قال: " المرأة عورة مستورة19 ". لكن الحديث لا يتحدث عن المرأة الحرة وهو يتحدث عن المرأة بصورة عامة دون أن يستثنى الإماء. لا يقول القرآن أن المرأة كلها عورة، ولم نجد في التاريخ الإسلامي ما يؤيد هذا.
يعلل البعض أن الإماء أقل صونا وعفافا من الحرائر، ولهذا لسن ملزمات بالحجاب. ويقولون أن عذاب الأمة نصف عذاب الحرة عند الإتيان بفاحشة استنادا على الآية: " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ". لكن النصفية ليست لأن الإماء لسن مسلمات أو لأنهن ناقصات عقل بالخلق ولكن لأنهن لا يتمتعن بحرياتهن. ثم لماذا لا يكون هناك تشريع إذا أراد الله للإماء أن يكشفن رؤوسهن؟ القاعدة الإسلامية تقول بأن التشريع ينطبق على الجميع ما لم يرد تخصيص، وفي هذا الشأن لم يرد تخصيص تشريعي للإماء.
بحثت عن كلمة جيب في القاموس ووجدت أن المنجد يعرفها على أنها طوق القميص، وعند العامة يعرف على أنه كيس يخاط في جانب الثوب من الداخل ويجعل فمه من الخارج، أما جيب الأرض فمدخلها. ويقال الجيب القلب والصدر وعليه يقال ناصح الجيب أي صادق أمين. أما لسان العرب فيقول أن الجيب هو جيب القميص والدرع، وجبت القميص أي قورت جيبه. إذا حاولنا تفسير القرآن بالقرآن نجد عدة آيات تتحدث عن جيب سيدنا موسى. تقول الآية الأولى: " واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى " (طه،22). وتقول الثانية: " وأدخل يدل في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين " (النمل، 12). وتنص الثالثة: "اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملأه إنهم كانوا قوما فاسقين" ( القصص، 32). واضح أن الآيات تتحدث عن ذات الأمر مما يعني أن كلمة أسلك تقوم مقام كلمة أدخل ضمن هذا الحدث، وكلمة جيبك تقوم مقام كلمة جناحك. قد تعني كلمة الجيب شيئا يتعلق بالملابـس، إلا أن دخول كلمة جناح في إحدى الآيات حصر كلمة جيب بالجسد الإنساني حيث أن الجناح هنا يعني ما ينحصر بين العضد والصدر، وبذلك يكون في الإنسان جناحان وهما عبارة عن جيبين. ويؤكد المعنى هذا " واضمم إليك جناحك من الرهب ". والتي تعني شد الجناح نحو الصدر والذي هو بالذات عادة الإنسان عندما يشعر بالرهبة، إنه يقلص نصف جسده العلوي نحو الصدر، ويضمم رجليه مقلصا إياهما.
الجناح يشبه الجيب الذي يعرفه الناس على أنه قطعتان ملتصقتان لا فاصل بينهما ويشكلان وعاء أو ما يشبهه. وإذا تم تعميم هذا على الجسد البشري نجد أن هناك عدة جيوب. الثدي الأنثوي ملتصق بالصدر ويشكل معه جيبا، وقد يقترب الثديان من بعضهما البعض بحيث يشكلان جيبا، وبهذا يكون في منطقة الصدر ثلاث جيوب: جيبان يتشكلان بالثديين وبقية الصدر، وجيب يتشكل بتقارب الثديين، بالإضافة إلى جيبين وهما الجناحان أو الجزءان ما بين العضدين والصدر، وجيب ثالث يتشكل بالفخدين. ينتهي الجناحان عند المرفقين بسبب المفصل، وينتهي جيب الفخدين عند الركبة. هذه هي كلها الجيوب التي من المفروض تغطيتها.
إن ما يؤكد هذه النتيجة هو نفي إمكانية أن تكون الجيوب محصورة فقط في منطقة الصدر لأن الحصر يعني أن المطلوب هو تغطية منطقة الصدر فحسب دون أجزاء أخرى من الجسم ولا أظن أن هذا هو المقصود من الآية. فهل أمر الله المرأة بتغطية الصدر فقط دون باقي جسدها أو أجزاء أخرى منه؟ هذا غير معقول خاصة أن العورات المباشرة ليست في الصدر.
فيما يخص الجلباب، يبدو أن التفسيرات كثيرة، وأخص أدناه عددا من الوظائف التي ساقها كتاب مسلمون لإدناء الجلباب والتي يستشف معناه منها:
أ- الإدناء على الوجه لتظهر عين واحدة.
ب- الإدناء إلى الجبين.
ت- الإدناء إلى الوجه وإظهار العينين فقط.
ث- إسدال الأردية.
ج- التقنع بالملاحف، ( أشبه ما تكون بالعباءة الواسعة ).
ح- إرخاء الرداء ليغطي الرجلين.
خ- ما يستر البدن02.
يظن البعض أن الجلباب عبارة عن قطعة قماش تلف الرأس ( عصبة ) وأن الإدناء يعني تغطية الوجه، بينما يرى آخرون أنه الثوب الواسع الذي يحيط بالجسم ويكون فوق ثياب أخرى. يورد لسان العرب عدة معـاني لكلمة جلباب فيقول أنه الثوب الواسع الذي تغطي به المرأة رأسها وصدرها، أو ما تغطي به المـرأة الثياب كالملحفة، وقد يكون الخمار. وفي حديث أم عطية أن الجلباب هو الإزار، وكذلك قال ابن الأعرابي، والذي قال أنه الرداء. وكني عنه بالصبر لأنه يستر الفقر كما يستر البدن. أما المنجد فيقول أن الجلباب هو القميص أو الثوب الواسع.
يقول الشربيني في السراج المنير أن الخليل قال ما يلي في الجلباب:
1- إنه ما يستر به من دثار وشعار وكساء.
2- إذا كان هو القميص فهو ما يستر البدن والرجلين.
3- إذا كان هو ما يغطي الرأس فهو ما يستر الوجه والعنق.
4- إذا كان هو ما يغطي الثياب فهو الواسع الذي يستر جميع البدن والثياب.
5- إذا كان أقل من الملحفة فهو ما يستر الوجه واليدين21.
لكنه في النهاية لم يقرر ما هو الجلباب بالضبط.
ذكر الطبري أن بعض المفسرين قالوا أن الآية تعني تغطية الوجه والرأس بحيث لا تظهر إلا عين واحدة. بينمـا
قال آخرون أن المعنى شد الجلباب على الجباه22. أما الواحدي فقال أن المعنى هو أن ترخي النساء أرديتهن ليعلم أنهن حرائر23. أما الزمخشري فقال أن المعنى هو أن يتحلين ببعض ما لديهن من جلابيب أو إرخاء الجلباب على الرأس والوجه24. لكن ابن عطية ذكر أن الجلباب هو ثوب أكبـر من الخمار، وروى أن البعض قالوا أن تلوي المرأة الجلباب فلا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر فيها، بينما رأى آخرون أن تلويه فوق الجبين ثم تلويه على الأنف فوق الجبين25.
حسب ما هو وارد في الموطأ واضح أن الجلباب عبارة عن شيء لم يكن ضروريا ولم يكن واجبا. حتى الصلاة، حسب ما هو وارد، تجوز بدون جلباب. يروي الإمام مالك أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسـلم كانت تصلي في الدرع والخمار، وأن ميمونة كانت تصلي في الدرع والخمار ليس عليها إزار. وأن امرأة سألت أم سلمة زوج النبي حول الذي تلبسه المرأة وقت الصلاة فقـالت أنها تصلي في الخمار والدرع السابغ إذا غيب ظهور قدميها. وعن هشام بن عروة عن أبيه أن امرأة سألته فيما إذا كان بإمكانها الصلاة بدرع وخمار فقط لأن المنطق يشق عليها. فأجابها بالإيجاب على أن يكون الدرع سابغا26.
