Thursday 1 March 2012

{الفكر القومي العربي} from Raouf Hamed

الزملاء والأصدقاء الأعزاء
 
أتشرف بأن أرفق لكم مقالا عن أزمة النخبة فى مصر, من منظور علاقتها المباشرة بأزمة الثورة ( بعنوان : أزمة الثورة .. وإشكالية النخبة).
كنت قد كتبت هذا المقال فى 18 نوفمبر 2011, وذلك كإمتداد وتكملة لمقال أسبق بعنوان "أزمة الثورة .. عناصرها ومداخل تخطيها – البديل الجديد – 14 نوفمبر 2011), ولكن حدث أن عزفت عن نشر المقال الخاص بالنخبة وقتها, بسبب الإنشغال بأحداث 19 نوفمبر, والتى شهدت مزيدا من الشهداء والإرهاق للثورة, حيث كانت الأولوية للتعامل الذهنى مع مستجدات 19 نوفمبر.
 
لقد جاء فى خاتمة مقال "أزمة الثورة .. عناصرها ومداخل تخطيها" أن "إشكالية القيادة" تشكل تحديا رئيسيا فى طريق حل أزمة الثورة المصرية, الأمر الذى يجدر التعامل معه فى معالجة قائمة بذاتها إن شاء الله".
 
 والآن, فى ظل التضخم الحاد للإنعكاسات السلبية لأزمة النخبة فيما يتعلق بتتابعات تغييب وإنهاك ثورة 25 يناير, ومن بينها ترتيبات الإنتخابات, سواء ماتم منها (البرلمانية), أو ماهو مزمع حاليا (الإنتخابات الرئاسية), فإننا نتشرف أن نضع الرؤية المرفقة, والمشار اليها أعلاه (أزمة الثورة .. وإشكالية النخبة) بين أيديكم,... حيث نرى أن النخبة مسؤلة عن "توهان الثورة", وأن النخبة الوطنية المعارضة بحاجة الى ثورة "ذهنية" و "تسييرية" داخلها.
 
 
 
أزمة الثورة و .. إشكالية"النخبة"
دكتور محمد رؤوف حامد
البعض يرى أن مشكلة ثورة 25 يناير تتلخص فى أنها لم تستلم السلطة. هذا حقيقى, ولكن الحقيقة لاتكون ناضجة إلا بمعرفة السبب, والذى يتمثل – أساسا - فى سؤ حال القيادات. ذلك حيث "القيادة" (أو النخبة) فى مصر تعتبر إشكالية وطنية مزمنة.
الخطورة القصوى لهذه الإشكالية, لاتظهر فقط فى قدرتها على إلتهام مستقبل الثورة, بل وفى إلتهامها بالفعل لإمكانات تقدُم مصر, دولة, وشعبا, على مدى أكثر من نصف قرن مضى. وبالتالى إذا إستمرت هذه الإشكالية بغير مجابهة, فكأن الثورة لم تكن.
فى عهد ثورة يوليو تمثلت إشكالية القيادة فى وقوع البلاد أسرى "كاريزما الفرد" القائد. ورغم عِظم قدر هذا الفرد, إلا أنه كان من الطبيعى أن تبزغ, بالتوازى مع كاريزمته, مراكز قوى, تعرقله هو كقائد, وتلحق بمصر هزيمة عسكرية كبيرة. وفى ظل ذلك, أتت الأوضاع بالسادات قائدا, فمارس "أحادية التوجه", مما أدى الى ذهاب قيادة البلاد, بعد إغتياله, الى من قام نظامه بأعلى قدر من "القيادة بالإفساد", و "إفساد النخبة" فى عموم مصر على مدى تاريخها الحديث.
من هذا المنظور, لا يستطيع طرف من أطراف قيادة الشارع السياسى بعد الثورة, بما فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة, أن يدّعى (أو يتصور) أنه أعلى من إشكالية (وأمراض) القيادة فى مصر.
