Tuesday, 26 January 2016

{الفكر القومي العربي} article

(ربي لم يعد لديّ ما أفعله!)
صباح علي الشاهر
 
قاسم لم يمت، كانت مسرحيّة، قاسم يزور الناس في بيوتهم، ويستعد لمعاقبة المتآمرين .. لقد رآه إبن عمي وهو يتنقل بين " أبو سيفين" و" الصدرية " من دونما حماية، عندما عرف إن ابن عمي قد عرفه، إبتسم له، ولم يحاول إخفاء وجهه.
هذا ما قاله زائر الحسين للسيد .. السيد هو والد صاحبي . صاحبي يخاطب والده بالسيد، لا يقول له " يا والدي " .. السيد لا يشك بما قاله الزائر، لا بل يؤكده، رغم أنه لم يغادر كربلاء منذ سنوات، لا بل لم يغادر بيته إلا لماماً..
يقولون إن عمر كربلاء يتعدى الألف عام. يقال أنها نشأت حول قبر الحسين وأخيه العباس، بعضهم يقول أنها كانت قديماً أكبر مما هي عليه الآن ، ربما كي يؤكدوا عمرها ، إذ من غير المعقول أن يكون عمر مدينة أكثر من ألف عام، وتظل مجرد قرية ، وإن كانت قرية كبيرة .. بإستثناء الضريحين الشامخين، لا شيء شامخ في كربلاء .. أسواقها كبيرة عبقة بروائح  شتى، وفيها ما تشتهيه الأنفس، وبساتينها الكثيفة تحيطها حوط السوار بالمعصم، ماخلا الجهة المنسرحة على بادية النجف، وناسها مشغولين بالتجارة وخدمة الزائرين، ولكن ليس من دونما مقابل.
السيد يقول أن عمر كربلاء، يمتد في أحشاء الزمن، هو يرى أن الأنبياء كلهم، إبتداءاً من إبراهيم، مروراً بنوح، وشيت، قد مروا بها، وبكوا حزناً لمصاب الحسين، قبل أن يستشهد بآلاف السنين، فكل هذا مكتوب باللوح والقلم.. كانت تربة كربلاء مقدسة منذ الأزل، لقد أُعدت كي يحتضن ترابها جسد الحسين وأخيه العباس وصحبه الكرام.
سألت صاحبي: ما هو اللوح والقلم ؟
-        لا تعرف ما هو اللوح والقلم؟ .
-        أعرف اللوح، والدك يعمل فيه، إنه نجار، وأعرف القلم، فنحن نكتب به، لكنني لا أعرف اللوح والقلم الذي يتحدث عنه والدكم السيد .
-        هل تتصور أن هذا الكون عشوائي ؟
-        لا أدري ..
-        لا يمكن أن يكون عشوائياً، وكل شيء، من أصغر صغير إلى أكبر كبير مسجل ومدون في اللوح .
-        والقلم؟
-        هو أداة التدوين
-        ما زلت لا أفهم !
-        ولن تفهم أبداً .
كربلاء ليست كالسماوة. السماوة مدينة اللسان الواحد، واللهجة الواحدة، والعشيرة الواحدة، كل أبناء المدينة ينتسبون لبني حجيم، وبني حجيم تحالف قبلي ضم جميع عشائر المدينة، أما كربلاء فمدينة أممية، تتعدد الألسن فيها، مثلما تتعدد السحنات، ويتنوع اللباس، والمأكل، وحتى المشرب، ولكن خارج أسوار المدينة يختلف الأمر، حيث يتشابه ريفها مع ريف الفرات الأوسط كله.
لم أزر كربلاء إلا في الأربعين، حيث تمور بالحركة، وتزدحم بالمواكب الحسينية الآتية من كل حدب. كنت أحسب أن كربلاء، هي كربلاء الأربعين، لكنني الآن أرى وجه كربلاء الآخر، كربلاء الساكنة الهادئة الوديعة.
كربلاء الأربعين، وكربلاء الوديعة، ليست هي كربلاء التي تحدث عنها السيد.
لقد صبغ السيد كربلاء باللون الأخضر، ليس بسبب بساتينها، فكربلاء ما قبل الحسين لم يكن فيها بساتين، وإن كان فيها نهر العلقمي.. السيد يقول كان فيها العديد من الأنهر، وليس العلقمي فحسب. ترى كيف تجاوز الركب الحسيني الكوفة، وكيف لم يعرج الحسين وصحبه على النجف لزيارة قبر والده العظيم، بما أن الإمام الحسن هو الذي دفن والده سراً في هذه البقعة، فمما لا شك فيه أن الحسين كان يعرف مكان دفن إبيه، إنهم يتوارثون العلم والمعارف بعضهم من بعض. قيل أن الركب الحسيني بعد أن وصلته أخبار مقتل رسل الحسين في الكوفة، ورمي مسلم بن عقيل من سطح دار الإمارة، غيّر من وجهته، ولكن لماذا ذهب بإتجاه كربلاء، إلى أين كان يتجه؟