حسب رواية عن أم سلمة قالت: لما نزلت آية الجلابيب " خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الألبسة27 ". ويقول ابن الجوزي مؤكدا على أن الجلباب غطاء رأس ووجه وأن معنى الآية هو لبس الأردية فتغطي النساء بها رؤوسهن ووجوههن28. لكن ابن باديس له رأي آخر إذ يقول أن الإدناء يعني التقريب. فهو يرى أنه إذا اقترن فعل الدنو بحرف" من" فإنه يعطي معنى القرب، أي يقربن إليهن جلابيبهن. أما لو أراد الإرخاء لا ستعمل حرف "على" كما في قوله سبحانه " دانية عليهم ظلالها،" وكما في قوله " يدنين عليهن". أي أن الآية تفيد تقريب بعض الجلبـاب من البدن وإرخائه وضمه إليها من ناحية وجهها29.
تفاسير الجلباب كثيرة، ويقول أبو شقة أنها لا تنقل لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة قولية أو تقريرية. بل كلها اجتهادات الذين قالوا بها، وهي تعبر عن استحسان هؤلاء المجتهدين في زمن اجتهادهم ويضيف: " لو فرضنا جدلا أن الروايات نقلت لنا فعل بعض النساء على عهد النبي عليه السلام – أي وردت سنة تقريرية – فلا تزيد دلالة ذاك الفعل على جواز الأمر ولا دلالة فيه إطلاقا على الوجوب. وأيا كان الأمر فقد اختلفت الأقوال وليس هناك قول أولى من قول، ولا يمكن أن يتقرر واجب شرعي بمثل تـلك الأقـوال30 ".
ويورد أبو شقة ثلاث مستويات للباس الإسلامي:
1- لباس نساء النبي وهو أن يسترن شخوصهن عن نظر الرجال إما بحاجز أو ساتر أو بحجاب وجه يقوم مقام الحجاب البيتي. ودليله على ذلك الآية (33) من سورة الأحزاب.
2- لباس نساء المؤمنين وهو ستر البدن عدا الوجه والكفين ودليله الآية (31) من سورة النور.
3- لباس الإماء وهو كشف الرأس وبعض الأطراف مثل قدر من الذراع وقدر من أسفل الساق31.
واضح أن دليله قطعي بالنسبة للباس نساء النبي بسبب وضوح الآية. أما دليله على لباس نساء المؤمنين فليس قطعيا بسبب إمكانية الاجتهاد المتعدد في تفسير آية سورة النور. وبسبب تركز الاجتهادات على اعتبار الجيوب هي منطقة الصدر دون البدن ككل. أما بالنسبة للباس الإماء فلا دليل لديه سوى روايات لا هي من السنة ولا من القرآن.
ولكي تتضح صورة عدم الجزم في صحة اجتهاد دون آخر أورد هنا أمورا وردت في الأثر يستند عليها مجتهدون فيما ذهبوا إليه. فمثلا هناك رواية عن سبيعة الأسلمية قالت بشأنها أنها: " جمعت علي ثيابي حين أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم32 ". وعن فاطمة بنت قيس قالت في بحر رواية خاصة بها: " فشددت علي ثيابي وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم33 ". هاتان روايتان لا تعطيان دلالة محددة وهما مفتوحتان لمختلف التفسيرات.
هناك روايات يستعملها بعض المجتهدين لتبرير النقاب أو غطاء الوجه. ففي رواية أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: " يا محمد إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة برسوله. ثم كشفت عن نقابها وقالت أنا هند بنت عتبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحبا بك34 ". وصمت الرسول هنا يعتبر قبولا بالنقاب.
عن قيس بن شماس قال أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي متنقبة تسأل عن ابنها الذي قتل، فقال بعض أصحاب رسول الله: " جئت تسألين عن ابنك وأنت متنقبة؟ فقال إن أرزا ابني فلن أرزأ حيائي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابنك له أجر شهيدين. قالت: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنه قتله أهل الكتاب35 ". من الملاحظ هنا أن الرسول عليه السلام صمت إزاء النقاب. هذا طبعا إن صحت الروايات. وقد ورد في صحيح البخاري أن سمرة بن جندب أجاز شهادة امرأة متنقبة36.
تقر روايات كثيرة بأن بعض النساء كن يضعن النقاب، لكن البعض فسر وضعه على أنه للتجمل. أي أن بعض النساء كن يضعنه كنوع من إضفاء الجمال أو للدلالة على المكانة. ولهذا وجد بعض الكتاب أن التنقب غير جائز في فترة الحداد. فمثلا قال الخرقي: " وتجتنب زوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة والبيتوتة في غير منزلها، والكحل بالإثمد والنقاب37 ".
في مقابل هذا هناك روايات تدل على جواز ظهور بعض أجزاء البدن غير الوجه والكفين. فمثلا قال ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالصدقة " فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن38 ". فإذا كان هناك غطاء رأس محكم، فإنه لم يكن المفروض أن يرى ابن عباس ما تحدث عنه. أما عبد الله بن عمر فقد قال أن الرجال والنساء في زمان رسول الله كانوا يتوضؤن جميعا39 (أي معا). وفي هذا ما يشير إلى أنه يمكن كشف ساعد المرأة والجزء الأسفل من سوقها بدون حرج. وقال ابن عباس تآكيدا لهذا الاستنتاج ومعه قتادة وابن مخرمة آن ظاهر الزقلة هو الكحل والسوار والخئاب إلى نصف الذراع والقروط والفتخ40.
أما الكمال بن الهمام فقال أنه لا مانع من أن ينكشف ذراع المرأة في الصلاة لأنه زينة ظاهرة. وقإـ آخرون أن عليها تغطي؊ه خلال اـصلاة لا خارجها41. وقد علل هذا على أساس ظروف العمل ومتطلبات الحركة42.
وقد ورد عن أنس قوله: " رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنهما منهما ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم43 ". وقد أضاف البخاري أن النساء اشتددن الجبل في غزوة أحد ورفعن عن سوقهن وقد بدت خلاخلهن44.
ظهور السوق بسبب العمل أو ظروف الحرب يحضر أيضا في رواية عن فاطمة بنت قيس التي قالت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: " انتقلي إلى أم شريك. فقلت سأفعل. فقال: لا تفعلي إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان، فإني أكره أن يسقط عنك خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك بعض ما تكرهين45 ". بمعنى أن عمل أم شريك يؤدي إلى ذلك.
واضح من خلال هذه الأمثلة عدم الانسجام في الاجتهادات وعدم وجود رؤى واضحة بخصوص الجلباب وما يكشف وما لا يكشف. لكن المهم في الموضوع أنه لا توجد نصوص واضحة في السنة ترجح هذا الاجتهاد على ذاك، وإنما هناك أقوال تشير إلى سنة تقريرية لأحوال شتى وليس إلى حال واحدة. ويبدو أن هذا الإقرار لم يكن تشريعيا وإنما كان متمشيا مع عادات وتقاليد كانت متبعة في حينه. لو كان تشريعيا لتم إقرار نمط معين من الستر البدني ولتم الحديث مباشرة حول معنى آيتي اللباس الواردتين في القرآن الكريم. وربما أن الرسول عليه السلام ترك الأمر بدون تحديد لأن اللباس يتأثر بعادات الناس وتقاليدهم وظروف بلادهم الجوية. وهذا ما يمكن أن يقره ابن تيمية حيث قال: " الأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة منها ما يعرف حده ومسماه بالشرع. كاسم الصلاة والزكاة والصيام… ومنها ما يعرف حده باللغة كالشمس والقمر والسماء والأرض… ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم فيتنوع بحسب عاداتهم كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة، بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس46 ". وهذا ما أيده من ناحية طرز الثياب الشيخ أبو شقه إذ يقول: " وطرز الثياب ليست من الأمور التعبدية التوقيفية بل هي من قضايا المعاملات التي تدور مع علتها وتحكمها مقاصد التشريع. كما أنها من أمور العادات التي تختلف باختلاف الزمان والمكان. فأي طراز يحقق بشروطه الشرعية ويكون مع الستر مناسب للمناخ السائد من ناحية ومعينا على سير الحركة من ناحية أخرى فهو مقبول شرعاً47 ".