وعليه, لايمكن لأزمة الثورة أن تنفرج, فى إطار يؤدى الى إستكمال الثورة وحمايتها, إلا بالقبول والرضا من كافة أطراف الشارع السياسى الوطنى بعد الثورة (وعلى رأسها المجلس الأعلى للقوات المسلحة) بممارسة علاج الذات من هذه الإشكالية.
وهكذا, يجتهد الطرح الحالى فى جذب الإنتباه الى الزوايا والمناطق الحرجة التالية, بخصوص "إشكالية – وأمراض – القيادة (أو النخبة)", فيما يتعلق بثورة 25 يناير:
أولا – سؤ إستخدام حالة الثورة:
1)    إستباحة القيادات لأخلاقيات الدعوة للمليونيات:
برغم عظمة المليونيات التى أنجبت الثورة, إلا أن البعض من قادة التيارات السياسية (أو ممن يُشار اليهم بالنخبة) صاروا يستخفون بها. إنهم يسارعون بإستدعاء المليونيات, من وقت لآخر,عند أى عدم قبول جانبى منهم لأية مستجدات من المجلس الأعلى أو الحكومة.
المراد الإشارة اليه هنا ليس إستخدام المليونيات كفزّاعة, وإنما التجاهل, أو الجهل, تجاه مايمكن إعتباره آداب (أو أخلاقيات) الدعوة للمليونيات, والتى تتمركز فى (وتنبع من) حقيقة, وقيمة, أن المليونيات تختص بالشعب ككل, أى كل الناس الذين صنعوها من أجل إسقاط النظام السابق, دون أية حواجز أو تفرقة على خلفية الجنس, أو الدين, أو التيار السياسى, أو العمر, أو الجغرافيا, ... الخ. 
المليونيات - إذن - لاتختص بفصيل سياسى من قوى الثورة دون آخر, وبالتالى لايجوز تجزئة الدعوة إليها بين فصائل وتيارات هذه القوى.
 وبالإضافة الى أن هذه التجزئة تؤدى الى إضعافها, والتدنى بقيمتها, فإنها تعنى تحول الشعب الى "أداة" من منظور جماعات من النخبة, والتى تستبيح الدعوة للمليونيات دون توافق وطنى, الأمر الذى يُعدُ - برُمته – خروجا على شرعية ثورة 25 يناير (كثورة شعبية), وإهدارا لها.
2)    التهاون فى مسؤلية إنشاء "مجلس قيادى جماعى للثورة":
الحقيقة أن القيادات (أو النخبة) تتخلص من عبء واجبها فى تشكيل قيادة جماعية للثورة, بإحالة (أو "رمى") عبء مسؤلية القيادة الفعلية للثورة لتكون على عاهل المليونيات. وبينما هذا الوضع يشى بضعف و أنانية  القيادات (أو النخبة), الى جانب جرأتها فى سؤ الإستخدام للمليونيات (أو للشعب), فإن من المستحيل عمليا أن تتقدم حالة الثورة عن طريق إدارتها بهذه المليونيات.
المليونيات تظل التعبير الأكبر (والإطار المرجعى) لإرادة الشعب, لكنها لن تكون - أبدا - المكتب التنفيذى لإدارة الثورة. إنها الجمعية العمومية للثورة, ومن الممكن أن تجتمع بالتنادى بين أعضائها, كما حدث فى الأيام الأولى للثورة, أو بالدعوة من "مجلس قيادى جماعى للثورة", الوضع الذى لم يتحقق بعد, وتهاونت بشأنه الكوادر والقيادات.
