كفى لغواً وتهريجاً
صباح علي الشاهر
لماذا مثلاً لا يضع أي كيان إنتخابي في صدارة برامجه فقرة تؤكد على أنه سيسعى لأعادة تشغيل الشركات والمؤسسات التابعة لوزارة الصناعة، والوزارات الأخرى، بطاقاتها القصوى، خلال مرحلة محددة تنتهي بنهاية الدورة الإنتخابية ؟
هل لأن مثل هكذا تعهد لا أهمية له، أم أنهم يعجزون عن تنفيذه، أو لا يريدون تنفيذه، أم مجبرون على عدم تنفيذه؟
كم عدد العاملين والموظفين والمستخدمين الذين هم عملياً الآن مدرجون ضمن العاطلين عن العمل، وإن كانوا يتقاضون رواتباً من دونما مقابل ؟
لقد رأيت بأم عيني كيف تتحوّل الدوائر الرسمية إلى رياض أطفال، وكيف يسترخي الموظف على كرسيه في غرفته الفارهة، وهو يتابع مباريات كرة قدم، وكيف يمنح الموظف الكبير حاسوبه في الدائره لإبنه الصبي كي يلعب فيه لعبته المفضلة، وقد رأيت دائرة كبيرة تابعة للسكك، وهي فارغة تماماً من المراجعين، والموظفين الذين فضلوا التريض خارج الدائرة، والذين ملوا من الجلوس على الكراسي والثرثرة، ورأيت دوائر المجالس المحلية في المحافظات وقد تحولت إلى مضايف، لقد إنتقل رجالات القبيلة من مضايف العشيرة، إلى مضيف إبنها الذي أصبح رئيس مجلس محافظة، أو مجلس بلدي، أو محافظ، أو قائمقام، أو رئيس دائرة، والذي أصبح مضيفه دائرته، أو شيء ملحق بها.
عشر سنوات مضت، وأغلبية الشركات والمؤسسات التابعة لوزارة الصناعة، وباقي الوزارات لا تعمل، أو تعمل جزئياً، وإن عشرات آلاف العمال، وربما مئات آلاف العمال والموظفين يتقاضون رواتبهم من دون أن ينتجوا شيئاً، أو على الأقل لا ينتجون ما يتوازى مع ما يتقاضونه من رواتب.
لو سألنا كم هي واردات سكك الحديد العراقية، فإننا سنتفاجأ بكون وارداتها لا تسد نفقات الجزء الأقل من القليل من رواتب ومخصصات موظفيها والعاملين فيها، ونفس الشيء يمكن قوله بالنسبة للعديد من المؤسسات الخدمية الأخرى، كالنقل الجوي والبري بكل أشكاله، وهي مؤسسات إن لم تكن مربحة، فإنها في أسوء الأحوال تستطيع تسديد نفاقاتها، ولكنها عندنا عاطلة معطلة، وخاسرة على طول الخط ، وبدل أن تسهم في تعزيز الميزانية فإنها تعتاش عليها، مُتسببة في إرتفاع النفاقات التشغيلية للموازنة التي لو إستمر الحال على ما هو عليه، فإن واردات النفط ستعجز بعد بضعة سنوات عن تغطيتها، مما سيجعل البلد النفطي الريعي بلداً مفلساً بلا شك.
هذه المؤسسات والمنشآت لا تحتاج إلا إلى القليل نسبياً من الأموال لتصبح مؤسسات منتجه، تغطي إحتياجاتها في الأقل، ومن ثم ترفد ميزانية الدولة فيما بعد بمصادر مستدامة للأموال، إن أديرت بعقلانية وعلمية وإحترافية ونزاهة .
لماذا تتجاهل القوى السياسية، بكتلها وتنظيماتها وأحزابها هذه المسألة بالغة الأهمية، أهو جهل أم تجاهل، أم إسهام في مخطط وضع منذ الإحتلال، وصولاً لا لبيع هذه المنشآت فقط، بل لبيع البلد كله، فما يصدق على هذه المنشآت والمؤسسات، يصدق بنفس القدر على ثروة الشعب الأساسية، التي هي النفط والغاز، وصولاً إلى خصخصة الأمن والحماية الشخصية، وربما خصخصة القوات المسلحة ، أو جزء منها باديء ذي بدء.