لكن أهم نقطة في كل هذا الأمر هو أنه خلال بحثي لم أجد من يحاول تحليل الآيات الواردة في القرآن الكريم تحليلاً مستفيضا بحيث يتوصل إلى نتائج بالتحليل العقلي. وجدت أن المحاولات تستجمع قواها لتفسير الآيات بالنقل. هناك كم هائل من الكتابات التي تستند على قال فلان وروى عن فلانة، لكن لا يوجد محاولات تحليلية جادة لما ورد في كتاب الله. حتى يخيل للباحث أحيانا أن القرآن الكريم لا يحظى بما يجب أن يحظى به من تركيز الباحثين، وأن ما ورد على لسان هذا وذاك أهم مما ورد في كتاب الله. ولهذا أرى ضرورة العودة إلى كتاب الله والعمل على تدبره باستمرار عملا بقول الله تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ". ولا ننس أن كتاب الله هو المرجع التشريعي الأول والأساسي، ولا يجوز تجاوزه في أي حال من الأحوال.
على أية حال وبالرغم من الاختلافات وعدم تحديد المعنى، من الواضح أن الجلباب نوع من الثياب والمطلوب قرآنيا هو دنو الجلابيب. وإذا حاولنا ربط آيتي اللباس بعضهما ببعض فإنه من المحتمل أن الجلابيب هي التي تدنو لتغطي الجيوب وأدنى بعض الشيء. أمرنا سبحانه بتغطية الجيوب، وقد يكون ذلك غطاء أوليا أو ما يسمى الآن بالملابس الداخلية وتعلوها بعد ذلك الجلابيب والتي هي ملابس أكثر ستراً. وقد يكون الجلباب ثوبا يعلو الخمار لكنه يدنو عن الجيوب، أي عن المرفقين والركبة حتى يتيح حرية الحركة للمرأة فلا تظهر جيوبها مع رفع الأيدي أو حركة الأرجل ولا تعرقل حركتها. وإذا صح هذا الاحتمال فإن الحد الأدنى المطلوب تغطيته من جسد المرأة هو الصدر وما يدنو عنه، الذراعين حتى ما يدنو عن المرفقين، الفخدين حتى ما يدنو عن الركبة.
لم يحدد القرآن الكريم الدنو، لكنه وضع الأمر بصيغة التبعيض وذلك بالقول " من جلابيبهن "، ولم يربطه بمعروف أو إثم بل ربطه ببعد اجتماعي وهو " أدنى أن يعرفن " أي أن اللباس يشير إلى أن المرأة مسلمة فلا تؤذى. أي أن طريقة اللباس تحمي المرأة من العدوان والأذى. وهذا ما يشير على أن الإدناء أقرب أن يكون أمرا مندوبا وليس واجبا. فيرى القاضي ابن رشد أن علة الإدناء علة معقولة وأن الأحكام المعقولة في القرآن هي من باب محاسن الأخلاق وهي تعكس مصلحة، وهذه الأحكام في الغالب تحمل طابع المندوب48 ". ولا أظن أن الدنو ضروري في حال غياب العلة.
يحاول البعض الاستناد على ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحديد لباس المرأة وكما أشرت سابقاً. يستند أغلب هؤلاء على النص القائل: " إذا بلغت المرأة المحيض فلا يظهر منها إلا هذا وهذا"، وأشار إلى وجهه وكفيه. هذا حديث مرسل ضعيف لأن خالد بن دريك راوي الحديث لم يدرك عائشة التي قال أنه نقل الحديث عنها. لكنه ورد أن رسول الله عليه السلام قد صمت إزاء بعض اللباس وسكوته يعني موافقته عليه. لكن هذا الصمت كما أشرت يصعب تصنيفه ضمن الموافقة على تقليد أو ضمن تشريع. والأرجح أن المسألة كانت تتعلق بالتقاليد المرعية في ذلك الوقت وليس بالتشريع، ولو أراد رسول الله عليه السلام أن يشرع حول المسألة لما كان الصمت وسيلته إلى ذلك.
أسوق هنا مثال ذيل ثوب المرأة الذي يتدلى بعد أن تشبك مقدمته بنطاقها. في هذا ما يشير إلى أن النساء كانت تتمنطق حول الخصر وكانت ترفع ثوبها من أمام ذلك على الأغلب من أجل سهولة الحركة. سألت النساء الرسول عليه السلام عن طول الذيل فقال أنه يكفي أن يكون شبرا، فاحتججن لأن ذلك قصير وأشرن عليه بذراع. عن أم سلمة حول مسألة الإزار أن رسول الله قال: " ترخيه شبرا. قالت أم سلمة: إذاً ينكشف منها. قال: فذراعا لا تزيد عليه49 ". وهناك في الروايات ما يجيز كشف القدمين وما لا يجيز، وهناك ما يفيد ضرورة غطاء الوجه وعدم ضرورته، الخ. أي أن الروايات كثيرة ومتعددة، وأظنها كما أشرت كذلك بسبب اختلاف عادات اللباس من منطقة إلى أخرى في الجزيرة العربية، وحتى في اختلافها من بلد إلى آخر ضمن المنطقة الواحدة.
هناك روايات كثيرة تؤيد مختلف وجهات النظر، وضمنها يضيع التشريع الإسلامي. فعندما ترد مسألة الخمار يقول بعض المفسرين أن المرأة كانت تخرج كاشفة الصدر وجاء فرضه لتحقيق السترة، وعندما ترد مسألة الجلباب يقولون إن المرأة كانت تلبس الملحفة أو المقنعة فوق الثياب. فأيهما الصحيح؟ هل كانت المرأة في الجاهلية تغطي صدرها وترتدي الكاسي من الثياب أم لا؟ ولهذا من المهم أن ننزع من تفكيرنا حصر الدين الإسلامي بالعرب. فهذا الدين لم ينزل من أجل مواءمة عادات`العرب وتقاليدهم أو بطريقة لا يفهمها إلا العصب. إنُ دين لناس كافة ومن المهم أن نستمر في دراسته والبحث والتدقيق من أجل الارتقاء بفهمنا له. ذمك حتى لا نخلط بين التقليد والتشريع. هناك ظن لدى أغمب الناس بأن تكاثر أعداد الذين يسلكون سلوكا!معينا أن عٍنهم عبارة عن واجب يجب أن0يتبع لأنه يعكس الحقيقة. ويقول الشيخ أبو شقة أن الممارسين لعمل معين يتكاثرون بحيث يتوهم الناس أن من لا يمارس ذات الممارسة آثم50.
أهداف اللباس
يهدف ا٠لباس إلى تحقيق ثلاثة أهداف وهي:
أولاً: وقاية الجسم من تقلبات الطقس بخاصة الحر والبرد والغبار والرطوبة والجفاف. وهذا أمر لا يحتاج إلى تفسير أو تفصيل، إنما هناك الملاحظة التالية: إذا كان الإسلام يعمل على وقاية الجسد الإنساني من هذه التقلبات فهو بالتأكيد يحث على تطوير اللباس المناسب لمختلف ظروف الجو، على أن تلتزم مختلف طرازاته بحد أدنى من التغطية. فلا يمكن تخيل الإسلام حاثا على لبس الصوف أيام القيظ أو الحرير الناعم أيام البرد القارس، أو متدخلا في هكذا أمور. إنما على المسلمين تطوير الملابس التي تتناسب فعلا مع الظروف المناخية. وعليه لا أظن أنه من الحكمة الإسلامية أن يكون اللباس بطريقة تؤدي إلى نتيجة غير حكمة الوقاية. بمعنى أن الحكمة من اللباس هي راحة الجسم وليس عقابه.
يقر البعض أن اللباس المتعارف عليه الآن على أنه شرعي يسبب بعض الضيق والمشقة للنساء خاصة في الأجواء الحارة، ويطالبون المرأة بالصبر على ذلك لان الله قد كتبه عليها51. فضلا عن أنه من الصعب جدا القبول بأن هذا اللباس هو الذي طلبه الإسلام، ولا يعقل أن التشريع جاء ليعسر على المسلمات لا لييسر. هناك آية تقول " وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين مـن حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير " ( الحج، 78 ).