وعليه, فإن إستباحة بعض التيارات السياسية للدعوة للمليونيات, فى غير توافق وطنى يُصنع بواسطة قيادة جماعية للثورة, هو مزايدة على حالة الثورة, والتفاف غير إخلاقى حولها, حيث يتجه – فى الأغلب - الى مصالح ذاتية, ويسىء إستخدام ظروف الأمية السياسية والفقر عند شريحة كبيرة من الشعب, الأمر الذى يمكن أن يعتبر من منظور الفكر السياسى (و دارسى التاريخ), نوع من التلاعب بالشعب, وبثورته. 
3)    إستحضار الإنتخابات من خارج الثورة:
من الثابت أن الطريقة التى جائت بها الإنتخابات, جعلت منها مفاجئة لقطاع كبير من قوى الثورة. ذلك بمعنى أنها لم تأتى بترتيب نابع من هذه القوى, بحيث تكون خادمة لمسار ثورى مُتوافق عليه. 
من ناحية أخرى, كان من الممكن أن تكون الإنتخابات أداة غنية لتوكيد حالة (ومنجزات) الثورة, إذا ماكان قد جرى إستحضارها فى سياقات ناجمة عن النجاح فى التأسيس (والبدء) لمسارات تغييرية منظومية تختص, على الأقل, بما يلى:
-         تفريغ البلاد من الفساد.
-         تغيير السياسات العامة.
-         التحول الثقافى, فى إتجاه تأصيل الكود الأخلاقى الذى تأسس فى ميدان التحرير (والذى كان مضادا للفتنة ومؤكدا للمواطنة الناضجة التامة), وتحجيم الإنعكاسات السلبية للجهل والفقر على الشأن السياسى.
أما وأن تأتى الإنتخابات بينما متطلبات (أو لزوميات) التحول الثورى لم تتأسس, فإن النتيجة الطبيعية تتضمن مناورات سياسية, وتفتتات لقوى الثورة, وتمكينات للقوى المضادة.
وهكذا, الإنتخابات فى سياقاتها القائمة تقتحم حالة الثورة, وليست متممة لها.
4)    سباق المرشحون لرئاسة الجمهورية:
 لقد قام عدد من أشرف نبهاء مصر, ممن يطمحون فى قيادتها من خلال منصب الرئاسة, بإنتهاز التحولات الناجمة عن ثورة 25 يناير, للقيام بجهود دعائية مكثفة تفوق بكثير ماكان ينبغى أن يقوموا به, ككوادر قيادية, من أجل تثبيت وإستقرار حالة الثورة.
إنه تسارع لايخدم المسار الثورى, بل و يتوافق, ولو من بعيد, مع طبائع وطموحات البزنسة, الأمر الذى, مع تحاشى إلتصاقه بأى منهم, إلا أنه يدل على إلتباسات فى مهام النخبة, حتى على هذا المستوى.
ثانيا – التسارع فى إتجاه "بقرطة" الثورة:
المقصود ب "بقرطة الثورة" bureaucratization of the revolution     , تحولها الى البيروقراطية السياسية التقليدية, من تدافعات وصراعات وتداعيات إنتخابية, فى غير توافق مع (ودون إتمام ل) لزوميات ومتطلبات حالة الثورة.
الأمر المفجع هنا (حركيا وتاريخيا) أن الثورة, والتى من المفترض أن تُحدث تغييرات جذرية (فى التوجهات العامة ومقاومة الفساد ...الخ), إذ بها تخضع للتحولات البيروقراطية قبل أن تؤسس للتحولات الثورية.
يُذكر هنا أن كوادر وقيادات القوى الثورية والتيارات السياسية قد بذلوا جهودا فى الإجتماعات والتواصلات من أجل التحالفات الإنتخابية, أكثر بكثير مما كانوا قد بذلوه بخصوص متطلبات ولزوميات الثورة.
التسارع فى بقرطة الثورة, دون إنجاز للزومياتها, ودون رؤية لمسارها, يدفعها الى الذوبان (والتلاشى) السريع فى مسار التجربة والخطأ, والذى يكون (خاصة فى بداياته) أكثر مناسبة وفائدة للإتجاهات المتطرفة وللقوى المضادة. كل ذلك قبل أن تصنع الثورة نموذجها الإسترشادى The Revolution's Paradigm , والذى من المفترض أن يكون إطارا مرجعيا للممارسات السياسية التالية (ومن بينها الإنتخابات).
