Friday, 27 March 2015

{الفكر القومي العربي} مقال يحيى حسين: التوتونجى

 
التوتونجى
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 28/3/2015)


لا زِلتُ أرى أن في داخل أجهزة الدولة مَن يَشُدّنا للخلف خطوةً كلما تَقَدّمنا للأمام مثلها .. مِن بين كل ما تَعرّض له جَدّنا العظيم أحمد عرابى مِن ظُلمٍ وتطاوُلٍ، قَفَزَتْ إلى ذهنى فى الأسبوع الماضى واقعةُ التوتونجى .. وقبل سرْد الواقعة لا بد من تعريف طرفيها .. أما التوتونجى فهو ذلك الخادم المسؤول عن علبة دخان الخديوى (لَفّاً ورَصّاَ وتقديماً)، وكان يحظى بمكانةٍ فى القصر مشابهةٍ لمكانة راعى الكلب فى فيلم غزل البنات لنجيب الريحانى.
أما أحمد عرابى الذى تحلّ ذكرى مولده بعد أيامٍ، فهو ذلك الفلاح المصرى الذى وجد فيه المصريون تجسيداً لآمالهم فى بَعْث الحياة النيابية السليمة والتحرر من رِبقة استبداد الخديوى وتَدّخُل الأجانب .. فلم يخذل شعبه وإنما كافح معهم، واضعاً روحه على كفه، وكان في غِنىً عن ذلك اكتفاءً بمنصبه وامتيازاته .. فلما انهزم جيشه بفعل الخيانة أو عدم التكافؤ أو قِلّة الكفاءة (أو كل ذلك) كان طبيعياً أن يدفع الثمنَ سجناً وعزلاً ومُصادرةً ونفياً لأن قيمة أى موقفٍ هى أن تدفع ثمنه .. لكن غير الطبيعى أن يظلمك ذوو قُرباك ويتنكر لك أولئك الذين ضحيتَ ودفعت الثمن من أجلهم (وظُلمُ ذوى القُربى أشّدُ مَضاضةً .. على النفس من وَقْع الحسامِ المُهَنّدِ) وهو ما حدث للأسف .. وُلِد عرابى عام 1841 وحوكم عام 1882 أى وهو بعدُ فى الحادية والأربعين من عمره .. وحُكِم عليه مع قيادات الثورة بالنفى المؤبد ومصادرة أملاكهم وأموالهم وحرمانهم من حق امتلاك أى مِلكٍ فى الديار المصرية بطريق الإرث أو الهبة أو البيع أو بأى طريقةٍ كانت، وبيعت أملاكهم وخُصِص ثَمَنُها لسداد التعويضات لمن أُضيروا من حوادث الثورة (من الخونة طبعاً) .. أمضى جدُنا تسعة عشر عاماً فى منفاه بجزيرة سيلان (سيريلانكا حالياً) .. ذهب إليها مع أجدادنا من قيادات الثورة وهو فى الحادية والأربعين وعاد وهو فى الستين .. أى أنه أمضى سنوات الرجولة والحصاد بعيداً عن وطنه الذى أَحَبّه، وكانت حياتهم فى المنفى حياة بؤسٍ وشقاءٍ وألمٍ وحزن .. إذ انقطعت صلتهم بالناس وطال اغترابهم عن الوطن وبَعُدت الشُقة بينهم وبين أهلهم وذويهم وتعاقبت السنون عليهم بلا عملٍ مطلقاً فى ظل مناخٍ ردئٍ لم يتعودوه من قبل .. عاد عُرابى كهلاً فى الستين بعد أن زال الخديوى الخائن وعفا عنه الخديوى الجديد وأصبح الاحتلالُ صريحاً بلا مواربة .. وعاش بعدها عشر سنواتٍ يتعرض لتطاول الدهماء والنخبة إلى أن لقى ربه، لدرجة أن شوقى الذى كان شاعر القصر وقتها هجاه بقصيدة .. كان هذا قبل أن يتحول شوقى إلى شاعر الوطن ويُنفى هو نفسه لاحقاً (ولكن لأسبانيا).
عودةٌ إلى واقعة التوتونجى .. عقب دخول الانجليز للقاهرة وأَسْرِهم لعرابى وعودة توفيق لقصره، توسّل التوتونجى (كان اسمه إبراهيم أغا) إلى سيده الخديوى أن يأذن له بالدخول إلى عرابى في مَحبَسه ليبصق عليه فأذن له الخديوى فَفَعَل .. ما رَفَعَت البصقةُ من شأن التوتونجى ولا حَطّت من قدْر عرابى .. ولكننى أتمزّق عندما أتخيلُ مشاعر الأسد الأسير إذا قفز عليه فأر .. مات إبراهيم أغا منذ قرنٍ ونصف بعد أن أقطعه الخديوى قطعة الأرض المُسمّاة حالياً بحدائق حلوان ثمناً للبصقة (!) .. مات ولكننا صرنا نُلاحظ أن ذريته من التوتونجية الصغار قد شَبّوا عن الطوق بعد أن هجروا مهنة الدخان إلى الشاشات، وبدلاً من لقب التوتونجى أطلقوا على أنفسهم (الإعلامى الكبير) و(الكاتب الكبير) واتخذوا من التطاول على الكبار (الحقيقيين) مِهنةً خُرافية الدخل .. لم يتركوا شريفاً إلا تطاولوا عليه .. ومَن نجا من تسافلهم آثر السلامة وتوارى عن الساحة اتقاءً للبهدلة .. ظلّت ملاحظاتنا في دائرة الشك والظنون إلى أن تحوّل الظنّ إلى يقينٍ منذ أسبوعٍ بإجابة المهندس نجيب ساويرس عن سبب استبعاده لأحد المذيعين حيث قال نصاً (إن المُذيع قد تلقى مكالمةً تليفونية من أحد أجهزة الدولة، طالبته بشتم الدكتور محمد أبو الغار، فقام المذيع بتنفيذ المطلوب منه في صباح اليوم التالي) .. يستحق ساويرس الإشادة، ويستحق المذيع الشاب الرثاء وإن كنتُ أتفهم ضعفه .. لكن الكارثة فى بقاء هذا المسؤول الذى يُحرّك التوتونجية ليبصقوا سفالاتهم على الشُرفاء .. أىُّ مصلحةٍ لمصر في أن (يُشتم) مثل أبو الغار؟ أما هذا (الجهاز) فهو بممارساته تلك يعمل بلا شكٍ ضد الدولة المصرية .. ولا يدرى أن الخديوى مات وأن الشعب لم يعد يقبل عودة تلك الممارسات التى ثار عليها .. مستقبل مصر يصنعه الكبار لا التوتونجية .. هم نذير شؤم.


No comments:

Post a Comment