ثانياً: الستر: يستر اللباس جسد الإنسان ويخفي عوراته ويكسبه مظهراً يدعو إلى الاحترام. والستر وارد خلقا حيث قال تعالى: " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " ( الأعراف، 26 ). هذه هي حكمة الله التي أودعها في جسد الإنسان وأهله بطريقة تستتر معها العورات. وقد أهل الإنسان خلقا لأن يعمل على تورية عورته فيما إذا بانت إذ قال سبحانه: " فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة…." ( الأعراف، 22 ). كان رد الفعل الطبيعي لكل من آدم وحواء بمجرد ظهور سوآتهما أن بادرا إلى التورية بما تيسر لهما من إمكانيات. ولهذا فإن الكشف عن السوآت عبارة عن عمل من أعمال الشيطان وهو عمل افتتان وليس عمل أناس عاقلين أو ملتزمين بما خلق الله وأهلهم له. فيقول تعالى: " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما…" (الأعراف، 27).
فضلا عن التأهيل الطبيعي، تأهل الإنسان من خلال السعي إلى ارتداء الملابس للمحافظة على جسمه. وللتأكيد أقر أمر الله النساء بضرب الخمر على الجيوب. وتكتمل الصورة بلباس التقوى الذي يشكل مجسا نحو ما يرضي الله وما يغضبه.
ثالثا: الجمال: من شأن اللباس أن يضفي الجمال على الجسد الإنساني ويجعل الإنسان صاحب هيئة جميلة، والإسلام يحرص على جمال الهيئة وعلى أن تكون نفس المسلم جميلة تقدر الجمال وتحبه. وقد حضنا الله سبحانه في آيات كثيرة على التعقل والتفكر في آيات الله من سماوات ونجوم وحيوانات وجبال وفيما تتميز به من دقة الخلق والإتقان والجمال. فمثلا قال سبحانه: " والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم * والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ( النحل، 5-8 ).
من الصعب أن نجد من يرى جمالا في الجسد الإنساني المعرى، وأتوقع أنه إذا تمت أبحاث علمية أن نجد أن الناس كأفراد يرون في جسد الحيوان كالأسد أو الطاووس جمالا أكثر مما يجدونه في جسد الإنسان المعرى. الإنسان المعرى هو ذلك البشر الطبيعي الذي لم يضف عليه الإبداع الإنساني الذي أودع فيه أي لمسات إضافية. وهو بالتالي يخلو من البعد الإنساني الذي من المفروض أن يتميز به الإنسان عن الحيوان، ويمثل تعطيلاً للعقل الإنساني الذي يعتبر سر الأنسنة.
غياب البعد الإنساني هو ذاته غياب الذات الإنسـانية، مما يعني غياب الاحترام للذات وللآخرين.الجسد المعرّى يُخرج الإنسان عن دائرة الاحترام ليتحول إلى ما يشبه الحيوان، ومن شأنه أن يعزز النظرة الشهوانية. العـري يلفت النظر الشهواني لأنه يشكل مزيدا من المساحة التي تثير الشهوة، وربما يكون العري الجزئي أشد لفتا للنظرة الشهوانية من العري الكامل. العري الكامل يدفع بالمتعري نحو الاستتار كما حصل مع آدم وحواء، أما العري الجزئي فقد تتلذذ صاحبته في استقطاب نظرات الآخرين ومغازلاتهم. يحول هذا اهتمام الإنسان بالإنسانية إلى اهتمام محصور بالناحية الجسمانية الجنسية، وهذا ما من شأنه تحويل التعامل بين الناس من تعامل إنساني إلى تعامل يقوم على الجذور الحيوانية.
في الجسد الإنساني ما يثير الشهوة المتبادلة بين الذكور والإناث، فإذا تم نزع ثياب وكشف المزيد من الأعضاء فإن درجة الإثارة ترتفع وتحتد. إن في ذلك إغراء يتغذى على البعد التعاوني والاحترام المتبادل. والإغراء اعتداء على الحرية الذاتية وعلى حرية الآخرين لأنه يؤدي إلى عبودية الفرد لجسده وإلى إثارة الآخرين جنسيا بطريقة قد لا يستطيعون السيطرة عليها أو إخماد اعتمالها. وقد كانت المرأة أشد الخاسرين من الاتجاه الإغرائي لأنها أصبحت تستخدم كجسد يمكن أن يجذب الزبائن والمشترين والمستثمرين. لقد ركزت القوى الاقتصادية والاجتماعية الطامعة على الناحية الإغرائية في جسد المرأة وحولتها إلى أداة تستخدم لكسب المال والنفوذ، وحولت عددا كبيراً من النساء إلى عاهرات وداعرات وبائعات هوى أو باحثات عن متعة بعيدا عن أجواء الأسرة والمحبة العائلية. في هذا اعتداء على المرأة وحريتها واعتداء على الرجل والمجتمع لما ينجم عنه من تدمير للروابط الاجتماعية والتماسك الأخلاقي والتعاطف والتراحم وتناغم المشاعر الإنسانية وتبادل النبل والحب والوجدانية.
من الناحية الأخلاقية لا يجوز أن يقوم طرف بإغراء الطرف الآخر ويمتنع عنه جنسيا. هذا اعتداء صارخ على حرية الآخرين. وربما هذا ما يفسر الاتجاه الغربي في فلسفة اللباس. فتزايد المساحة المكشوفة من جسد المرأة في البلاد الغربية تناسبت طرديا مع درجة الإباحة الجنسية فيها. الإغراء يتطلب انفتاحا جنسيا وإلا وقع المجتمع في أزمة جنسية تؤدي إلى اختنا قات واحتقانات تسيطر على تفكير الأفراد وتكبل بالتالي الفرد والمجتمع وتحول بينهما وبين إحراز التقدم في مختلف المجالات. العفة تتطلب الستر، والإباحة تتطلب الإثارة التي يواكبها نوع من العري. ولهذا بقي الغرب من الناحية المنطقية ضمن قواعد أخلاقية ( رذائلية ) متناسبة مع الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية التي تطورت لديه عبر الزمن. أي أنه في تبنيه للإغراء الصادر عن المرأة والإباحة الجنسية بقي منسجما ولم يدخل في تناقضات قيمية حادة.
هذا على عكس مجتمعات كثيرة بخاصة في الدول العربية والإسلامية التي أخذت باللباس الغربي، أو بالثقافة الغربية من خلال مختلف وسائل الإعلام، ولم تأخذ بالإباحة الجنسية. لا هي طورت قيمها الإسلامية لتكون سيدة في مجتمعاتها، ولا هي أخذت القيم الغربية بطرفيها الإغرائي والإباحي. وهذا ما أدى إلى مآزق نفسية لدى الشباب الذين يرون الإغراء ينهش أجسادهم ويسيطر على تفكيرهم دون أن تكون لديهم فرصة التفريغ. هذه مجتمعات جنت على أبنائها وجعلتهم عبيدا للجنس الخارج عن متناول اليد وغير قـادرين على التعامل مع المرأة بشكل سوي. وجنت أيضا على شاباتها اللاتي لم يحصلن على فرص التطوير الإنساني للمشاركة في أعمال المجتمع، وتهن في بحر مواكبة "الموضات" الغربية دون تفكر في إنسانيتهن وأدوارهن في الحياة العامة. ومن الملاحظ لدى أغلب الدارسين في الغـرب أن بنات العرب أكثر انشداداً " للصرعات " الغربية من بنات أهل الغرب وأسرع في تبنيها. وقد لاحظت أنا شخصيا كما لاحظ غيري أن بعض الفتيات في جامعاتنا يبالغن في آخر ما توصل إليه الغرب من زينة بحيث أن الواحدة منهن لا تبدو كفتاة جامعية وإنما فتاة شيء آخر. وقد أدت هذه المآزق إلى مآزق أخرى لا تقل خطورة وهي انسحاب عدد كبير من الشباب و الشابات من الحياة العامة بشكل واضح نتيجة الصراع الداخلي الذي يعتمل في صدورهم والناجم عن تناقض داخلي بين ما ورثوا من قيم وبين ما يرونه على أرض الواقع. وهذه أزمة حاصلة لا محالة حتى لو كان واقع الظهور العام ما زال تقليديا وذلك بسبب الغزو الفكري والثقافي الذي يجتاح بلادنا.