هذه البقرطة (والتى من شأنها أن تقضى على حالة الثورة) تعنى قبول خفض مستوى منصة إنطلاق مصر الى مسار التقدم, وبالتالى تلاشى إلتحاقها بمصاف الدول المتقدمة (إجتماعيا وتكنولوجيا وإقتصاديا) فى زمن قريب, كما كان مأمولا بفعل الثورة.
وهكذا, الكارثة الكبرى هنا أن الكوادر والقيادات السياسية (بما فيها المجلس الأعلى) قد إرتضت "التطبيع" بين حالة الثورة وبيروقراطية التجربة والخطأ, بغير (وقبل أوان) إنضاج المسار الثورى.
ثالثا – الشواش السلوكى المرضى عند النخبة:
1-    هيمنة القديم (أو الشائع) فى تسميات القيادات الجديدة:
من الغريب, برغم حالة الثورة,  أن الإختيارات للقيادات, سواء كوزراء, أو كقيادات داخل الوزارات, أو حتى فى الإنتخابات الجديدة لرؤساء الجامعات, تذهب فى الأغلب الى قيادات من نجوم العهد السابق. حيث تكاد تكون قد ألغيت تماما فرضية الإختيار ممن عُرفوا بمقاومة الفساد, وبإمتلاكهم الخبرة التكنوقراطية العالية, وبممارسة عملية للثورة فى مجالات تخصصاتهم.
عوامل عديدة تقف خلف هذه الظاهرة. من ذلك, مجرد التعود, حيث اللاوعى يقود الى قبول أسماء معينة لشهرتها, أو لسبق قيامها بمهام المنصب.
وإذا كان اللاوعى هنا يتدخل سلبيا بدون قصد, فإن الأخطر  هو أن يجرى تجنب التسمية بواسطة رفاق طريق النضال ضد النظام القديم, الأمر الذى يتشابه مع "إما أنا, أو الطوفان".
بمعنى آخر, كوادر وقيادات نخبة الثورة لم تقم بالحد الأدنى المطلوب من الجهد (وإنكار الذات) من أجل الإصرار على تولى الحكومة الإنتقالية بواسطة أبناء وقيادات الثورة.
من هنا لاتوجد حاجة للإستغراب أن حكومات المرحلة الإنتقالية ليست أبدا حكومات ثورية, وأنها, فى معظم أعمالها, لم تأتى بتغييرات فى التوجهات والمسارات والكوادر, بل قد عززت توجهات تخلف أو فساد إختص بها النظام السابق, كما تساهم فى ترحيل (أو دحرجة) الثورة.
2-    الخلط بين مهام القيادة ورسالة المفكر:
الدور الأصيل للقائد هو أن يكون مُيسرا ومنشطا للآخرين. غير أن القيادات التقليدية فى معظم الكيانات السياسية القائمة يتصورون أنهم - بالضرورة - مفكرون.  وتكون النتيجة أنهم لايحسون بأهمية الفكر, ويتجنبون الإستعانة بالمفكرين. يتوائم ذلك تماما مع ندرة اللجوء المنظومى, من قادة الكيانات السياسية (ومن المجلس الأعلى للقوات المسلحة), الى المفكرين للإستعانة بتصوراتهم بشأن المرحلة الإنتقالية, أو بشأن التعامل مع مهام ومشكلات مابعد الثورة (مثل الأمن ومتطلبات الإرتقاء الإقتصادى...الخ).
النتيجة الحتمية لذلك تكون مسخ الثورة فى إجراءات غير ناضجة, وغير قائمة على الرؤية.