، بغداد يومئذ لم تكن قد بُنيت، والحاضرة الأساسية كانت الكوفة، فإلى أين كان يسير الموكب الحسيني؟ من المؤكد أنه لم يكن قاصداً بلاد الشام، فليس هذا هو الطريق من المدينة إلى الشام.. ذهب الحسين شرقاً، قاصداً الكوفة باديء ذي بدء، ثم بعد أن غدر أهل الكوفة بصحبه إتجه شمالاً، إلى تلك البقعة الموقوتة.. إلى كربلاء التي سيصبح لها شأن وإيما شأن .
يقول السيد أن جيش إبن زياد كان يدفع بالركب الحسيني بهذا الإتجاه، هل إبن زياد من كان يدفع، أم أن ثمة قوة خفيه هي التي كانت تدفع بهذا الإتجاه؟
السيد يلف وسطه بحزام من القماش الأخضر، الفاقع أو الناصع الخضرة، وهو يسدل على متنيه قطعة خضراء موشاة في نهاياتها..
والخضرة توشح كربلاء .. هل كانت كربلاء خضراء قبل قدوم الحسين ؟
أكان حادي الركب يحدو أم يرتل القرآن؟
كلما إبتعد الركب عن الصحراء تبدلت أمامه الألوان.. إختفى شيئاً فشيئاً لون الذهب.. بقعة مغروزة في صرّة العراق، ليس بعيداً عن الفرات كانت توميء للركب الحسيني، الذي طفق يتسم باللون الأخضر شيئاً فشيئاً.. كانت البقعة خضراء من دونما زرع ولا كلأ.. كربلاء الخضراء توميء للحسين، تشد الركب نحوها، والركب يتخضّر، يزداد أخضراراً، يلتحم بأطراف كربلاء، يصبحان شيئاً واحداً.. خضرة سرمدية، تصبغها كربلاء على الركب، أم الركب يسبغها على كربلاء، منذ أن وطأ حافر فرس الحسين كربلاء أضحت كربلاء خضراء ، منذ ذاك اليوم وحتى الأبد..
كربلاء الأزل خضراء.. كان الليل يلملم أذياله، شيء من الغبش يضبب الرؤية، لكنني رأيت غمامة خضراء تأتي من صحراء كربلاء الغربية، تدخل كربلاء بهدوء، تماماً كغيمة تدفعها الريح بنعومة، ثم تصبح سماء كربلاء كلها بلون السندس، بلون حزام السيد. أكنت أرى كربلاء خضراء قبل اليوم، أم أني رأيتها كذلك الآن، في هذا الفجر، ومع هذا الغبش، ومع قدوم هذه الغيمة الآتية من الصحراء .
تلة ليست أكثر علواً من خربة هي تلة الزينبية التي يرتقونها عبر بضعة درجات، ثم يواجههم شباك صغير من النحاس، معلقة على قضبانه العديد من الخرق الخضراء.. طالبي النذور والحاجات يطلبون حاجتهم من السيدة الجليلة التي وقفت في هذا المكان لتراقب المشهد، مشهد ذبح أهلها وناسها، واحداً إثر واحد، وهي تقلب نظراتها في الأمداء فلا ترى ناصراً حتى من السماء. بعد هذه الحجرة الصغيرة ذات الشباك النحاسي يبدأ سوق الزينبية المتعرج، حيث يصطف بائعوا المسابح والترب والأدعية والعطور والحلوى، وبعد أن يمضي قليلاً، ينقسم قسمين قسم يتخصص في بيع الخضر والأطعمة، يتجه يساراً حتى ينتهي عند الخيمكة، والقسم الأخر يواصل سيره المتعرج قدماً، حيث يقل عدد دكاكينه شيئاً فشيئاً، حتى يتحول في نهاية المطاف إلى مجرد زقاق ضيّق، تتفرع منه أزقة أضيق، ينغلق بعضها، وينتهي البعض الآخر عند البساتين ..
 كانت سماء كربلاء خضراء، أبنيتها خضراء، أرضها خضراء، وفي عمق كل هذا شمسان ذهبتيان، قبتان فارهتان، تنبثقان من الخضرة، تخترقان الخضرة، ثم تعلوان عليها، أكان الركب الحسيني أخضر أم ذهبيّ؟ 
كربلاء، وكذا النجف، مركزا الإيمان الحسيني.. تبدو كربلاء مسالمة، تنام هادئة، لكنها كانت وما زالت تحاذر غدر الصحراء. الصحراء تنتهز الفرص لمداهمتها، لقد داهمتها عدة مرات ، وفي أوقات مختلفة، تارة بحجة عقائدية وتحت إمرة المؤمنين بمحمد بن عبد الوهاب، وتارة أخرى تحت راية البدو المعتادين على الإغارة والنهب .. تتعدد الأسباب، ولكن إجتياح كربلاء واحد.. ودائماً من الصحراء، ومن الغريب أن كربلاء وكذا النجف، لم تحصنان نفسيهما من الخطر الآتي من جهة الصحراء، دائماً كانت الصحراء مفتوحة وسالكة، من أقاصي نجد وحتى تخوم كربلاء والنجف.