لا غرابة إثر هذا أن يسقط العديد من أبناء مجتمعاتنا العربية والإسلامية أمام الإغراءات الجنسية. فشل العديد من أبنائنا في دراساتهم في العالم الغربي، والكثير من قياداتنا السياسية والاجتماعية والثقافية سقطوا أمام هذه الإغراءات وتحولوا إلى أدوات للرذيلة والتبعية لأجهزة المخابرات والمؤسسات السياسية. لم يكسب العربي صلابة النفس والقوة في مواجهة الإغراء لأن تربيته متهاوية أصلا وقدرته على التكيف ومواجهة أخطار الغزو ضعيفة جداً. إنه غير معد للمواجهة وأغلب قياداته متهاوية أصلا وغير قادرة على صون نفسها.
يبدو أل رد المسلمين على الغزو كان بتكثيف التدقيق`على$مسائل الملإبس والزينة`والجمال مما أدى إلى مزيد من تعقيد الأزمة. بدل التركيز على القواعد الإسلامية بدون تشنجات، ظن البعض أن المزيد من الاحتراس سيوقف تأثيرات الحضارة الغربية. لكن العكس هو الذي حصل، وأصبح الشباب أكثر ضعفا أو أكثر انزواء. على أية حال هذه مسالة بحاجة إلى بحث وتدقيق.
لا شك أن هناك ميلا طبيعيا بين الذكر والأنثى، وهو ما تم توضيحه في الفصن الأول. هكذا خلق الله الكائنات الحية، أي أن الذكر والأنثى يبحثان حتما عن بعضهم٧ البعض ولا يستطيعان البقاء فرادى. وسواء كان هناك عري أو نصف عري أو لباس أو ملاحف تغطي النساء لا يمكن أن!يبقى الذكر بعيداً عن الأنثى أو الأنثى عن الذكر، ولا مفر من أن الشهوة ستبقى قائمة وهي أمر طبٚعي لا نستطيع تجاوزه ومن الخطأ أن نحاول تجاوزه أو إغفالРدوره في صياغة السلوك.
إذن ما هي فائدة الستر الذي يضيفه اللباس الإسلامي من هذه الزاوية؟ حقيقة أن اللباس لا يلغي ما هو طبيعي لكنه يخفف من حدة الإثارة ويبقيها ضمن الحدود التي تمكن المرء من السيطرة عليها وتنظيمها. فالإسلام يقر بالطاقة الجنسية ويأمر بالزواج، لكنه يطلب من المسلم ألا يكون عبدا لشهوته، وألا يكون أداة لإثارة شهوات الآخرين أو الأخريات. اللباس يوفر المظهر الجمالي للإنسان دون إغراء، وهو عنصر يولد المزيد من الاحترام تجاه الطرف المقابل. فضلا عن أن الإسلام يقدر الناحية العملية في اللباس بحيث تراعي ظروف العمل وظروف المناخ، لكنه في كل الأحوال لباس لا يتجاوز ما أمر الله ستره وهي الجيوب. هذا إلا إذا رأى الناس أن عاداتهم وتقاليدهم تأمر بالتجاوز صعوداً، أي بتغطية ما يزيد عن الجيوب. وبودي، بل أنني أنتظر من يأتيني بأدلة قاطعة على عكس هذا، ورأيي منفتح أمام التغيير إذا كان هناك الدليل. لم أجد في بحثي ما يشير إلى أن الإسلام أمر بنات ونساء المسلمين بتغطية أي شيء بنص واضح غير الجيوب.
الزينة
تشكل قضية زينة المرأة محوراً أساسيا من محاور هموم المسلمين اليوم جنبا إلى جنب مع محور اللباس. كثير من القضايا الهامة والجوهرية تم تجاوزها أو تناسيها من قبل المسلمين لكن مسألة زينة المرأة بقيت همّا إسلاميا كبيرا يستهلك الجهد والوقت ويولد الآراء والاجتهادات علما أنها مسالة لا تحظى بحيز كبير في القرآن الكريم. وإذا قارنا بين حيزها والحيز الذي أخذه العلم والتفكير والتعقل نجد أن حيزها متواضع جدا وبسيط، لكنها على الرغم من ذلك تستحوذ على جزء لا بأس به من اهتمام المسلمين يصعب على العلم والتدبر أن يستحوذا عليه.
ورد في كتاب الله عز وجل " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها …." ( النور، 31). وورد أيضاً: " يا أيها الذين آمنوا خذوا زينتكم عند كل مسجد " ( الأعراف،31 ). من الملاحظ أن مسألة حفظ الفروج سواء للذكور أو للإناث أخذت بعدا كبيرا في القرآن الكريم ووردت بشأنها آيات كثيرة. لكن مسألة الزينة لم تحظ بعدد من الآيات تبين أبعادها وما يحل منها وما يحرم. هناك آية في سورة الزخرف تقول: " أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين " ( الزخرف، 18 ). وهي تشير أن الأنثى قد نشئت على لبس الحلية، أي أنها فطرت على ذلك. وهناك آيات تؤكد ضرورة الزينة، وتشير إلى أن الله خلق الحلي من أجل أن تلبس. قال تعالى: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون" ( الأعراف، 32). وقال: " وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه، إن في ذلك لآية لقوم يذكرون * وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " ( النحل 13-14 ). وقال أيضاً: " ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين " ( الحجر، 16). وقال: " وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " ( فاطر، 12).
نستنتج من الآيات أعلاه:
1- أن الزينة عبارة عن نعمة من نعم الله التي أسبغها على عباده. خلق الله الحلية ليلبسها الناس ويتزينوا بها. خلق الكون بزينة عظيمة لكي يرتاح لها الإنسان. وقد سبق أن تمت الإشارة إلى بعض خلق الله مثل الجِمال والحمير لتكون مصدر جَمال يبعث الراحة في النفس الإنسانية.
2- الزينة أمر طيب وحلال ويستنكر الله سبحانه تحريمها. إنها شيء من متاع الحياة الدنيا الطيب والذي يحل للمسلمين. ليس هذا فحسب بل أمر الله المسلمين رجالا ونساء بأن يتزينوا عند الذهاب إلى المساجد. وبما أن المسلمين يؤمون المساجد باستمرار فإن عليهم أن تبقى هيأتهم جميلة.
3- اختص الله سبحانه الإناث بالحلي بالطبيعة فنشئن على ذلك. لكن هذا لا يمنع الرجال من التزين. ويبدو أن اللغة تؤيد ذلك من حيث أن كلمة حلي تعني كل ما حليت به امرأة أو سيفا52.
4- لا يوجد في هذه الآيات إشارة إلى أن الزينة باطنة ولا يجوز أن تظهر على الملأ. العكس هو الصحيح الزينة تبعث الراحة في النفس الإنسانية والناظرين إليها.
أما بخصوص الآية " … ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها .…" فتختلف حولها الاجتهادات. هناك عدد من المفسرين اعتبروا أن الزينة هذه تنحصر فقط في وجه وكفي المرأة مثل الزمخشري، ابن العربي، الخازن، أبو حيان، البغوي، القرطبي وأبو السعود وغيرهم. ويبدو لي أن هناك شبه اتفاق على هذا الرأي. لكن لماذا هذا الاتفاق وعلى ماذا يستندون؟ حقيقة لم أفهم لماذا. لكن ظني أنهم استندوا على التقليد وآثروا أن يتمشوا معه، وأنهم وضعوا في أذهانهم الحديث الضعيف الذي سبق أن أشرت إليه وهو أنه لا يظهر من المرأة بعد حيضها إلا وجهها وكفاها.