3-    التعود على التعامل المنفرد (أو الخاص) مع الرئاسة:
إذا كانت القيادات السياسية التقليدية فى زمن مبارك, قد درجت على السعى الى العزف المنفرد فى التعامل مع الرئاسة,  فإن نفس السيناريو يظل يحدث بعد الثورة, من خلال تجنب تكوين سلطة جماعية لقيادة الثورة, تكون لها صلاحية التعامل "الندى" مع المجلس الأعلى فى توجيه شؤن البلاد, وليس رفع الطلبات, كما كان يحدث سابقا.
4-    تجنب الطريق المستقيم (كأقصر وأصلح الطرق) فى التعامل مع الآخر:
هنا تأتى الإلتفافات بين النخب السياسية المختلفة, حول واجباتها بشأن تشكيل قيادة جماعية للثورة, حيث الكل يبغى الإنفراد بالزعامة, الأمر الذى يدفع الى تآكل الثورة ذاتها.
وهنا أيضا تأتى حيوادات المجلس الأعلى عن المقاربة المنظومية مع قوى الثورة, وذلك الى الحد الذى أدى به – كما تبين من تصريحات بعض رموز العمل الوطنى –  الى اللجوء للتعرف على رؤى بعض هؤلاء الرموز, من خلال لقاء صريح لهذا الغرض, يجمعهم برئيس المخابرات العامة.
5-    إستسهال تجنب التفكير والإحساس من منظور تفكير وإحساس الآخرين:
فى هذا الشأن يمكن القول بان ممارسات عديدة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة (مثل تلك التى تتعلق بالإستفتاء, والمحاكمات العسكرية, ووضعية الأمن العام, وتوجيه إتهامات لبعض فصائل قوى الثورة, وماقيل عن كشف العذرية...الخ) لم يحدث بخصوصها الحد الأدنى الكافى من الإجتهاد فى التفكير أو الحس من منظور الآخر, السياسى أو الشعبى, وبما يتناسب مع حالة الثورة.
وبالتالى, كان من الطبيعى أن يتصاعد الغضب الشعبى ضد هذه الممارسات, وضد المجلس الأعلى ذاته, فى غياب مقاربات منظومية معلنة من جانبه, مع كيانات قوى الثورة, ومع الجماعات الفكرية.
رابعا – القصور فى التوصل الى النموذج الإسترشادى الخاص بالثورة:
مابُنِىَ حتى الآن من هذا النموذج هو من صنع الجماهير, وليس للنخبة فضل رئيسى فيه .إنه يتمثل فى "الجماعية" و "السلمية", وقد إنتقل الى حركيات وثورات عربية وأجنبية أخرى, بمافيها الولايات المتحدة وإسرائيل.
 لقد حدث القصور فى إستكمال بناء النموذج الإسترشادى الخاص بالثورة المصرية, بالرغم من الإستجابة السريعة من جانب المجلس الأعلى للضغوط الجماهيرية, خاصة فى بداية الثورة.
خاصية الإستجابه هذه لم تصادف الفهم الإستراتيجى والتكامل العملى من جانب كوادر وقيادات قوى الثورة, والتى تكاسلت عن (و هربت من) مسؤلية بناء سلطة جماعية للثورة.
لقد كان من الممكن لهذه السلطة أن تكون قادرة على التعامل مع المجلس الأعلى, بمنظومية (وبندية), مما كان سيقود الى التآذر بين الجميع (سلطة الثورة, والمجلس الأعلى, والحكومة) تحت مظلة  الشعب, لرسم مسار الثورة, وتحديد سقفها, ووضع سيناريو المرحلة الإنتقالية, وإنجاز التحولات, بشكل أمثل, وبيُسرأكثر. 
وفى ظل غياب النموذج الإسترشادى للثورة, جرى تشكيل, وإعادة تشكيل, الحكومات الإنتقالية بطريقة أقرب الى العشوائية (والعشوءة), حيث لم تتأسس الترشيحات على رؤى وسيناريوهات وطنية معلنة.