-        لكن الحسين جاء من الصحراء
-        وكذلك الرسالة بدأت من الصحراء، لكن الصحراء لم تستوعبها .. رسالة محمد أكبر وأعظم من الصحراء، وليس من عبث أن ينقل أمير المؤمنين مقر الخلافة من المدينة إلى الكوفة، ولا من المستغرب أن تكون عاصمة الأمويين دمشق، وأن يبني العباسيون دارا جديدة للخلافة العباسية هي بغداد.
تذكرت ما قاله صديقي الذي لا أدري أين هو الآن عندما كان يستضيفني في بيته في حي العباس أثناء زيارة الأربعين
-        لا تصدق ما تراه، الكل يلطم على الهريسه لا على الحسين.. الحسين بعظمته مات ودفن في هذه الأرض، وترك للمعتاشين على ذكراه إمتهان الدجل، لا فرق بين ما يحدث في كربلاء وما يحدث في الحجاز. هناك يمتهن الدجالون الدجل لإستنزاف أكبر كمية من المال من جيوب الحجاج، وهنا الأمر لا يختلف .. لا يختلف يا صاحبي ! السلام على الحسين، وعلى المؤمنين حقاً بالحسين.
-        وهل أنت من المؤمنين بالحسين ؟
-        أنا من المؤمنين برسالة الحسين، هي رسالة أبدية خالدة، لم يتحقق منها شيء بعد مرور أكثر من ألف وأربعمائة عام على إستشهاده..
سألت السيد:
-        هل حقق الإمام الحسين رسالته؟
صمت قليلاً، طوى كوفيته الخضراء المنسرحه على كتفيه من نهايتها المنسدلة على صدره.
-        حقق الجزء الأهم من ثورته، ألا وهو الحفاظ على الإسلام، إذ لولا ثورة الحسين لما بقى للإسلام من أثر.
أيكون الأثر الذي أبقاه الحسين بعد إستشهاده التراجيدي هو بقاء كربلاء خضراء حتى هذا اليوم؟..
للسيد يقينه الخاص الذي لا يتزعزع، هو يرى أن كربلاء أضحت خضراء منذ وطأت ترابها قدم الحسين.. اللون الأخضر في مفهوم السيد ليس هو خضرة البساتين فقط، بل أن الأمر يتعلق إلى حد بعيد بالكوفية الخضراء المنسرحة على كتفية، والحزام الذي يطوّق وسطه..  كوفية خضراء مترامية الأطراف، قبة فلكية خضراء تغطي كربلاء، تحرسها وتحميها..
يقول السيد لولده همام : إذا مت فإدفني مع كوفيتي وحزامي ..
السيد يعتقد أن الكوفية الخضراء والحزام الأخضر سيذكران منكر ونكير بأنه سيد ومن نسل الأئمة الأطهار، ولذا فإنه سوف لن يواجه عذاب القبر.. ستكون الأرض رحيمة به، وسينتقل كالنسمة العليلة من الدنيا الفانية إلى الدنيا الباقية..
هو ينتظر الموت.. منذ أن أختار الإنتقال من السماوة إلى كربلاء.. يستعجله كي يرتاح مما هو فيه.. السيد يشكو آلام البروستات، والبواسير، ويعاني من نوابات الربو، ومن إلتهاب المفاصل، ويصر على عدم الذهاب إلى الطبيب، وعدم تناول الأدوية..( إذا مرضت فهو يشفيني ) .
ماذا يعني إن يتقدم الموت عاما أو يتأخر عامين.. أن تموت بسن العشرين أو الثمانين  سيان، فأنت مغادر على أية حال، تاركاً خلفك كل شيء.. دائما تطلب أن يمد الله في عمرك، لم تسأل وإذا مدَّ في عمرك فما الذي سيتغيّر.. تلك اللحظة الفاصلة ستحل، ودائماً ستحسب أن الوقت مبكر، لا شيء مبكر، ولا شيء متأخر، لا شيء ما خلا أنك راحل لا محال..
السيد لا يدعو ربه كي يطيل عمره، دائما يدعو ربه إلى أن يعجل بأخذ أمانته.. لم أر في حياتي مصلياً يختم صلاته بدعوة ربه إلى أن يقصر أجله ويقرّب يومه..
(ربي لم يعد لديّ ما أفعله!)    

No comments:

Post a Comment