هناك بعض الإضافات إلى هذا الاتفاق أذكر منها على سبيل المثال رأي البيجاني الذي يقول أنه إن كان المراد بالزينة المواضع فإنه يستثنى ما يصعب على المرأة أن تغطيه من أطراف بدنها53. أما الشريف فيضيف الجمال إلى الوجه حيث يقول أن رسول الله عليه السلام قال: " خير النساء أحسنهن وجوها وأرخصهن مهوراً54 ". أما سعيد بن جبير فيقول أن الزينة تشمل الثياب والوجه، والأوزاعي يقول أنها الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الساق55 ". يقول الرازي " أنها الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة (نبات عشبي للصباغ يخضب بورقه الشعر الأسود) في حاجبيها والغمرة (الزعفران) في خديها والحناء في كفيها وقدميها ". أما الطبري فتحدث عن الكحل والخواتم والسوار والخضاب56. ويقول آخرون أن النقاب يشمل هذه الزينة لأنه كان نمطا من أنماط الرفاء والتجمل عند بعض النساء57.
هناك من يرى أن بعض الزينة عبارة عن واجب شرعي. " عن الأشعري قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فرأينها سيئة الهيئة، فدخل النبي فذكرن ذلك له. فلقيه فقال: يا عثمان أما لك في أسوة .. فأتتهم المرأة بعد ذلك عطرة كأنها عروس فقلن لها: مه ( كلمة تعجب ) قالت: أصابنا ما أصاب الناس58. ويروي ابن عباس " أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن مختضبة فلم يبايعها حتى اختضبت59 ". وعن عائشة قالت: " أن امرأة مدت يدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فقبض يده فقالت: يا رسول الله، مددت يدي إليك بكتاب فلم تأخذه، فقال: إني لم أدر يد امرأة هي أو رجل. قالت: بل يد امرأة قال: " لو كنت امرأة لغيرت أظفارك بالحناء60". وعن عائشة أيضا: " كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالسك (العصبة) المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي فلا ينهاها61 ". ويروي البخاري أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حامل فلم تنشب ( لم تلبث ) أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تزينت للخطاب62 ". وروي أن أبا هريرة قال على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه63 ". ( لكن هذا الحديث يصطدم بالروايات أعلاه حيث أن للطيب والزعفران روائح ظاهرة طيبة. فأين الصحيح؟) وورد في فتح الباري: " الرجال لا يطيبون في الوجه، والنساء يتطيبن في وجوههن ويتزين فيهن64 ". هذا إن صحت الروايات عن رسول الله عليه السلام.
هناك أقوال بخصوص الصلاة مثل قول زينب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً65 ". وقول أبي هريرة عن الرسول: " أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة66". وعنه أنه قال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات " (المراد ألا يكن متطيبات )67.
يقول الشيخ أبو شقة أن الخضاب في اليدين من الزينة الظاهرة، وكذلك الكحل في العينين وشيء من الطيب في الخدين. وللمرأة أن تتزين بالصفرة والخلوق ( طيب مخلوط بالزعفران ) والزعفران. وهو يرى أن على المرأة في تزينها أن تتجنب الفتنة. ويضيف أن تزين المرأة عبارة عن جزء من الفطرة مستندا على قوله تعالى: " أو من ينشأ في الحلية …. " والإسلام دين الفطرة. ويستنتج أن الزينة أمر مندوب68. لكن المشكلة في هذا الاستنتاج أن الفطرة لا يمكن أن تقع ضمن المندوب وهي فوق الواجب لأنها حتمية لا مفر منها. الفطرة كما الأكل. نحن لسنا بحاجة إلى أمر الهي كي نأكل لأنه خلقنا نأكل، وذلك فوق الواجب، وبالتالي فانه لا مفر من حب المرأة للحلية ولا يجوز منعها مع ضرورة التنظيم حتى لا ينقلب السلوك إلى تبرج.
يرى القفال أن تحديد ما يكشف وما لا يكشف يتمشى مع العادة الجارية للناس، وأن الناس أمروا بستر ما لا تدعو الضرورة إلى كشفه، والرخصة تتمشى مع ما اعتاد الناس عليه. وقد اتفق الناس على أن كشف الوجه والكفين ضروري وأنهما ليسا بعورة69. يبدو هذا الرأي عمليا ويخلو من مسائل التزمت والتدقيق في كل صغيرة وكبيره من جسد المرأة. فالعادة والضرورة تلعبان دوراً كبيراً في تحديد لباس الناس وزينتهم سواء كانوا ذكورا أو إناثا. لكن من الناحية الإسلامية، لا بد من الالتزام بالحد الأدنى من اللباس وبزينة لا تصل حد التبرج.
على أية حال، أنا لا أعلم بالضبط معنى قول الله سبحانه " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، " ولم تتولد لدي قناعة بأي من الاجتهادات التي اطلعت عليها. صحيح أن هناك شبه اتفاق في فهم المفسرين للآية، لكن يبقى ضمن حدود الاجتهاد ولا يستند على نص واضح وارد في القرآن أو في السنة. هذا فضلا عن أن الاجتهاد هو ابن الزمان والمكان ولا ينسحب بالضرورة على كل زمان ومكان. الاجتهاد مقيد بالحدود المعرفية للشخص والتي هي الحدود المعرفية لظروفه الزمانية والمكانية، ومن المحتمل أن يغير صاحب اجتهاد معين اجتهاده إذا عاش في ظروف مغايرة لظروفه الأولى. وهكذا الإجماع أيضا. قد يجمع العلماء على رأي معين، لكن إجماعهم قد لا يصبح صالحا مع تغير ظروف الزمان والمكان فيحل محله إجماع آخر. المستوى المعرفي والعادات والتقاليد والأجواء السياسية والاقتصادية جميعها تؤثر في تشكيل الرأي والتعبير عنه. والإجماع ليس في مرتبة النص ولا يشكل قاعدة إسلامية مطلقة كما يشكل النص. والأمة لا تجمع على ضلالة ضمن ظروف زمانها ومكانها، وهي دائما جاهزة لتطوير ذاتها تبعاً لتصاعد حصيلتها المعرفية عبر الزمان والمكان، ولهذا من الممكن أن يكون إجماع اليوم مختلفاً عن إجماع الغد، وإجماع الغد مختلفا عن إجماع بعد غد.
إذا حاولنا فهم النص حول الزينة لا بد من دراسته في ضوء آيات أخرى واردة في القرآن الكريم. أمر الله المسلمين أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد وأشار إلينا أن الإناث ينشأن بالفطرة على الحلية. يقول بعض المسلمين إن الزينة المطلوبة للمسجد مقتصرة على الرجال دون النساء، لكن في هذا ما يلوي ذراع الدين ويحاول زرع التخصيص في الآية على الرغم من عدم وروده. تخاطب الآية الرجال والنساء على حد سواء، وأن على المرأة أن ترتدي ثيابا نظيفة وأنيقة مثلما على الرجل، وعليها أن تكون ذات هيئة جميلة كما هو على الرجل. ومثلما يجب ألا تنبعث من الرجل رائحة كريهة فإنه يجب ألا تنبعث من المرأة رائحة مشابهة. فضلا عن أن الذين يقصرون الزينة على الرجل يقلبون حقيقة الفطرة الإلهية التي نشئت الإناث عليها .
أظن أن ما يمكن أن يساعد على فهم النص هو التمييز ما بين الجمال والإغراء، وهو ما يمكن أن يشكل الحد الفاصل بين الحلال والحرام وبين ما هو مقبول إسلاميا وما هو غير مقبول. الجمال مطلوب إسلاميا والإغراء مرفوض.