كانت الثورة ستكون أكثر فعالية, وكان الشارع سيكون أكثر أمنا, لو أن من يطلق عليهم النخبة (من كوادر وقيادات سياسية) كانوا قد إرتقوا الى مستوى الجماعية التى إرتقى اليها الإنسان المصرى العادى.
المسألة إذن أن أوضاع الثورة المصرية تقول بأن الإنسان المصرى العادى هو فى جماعيته أنضج و أرقى من النخبة, وتقول أيضا أن إفتقاد النخبة للقدرة على صنع الجماعية قد حرم مصر من فترة إنتقالية فاعلة وكفئة. وأن ذلك النقص قد حرم شعوب المنطقة من الإستفادة بنموذج إسترشادى مصرى صميم.
خامسا- ضعف "التأمل الإستراتيجى" وتدنى العناية بالمنهج:
تحفل مصر الآن ب "هيصة" عنيفة. هذه الهيصة مُشاهدة فى كل من الشارع السياسى والشارع الأمنى. وكلا من الشارعين يُعضد ويُفاقم من هيصة الشارع الآخر, مما يجعل اللانظام يتصاعد بسرعة, ويقود البلاد الى الغرق فى رؤى متعارضة, محدودة الأفق ومتدنية المستوى, تأتى من (وتذهب الى) كل الإتجاهات.
فى ظل ذلك الوضع يكاد "التأمل الإستراتيجى" ينعدم, وتكاد الناس لاتدرك بأبعد مماترى عينيها وتسمع أذنها.
ومع إنعدام "التأمل الإستراتيجى" تصبح البلاد أسيرة اللحظة وبعيدة عن الثورة. إنها حالة مرضية تستوجب الحذر, وتستدعى التدارك للعيوب الإستراتيجية التالية:
-         أن الطلبات التى صدرت بإسم قوى الثورة حتى الآن هى – فى الأساس – طلبات إجرائية, وليست إستراتيجية, مما ساهم فى تقصير "النفس التخطيطى الثورى" لكافة الكيانات السياسية على الساحة.
-         أن خُلو طلبات الثورة من الإستراتيجيات, وغياب "مجلس قيادى جماعى للثورة", قد أديا الى قدر من التقزم فى رؤية المجلس العسكرى لدوره الذاتى تجاه الثورة, الأمر الذى إنعكس فى تردى قدرات الحكومة وأوضاع الأمن, وتصاعد حاد فى النقد تجاهه.
-         وقوع كوادر النخبة, سواء قبل الثورة مباشرة, أو بعدها, فى مصيدة الرؤى والحركيات قصيرة الأجل, صغيرة الحجم, منخفضة المستوى. من أمثلة ذلك طبيعة الخلافات بين البرادعى والجبهة الوطنية للتغيير, وضعف الترشيحات للمناصب الحكومية, وتفاقم الصراخات والتصريحات (فى الفضائيات وغيرها) كبديل للمجابهات التصحيحية والخططية...الخ.
-         غيبة الإهتمام بالطريقة, أى المنهج  Methodology   . الغريب (والجميل) هنا, أن المواطن العادى كان أقرب الى الطريقة السليمة فى الأيام الأولى للثورة, مما عليه الحال عند النخبة السياسية الآن.
-         أنه فى ظل العيوب سالفة الذكر, يكون الخطر على البلاد مُرَكبا, ويمكن أن يقع بشكل مفاجىء. ليس فقط بسبب تدنى الرؤية فى الداخل, وإنما أيضا بفعل إستراتيجيات أجنبية تهدف الى إستيعاب المنطقة بكاملها, وعلى رأسها مصر.
وهكذا, فى التعامل الصريح مع "إشكالية النخبة" يكمن الطريق الى إستكمال الثورة وحماية وإرتقاء البلاد, وللحديث بقية.  

No comments:

Post a Comment