لنكن حذرين مما سيقوله أو يقترحه بعض ممن يسمون بالخبراء، عراقيين أو أجانب، فهم ينتظرون الظروف المناسبة لإعلان عدم جدوى بقاء هذه المؤسسات والمنشآت تحت إدارة الدولة، لإنها غير مربحة، وبالتالي فمن الأفضل تخصيصها، والخصصة التي حدثت في العراق، أو في غيره من البلدان المبتلية بالفوضى، ما هي في حقيقة الأمر سوى سرقة علنية للقطاع العام، حيث بيعت غالباً بأبخس الأثمان، والأعجب أن هذه الأموال التي هي أقل بكثير من القيمة الحقيقية لهذه المؤسسات، مسروقة من الشعب، عبر النصب والإحتيال والفساد.
طيلة سنوات ما بعد الإحتلال أغرقت البلاد بكل نفايات العالم، حيث نشطت جحافل من التجارالذين أصبح الوطن بقرة حلوب بالنسبة لهم. لقد إستوردوا حتى مياه الشفة من دول تشكو الظمأ، وأخرى لا نهر فيها. لقد كانت برجوازيتننا العراقية برجوازية كومبرادورية فقط، أو وسطاء ( قومسيونجية) ، أو وكلاء لشركات أجنبية، جل نشاطهم تمهيد الأرض أمام إستغلال وإحتكار الشركات العالمية الكبرى، أو تلك التي تريد أن تكبر من شركات أقليمية، خليجية أم عربية، إيرانية أم تركية، ولقد إندفعت الدولة بكل ثقلها في هذا الإتجاه، بحيث أوكلت كل شيء إلى شركات أجنبية حقيقة أو بالإسم ، حتى وصل بها الأمر أن توكل مهمة رفع النفايات ، وكنس الشوارع إلى شركات أجنبية، تركية وغيرها، بإعتبار هذه الأمور تمثل تكنولوجيا متطورة لا يقدر عليها العراقي، علماً بأن أمانة العاصمة، والبلديات في كل أنحاء الوطن، كانت تقوم بهذه المهمة بكل إقتدار، وكانت بغدادنا، ومدننا كافة، أجمل وأنظف وأبهى.
حتى في البدايات تشكلت لدينا برجوازية صناعية، وهي بالضرورة وطنية، ولنتذكر فتاح باشا، وألبان السماوي، الحليب المبتسر والمطعم، وعصير الجميلي، وأحذية رافد ودجلة، والمئات من الصناعات الغذائية والتحويلية، ومختلف أصناف الصناعات، بدءاً من صوبة علاء الدين، إلى الثلاجلات والغسالات والطباخات، والسيارات، وإحتياجاتها، وإبداعات الحرفيين في كل المجالات، والصناعات النسيجية بأنواعها، ولنتساءل أين نحن الآن مما كنا عليه، ولماذا؟
لقد أصبح في العراق مئات المليارديرات، وآلاف الملتي مليونيرات، لكننا لم نجد واحداً من حديثي النعمة هؤلاء قد تبرع ببناء مستشفى، مثلما فعل مرجان في العهد الملكي عندما شيّد مستشفى ضخم في الحلة، ليس هذا فقط ، وإنما لم نسمع بثري أقام مصنعاً، أو حتى بنى عمارة، أو شيد مرفقاً حيوياً ، مثلما فعل الدامرجي في حينه، بل أنهم ، وأكاد أقول كلهم ، يشترون العقارات في الخارج ، ويشيدون ويعمرون أضخم الفنادق والعمارات الفارهة بشرط أن تكون خارج حدود العراق، ولا بئس أن يكون أقل القليل منها ضمن حدود كردستان ، وحتى أولئك الذين قيّض لهم ، بسبب أوضاع خاصة أن يغرفوا من خيرات العراق، فإنهم يحولون ما يحصلون عليه إلى عملة صعبة تودع في بنوك الخارج، وإذا أرادوا أن يستثمروا شيئاً في الداخل، فهو لا يتجاوز تأسيس جريدة أو محطة تلفيزيون تختصان بالتطبيل والتزمير لهم، والحديث عن مناقبهم، أو شن الهجوم على أعدائهم .
لا يمكن لعراقنا، وكذا لأي بلد شمله الدمار أن ينهض من دون طبقة وسطى، وبرجوازية صناعية ( وطنية ) ، أليس من المناسب أن نسأل من ذا الذي عمل ويعمل على تدمير الطبقة الوسطى، والحيلولة دون ظهور برجوازية وطنية، صناعية تحديداً ؟
متى يغادرسياسيو الصدفة، اللغو، والتهريج، ويضعوا الخطط الكفيلة بإنتشال العراق من هذا القاع المظلم؟
هل أصبح قدر العراق أن يعيش الكارثة التي تتولد من كارثة وتوّلد كارثة ؟
No comments:
Post a Comment