الجمال يبعث في النفس الراحة والهدوء ويرهف الحس. إنه يناجي خلجات النفس الإنسانية ويسمو بها فضيلة وأخلاقا. أما الإغراء فيبعث في النفس الشهوة والرغبة في التحرش ويحفز الشهوانية ويدفع باتجاه النزوات التي من الممكن أن تنتهي بارتكاب الفاحشة. إنه يثير الشهوة على حساب العقل ويوتر الأعصاب ويدنو بالأخلاق. الجمال قيمة إلهية عظيمة منحها الله لعباده حتى تهون عليهم مشاق الحيـاة ومصاعبها، والإغراء غير المنضبط طبيعيا عمل شيطاني شرير يخرب المجتمع ويجعل الحياة أكثر قسوة. خلق الله الجمال بارزا و أودع الإغراء طبيعيا خفيا، ومن المهم أن يلتزم مجتمع المسلمين بالحكمة الإلهية التي تساعد بالتأكيد في التمييز بين الخبيث والطيب. هناك بالتأكيد من يرفض هذا ويخلط ما بين الجمال والإغراء. عل في هذا ما على المسلمين تحليله ونقاشه والبناء عليه. إنه من السهل أن يرفض المرء كل أشكال الزينة وأن يعتبر التجمل والجمال عملان من أعمال الشيطان ويحرمهما ويضع قوانين صارمة تحكم سلوك المرأة المسلمة. وعلى الرغم من أن هكذا رفض يريح المرء من التفكير في الأمر وإجهاد النفس في البحث فيه إلا أنه يأتي بالوبال والدمار على المسلمين وعلى الأمة ككل. إنه يدفع المرأة إلى ركن محصور تفقد فيه قدرتها الإبداعية والأخلاقية ويحولها إلى مجرد صنم يتلقى الأوامر والنواهي، وفي هذا ما يدفع الأمة نحو الخنوع والتقوقع والتسليم بمفاهيم خارجة عن الفهم الإنساني والاستيعاب العقلي.
يقول بعض الكتاب أن على المرأة الجميلة جدا أن تغطي وجهها. وكأن هناك تشريع إسلامي خاص بالجميلات وآخر خاص بغير الجميلات. لا أدري من أين يأتون بمثل هذه الأحكام، على الرغم من أنه وارد في السير ما يصف جمال نساء النبي. فمثلا وصفت جويرية بنت الحارث بأنها كانت حلوة ملاحة وكانت تأخذ بنفس كل من رآها71. ووصفت زينب بأنها كانت من أجمل فتيات قريش وأنها كانت تفخر بجمالها72. وقد وصف أيضا جمال صفية وماريا القبطية وأم سلمة. وهناك في التراث وصف لجمال نساء، إذ وصف ابن عباس امرأة بأنها وضيئة وأخرى بأنها سبغاء الخدين وثالثة بأنها بيضاء موشومة اليدين73.
تفقد الأمة ضمن هذا النهج حيويتها وقدرتها على المبادرة والتعامل مع مختلف المتغيرات وتبقى أمة مستكينة تبعية تدوسها الأمم وتطحنها مصائب الدهر. حصار المرأة بكم هائل من الأوامر والنواهي ليس بالأمر الهين أو البسيط، إنه ينعكس على أجواء البيت وعلى الرجل وعلى أداء الناس في أعمالهم المختلفة. إذ لا يمكن فصل ما يتعرض له جزء من المجتمع أو فئة معينة عن باقي المجتمع، أو اعتباره نزوة وتنتهي. المرأة المحاصرة هي امرأة مهووسة بفعل كابوس الأوامر والنواهي والذي تخشى أن تخرج عليه أو أن تشذ عنه، وهي بالتأكيد غير قادرة على تربية الأطفال أو إقامة أجواء مريحة من الحب والحنان داخل البيت.
إذا كنا كمسلمين معنيين بمسألة الزينة وعلاقتها بالظهور العام للمرأة فإنه من الواجب التقيد بما ورد في القرآن الكريم من آيات، ذلك حتى لا يضع إنسان نفسه مكان الذات الإلهية، وحتى لا تتحول الروايات المتناقلة والمتوارثة إلى قرآن بشري يحل محل القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وبناء عل ما أقرأ في القرآن من حدود أرى ضرورة البحث في قضيتي اللباس والزينة ما بين الحد الأدنى المطلوب من اللباس والذي يشمل تغطية الجيوب وبين التبرج. أمر سبحانه بتغطية الجيوب ونهى عن التبرج لأنه من الخيلاء وفيه إغراء، ومن المفروض أن يبتغي المسلمون ما بين هذين الحدين سبيلا. وفي ابتغائهم هذا من الضروري التمييز بين الشرع والتقليد. لا يجوز إطلاقا اعتبار ما يحرمه التقليد على أنه تحريم شرعي، ولا يجوز لي ذراع الشرع لكي يتناسب مع التقليد. فمن أراد أن يحرم شيئا لأن عاداته تحرمه فهذا شأنه، لكنه ليس من شأنه أن يجعل عاداته دينا للناس. ومن المهم أن يفصل الشارع ما بين الزينة التي تعني مواقع جسدية وبين زينة خارجية. فهل قصدت الآية المواقع أم المظهر الخارجي؟ لم أجد إجابة شافية على هذا السؤال، لكنني أرجح أن تتعلق الزينة بالجسد الإنساني أو بذات الشيء، وأن يتعلق التبرج بالإسراف بالزينة الخارجية أو ما يحيط في الزينة الخارجية. وتعتبر بعض عادات الجاهلية مثل التوشم والتنمص ورفع شعر الرأس على هيئة البرج كما كان يحصل في الجاهلية دروبا من الإسرافْ؟
الآثار العامة لقضيتي اللباس والزينة
تنعكس قضيتا اللباس والزينة على الحياة العامة ومشاركة المرأة في النشاطات المختلفة. إنهما قضيتان على علاقة مباشرة بالأدوار التي يمكن أن تمارسها المرأة على مختلف الصعد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وذلك من النواحي التالية:
أولا: الشكل والمضمون. قضيتا اللباس والزينة عبارة عن قضيتي شكل أولا وتعبران بصورة غير مباشرة عن مضمون. إنهما تختصان بالشكل الخارجي للمرأة ولا تختصان مباشرة بجوهر المرأة كإنسان. بالطبع لا يمكن إقامة فصل حدي بين الشكل والمضمون إلا أن تميزهما واضح ولا يمكن الخلط بينهما. ولأنهما ذاتا شكل وتحظيان بتركيز كبير من قبل المهتمين فإنهما يستحوذان على جزء كبير من التفكير والانشغال، ويحظيان بتركيز يطغى على المضمون بحيث يصبح الاهتمام بما تلبس المرأة وبما تضع من حلي أكبر من الاهتمام بها كإنسان. ما تلبسه المرأة في هذا الوضع أهم مما تحمله من كتب وما تضعه من حلي على صدرها أكثر شدا للانتباه من حديثها. وبالتأكيد يؤدي هذا إلى ضعف الاهتمام بالجوهر مما يضعف رغبة الإنسان في تطوير نفسه والرقي بذاته.
من الملاحظ في المجتمعات العربية خاصة أن أحاديث الناس بصورة عامة تتعلق بالكثير من الشكليات. وإذا تم الانتباه إلى أحاديث نساء حضرن مثلا حفلة عرس فإنه يلاحظ أن كثيرات منهن يتحدثن عن العروس بإسهاب من حيث الزينة واللباس، ويستمر الحديث والتعليق على مدى أيام. علما أنه لا جديد في العروس حيث تتم كل يوم زيجات كثيرة وفي أغلبها أحداث ومظاهر متكررة. يندر أن يتناول الحديث شخصية العروس وقدرتها على المبادرة ولباقتها الاجتماعية وحكمتها. وهذا جزء من التربية المتركزة حول الشكل والتي تذهب بالمضمون وتحول دون بروزه كأمر هام. وهذا معناه تدهور في التفكير وبدائية في الاهتمامات، وأيضا التلهي بتفاهات الأمور وصغارها. إنه يحول نظر المرأة عن دورها العام ويزرع فيها مشاعر الضعف والاستكانة إلى توافه الأمور.
ثانياً: الوسواس الجسدي. كثرة التعاليم والأوامر والنواهي حول الشكل تصنع الهواجس لدى المرأة وتجعلها تعيش في وسواس جسدي له علاقة مباشرة بما ربيت عليه وهو أنها عبارة عن هدف جنسي لا تنفك الأعين المشتهية عن ملاحقته. يزرع فيها هلع الشكل وعيا جنسيا بكل حركة تقوم بها وبكل إيماءة يمكن أن تصدر عنها. إنها تجفل إذا كلمها رجل، ويتحول وجهها إلى اللون الأحمر إن اضطرت أن تسأل عن عنوان أو مكان. وهي تخجل أن تسأل مدرسها ولا تجرؤ على مناقشة أبيها أو أن تطالب بحقوقها. إنها لا تبتسم لأن أسنانها ستظهر، وتبتعد عن الكلام حتى لا يرى الرجال شفتيها تتحركان، وعلى ذلك قس. لا يشمل هذا جميع النساء في بلادنا لكنه عبارة عن ظاهرة.
فهل يمكن لامرأة حاصرتها مثل هذه الترهات أن تشارك في الأعمال العامة؟ أم أنها ستنزوي في ركن مع نساء أخريات لا شأن لهن سوى إضاعة الوقت؟ يحرر الإسلام المرأة من كل هذه الوساوس والهواجس، ويقدر للمرأة دورها وانطلاقها نحو هذا الدور. إنه لا يبقيها أسيرة الهاجس الجنسي، ولا يقبل أن تتطور في مجتمع المسلمين أزمة من هذا القبيل. بل أن الإسلام ناقش مسائل الجنس علنا وبوضوح على اعتبار أنها حاجة طبيعية موجودة خلقا في الإنسان. تحدث القرآن بصورة مباشرة عن هذه المسائل وكذلك السنة النبوية، وليس في ذلك ما يعيب. لكن يبدو أن الإسلام ابتلي بمتأزمين أسقطوا أزماتهم على الإسلام وصنعوا هواجس لدى الرجال والنساء مما أثر سلبا على مستوى النشاط العام لكل منهم.
فهل سينطلق المسلمون بتفكيرهم نحو الجوهر كي يتسنى البناء بخاصة بناء الأمة، أم سنبقى ننعي حظنا وننظر بحسرة ونحن نرى الأمم الأخرى تتقدم وتلحق بنا صنوف الإذلال والهزائم؟ إننا نحاصر الإسلام بآفاقنا التقليدية المتوارثة ونسقط عليه مفاهيم نقلها الأبناء عن الآباء على مر القرون. إنها آفاق لا تتفق مع الآفاق الإسلامية ولا تفتح الأبواب أمام التقدم والبناء ومنافسة الأمم. وأخال تلك الآفاق قد تحولت لدى البعض إلى تلك الأصنام التي عبدتها قرون قد خلت فحل بها العذاب.
أغرقت الآفاق الضيقة المسلمين في كثير من التفصيلات ودقائق الأمور متجاوزه بذلك النواميس التي فطر الله الناس عليها، فتحولت القيم الاجتماعية إلى دين يحاول البعض أن يجدوا لها مبررات إسلامية. وفي هذا اعتداء على خلق الله وعلى التكليف الذي أكده على الإنسان بذكره وأنثاه. خلقنا الله أصحاب قدرة على الاختيار والسعي وأودع فينا أمانة التراحم والحب المتبادل وطلب منا العمل على بناء الأمة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنني أرى في اهتمامات المسلمين النسوية ما يبعدنا عن المبادئ الجوهرية المتصلة بالحق والباطل وبالتكليف ومما يضعفنا أمام أنفسنا وأمام الآخرين. كثير مما نسهب فيه يحول قدراتنا الذهنية والجسدية عن جادة الإسلام ويذهب بنا منحى غير إسلامي.
الهوامش
1- رواه أحمد، سلسلة الأحاديث الصحيحة تحقيق ناصر الدين، رقم 329.
2- صحيح مسلم، كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير.
3- عبد الحليم أبو شقة، تحرير المرأة في عصر الرسالة، ج 2، الكويت، دار القلم للنشر والتوزيع، 1990، ص 31.
4- صحيح البخاري، كتاب النكاح. وهو وارد في صحيح مسلم أيضا.
5- صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة.
6- أنظر صحيح البخاري، كتاب السلام، باب الغيرة.
7- صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب صوم عرفة.
8- صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الكبر.
9- صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس.
10- محمد بن سالم بن حسين الكرادي البيجاني، أستاذ المرأة، ص 21.
11- عبد الحليم أبو شقه، م س، ج 4، ص 313.
12- ناصر الدين الألباني، حجاب المرأة المسلمة، ص 24-25.
13- تفسير الجلالين، كمثال على ذلك.
14- أبو شقة، م س، ج 4، ص 315.
15- فتاوى ابن يتمية، جامع الفتاوي، مجلد 15، ص 372.
16- الإمام مالك، المدونة الكبرى، ج 1، ص 94.
17- ابن قدامة، المغنى، ج 1، ص 604.
18- ابن تيمية، م س، ص 373.
19- شرح فتح القدير، ج 1، ص 3258-259.
20- يورد أبو شقة معاني أكثر من هذه القائمة، م س، ج 4، ص 36.
21- الشربيني، السراج المنير.
22- الطبري، الجامع.
23- الواحدي، الوجيز.
24- الزمخشري، الكشاف.
25- ابن عطية، المحرر الوجيز.
26- مالك بن أنس، الموطأ، كتاب الصلاة.
27- سنن أبي داود، كتاب اللباس، حديث رقم 3456.
28- ابن الجوزي، زاد المسير.
29- عمار الطالبي، ابن باديس حياته وآثاره، ص ص 133-135.
30- أبو شقة، م س، ج 4، ص 40.
31- م س، ص 34.
32- صحيح البخاري، كتاب المغازي. باب حدثنا قتيبة بن سعيد.
33- صحيح مسلم، كتاب الطلاق. باب انقضاء عدة المتوفى عنها.
34- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 8، ص 236.
35- سنن أبي داود، كتاب الجهاد، فضل قتال الروم، ج 3، ص 7.
36- صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب شهادة الأعمى.
37- ابن قدامة، المغنى، ج 8، ص 122.
38- صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب القرط للنساء.
39- م س، كتاب الوضوء، باب وضوء الرجل مع المرأة.
40- أبو شقة، م س، ج 4، ص 52.
41- الكمال بن الهمام، شرح فتح القدير، ج 1، ص ص 258-259.
42- م س، ص ص 262-263.
43- صحيح البخاري، كتاب المغازي، غزوة أحد.
44- م س، غزوة أحد.
45- صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال.
46- ابن تيمية، الفتاوي. ج 19، ص 235.
47- أبو شقة، م س، ج 4، ص 29.
48- القاضي ابن رشد، بداية المجتهد، ج 1، ص 54.
49- مالك بن أنس، الموطأ، كتاب اللباس.
50- أبو شقة، م س، ج 4، ص 147.
51- م س، ج 4، ص 229.
52- أبو منصور الثعالبي، فقه اللغة وسر العربية، تحقيق مصطفى السقا والأبياري وشلبي، ص 41.
53- البيجاني، م س، ص ص 30-31.
54- الشريف، م س، ص 35.
55- البيجاني، م س، ص 30.
56- أبو شقة، م س، ج 4، ص 256.
57- م س، ص 230.
58- الطبراني، مجمع الزوائد، كتاب النكاح، ج 4، ص 301.
59- ناصر الدين الألباني، حجاب المرأة المسلمة، ص ص 32-33.
60- سنن النسائي، كتاب الزينة، رقم 4712.
61- سنن أبو داود، كتاب المناسك، رقم 1615.
62- صحيح البخاري، كتاب المغازي. باب حدثني عبد الله بن محمد.
63- سنن الترمذي، كتاب أبواب الاستئذان، رقم 2238.
64- فتح الباري، ج 12، ص 489.
65- صحيح مسلم، كتاب الصلاة. باب خروج النساء إلى المساجد.
66- صحيح مسلم، كتاب الصلاة. باب خروج النساء إلى المساجد.
67- سنن أبو داود، كتاب الصلاة، رقم 529.
68- أبو شقة، م س، ص ص 251-253.
69- الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج 23، ص ص 205-206.
70- عبد المتعال محمد الجبري، المرأة في التصور الإسلامي، ص 25.
71- سيرة ابن هشام، ص 189.
72- أحمد الجبالي، أشهر النساء في التاريخ، المركز العربي الحديث، ص ص 155-159.
73- أبو شقة، م س، ج 4، ص 125.
No comments:
Post a Comment