إنقلاب ملتبس وغامض وحافل بالتناقضات
صباح علي الشاهر
إنقلاب الخامس عشر من تموز الفاشل في تركيا، هو من الإنقلابات النادرة التي يرافقها هذا الكم من الإلتباس والغموض والتناقضات.
أهم التناقضات أن من حزن لفشل الإنقلاب مصلحته في فشله، ومن فرح لفشله مصلحته في أن لا يفشل، هذا على نطاق الأفراد، أما الحكومات فكانت تعرف ما تريد، وما حسب إضطراباً في مواقف بعضها إنما هو في حقيقته تعبير عن خيبة الأمل .
كيف يمكن لبلد عضو في النيتو، وأرضه مشاعة كقواعد لهذا الحلف، أن يجري فيه إنقلاب عسكري ، ثم ينجح هذا الإنقلاب ؟
الإستنتاج الذي سنخلص إليه في هذه الحالة، أي في حالة نجاح الإنقلاب، لا يتعدى أمران، إما أن يكون الحلف قد أصبح لا يهش ولا ينش، وهو لم يصبح كذلك، إذ ما زال بإمكانه أن يهش وينش، ويغيّر المعادلات، وبالأخص بالنسبة للمنخرطين فيه، ثم أن جراب القيمين عليه لا يمكن أن يخلوا من حلول أخرى تغيّر الوضع في تركيا، إذا كانت قيادته غير مرغوب فيها، وعن طرق كثيرة، ليس من بينها الإنقلاب، أو أن يكون متساهلاً مع العملية الإنقلابية أصلاً، بمعنى أنه عارف بما سيحصل، ويغض الطرف عنه لأسباب عدة، من جملتها إخافة أردوغان غير المنسجم، وغير المريح تماماً، خصوصاً بعد ما قيل عن تحولات في السياسة الخارجية، والتحالفات، بعد التغيير الوزاري الأخير، أي أن المطلوب " إنقلاب فاشل " يُعيد الحصان الجامح إلى الحضيرة.
لكن الحصان الجامح لم يعد للحضيرة على ما يبدو ظاهرياً، وإن كانت الأيام القادمة ستبين لنا إلى أي مدى .
الثعلب أردوغان إستثمر هذه الحالة، فذهب بعيداً، فهو بعد أن تركه النيتو لوحده بمواجهة روسيا، وتخلى عنه الأمريكان لصالح الكرد، وحاصرته السعودية والإمارات في أكثر من من موقع، خصوصاً في مناطق التماس الأكثر إلتهاباً، سيندفع في تصفية نفوذ كل هذه القوى داخل تركيا، وإذا ما أثبتت الأيام ترجيح إحتمالات إسهام بعض القوى الإقليمية في الإنقلاب، وتغاضي أمريكا والنيتو، فإن أردوغان يمكن أن يذهب أبعد مما يتصور البعض، وسينتقم لا من الإنقلابيين فقط، وإنما من جميع المختلفين، بحيث ينصب نفسه سيد تركيا، ويصبح شعار المرحلة القادمة " أو ردوغان تركيا وتركيا أوردوغان " .
أكثر الأقوال خفة، ما ردده البعض من أن الشعب المتحضر في تركيا هو الذي أفشل الإنقلاب، وأن نداء أردوغان عبر الموبايل هو الذي حرك الشعب، في حين أن الذين تحركوا هم الحزبيون، والسلفيون المدربون، وبعض اللاجئين، وربما بعض المحسوبين على الجهاديين، أما الشعب فقد إلتزم الحياد، وإلا كيف يمكن أن يكون الشعب المتحضر، هو هذا الشعب الذي يجز عنق الجندي الذي ترك سلاحه، ولم يستخدمه، ويعريه، ويضربه بالكرباج، ويذله هذا الإذلال المقيت، والجندي أولا وآخراً جندي تركي، وشرف وكرامة الجيش التركي من شرف وكرامة تركيا، ما عُمل مع الجنود لا يعملة وطني، فقط ذاك الذي يحسب الوطنية كفراً، والذي يؤمن بما فوق الوطنية، الأخوة الإسلامية مثلاً، لذا فإن تدمير رموز الوطنية، الجيش والقضاء، هو هدف لمثل هؤلاء، ليس في تركيا فقط، وإنما في أي مكان يتوصلون إليه، العراق، ليبيا، سوريا، واليمن، وأي مكان آخر .
أردوغان الآن في إمتحان عسير، فإما أن ينساق خلف هؤلاء، وإما أن يتدارك أمره، ويقر كديمقراطي، أن الديمقراطية تعني وجود الآخر المختلف، ليس وجوده على قيد الحياة فقط ، وإنما وجوده الفعال، ونشاطه في الحياة السياسية .
لا ندري ماذا سيكون موقف الإنقلابيين لو أنهم إنتصروا، ربما سيقصون المختلفين معهم ، وربما سيقيمون لهم محاكم صورية، لكننا وكما رأينا بأم أعيننا فإن الجنود لم يستعملوا أسلحتهم ضد المتظاهرين رغم أن المتظاهرين لم يكونوا عزلاً، بل رأينا العكس رأينا الملتحين الصالحين ينزلون ضرباً على الجنود ويسحلونهم عراة في الشوارع .
يقيناً أن هؤلاء ليسوا عشاقاً للحرية، ولا أنصاراً للديمقراطية، وإنما هؤلاء إنتقاميون إقصائيون، على أردوغان إن أراد فعلاً أن يبني الديمقراطية ويخدم تركيا، أن ينتبه بأن طريق العنف ليس له سوى "مسار واحد"، وطال الزمن أم قصر فإنه سيحرق صاحبه، أما إذا أراد أردوغان أن يكون كما يُشاع عنه خليفة للمسلمين، فعليه أن يعرف أن ألف ألف "بغدادي" سينط له على هذا الدرب.
يبدأ دمار تركيا من تقسيمها إلى فسطاطين، تركيا للأتراك كلهم ، للملتحي، ومن يرتاد الخمارات، للأخت المحجبة، ولتلك التي تنط على شواطيء الأبيض المتوسط بالبكيني.
يمكن لأردوغان أن يتجاوز أتاتورك، لكن ليس بمكنته أن يلغيه، ولا يلغي النفوذ العلماني في بلد كل المظاهر فيه علمانية، بأستثناء منائر الجوامع . ربما يتمكن من الحد من خطر ما أسماه "الموازي " وبالتأكيد هو هنا يقصد منافسه وعدوه العتيد " فتح الله غولن" ، ومن يطمح أو يفكر بمنافسته .
أردوغان لن يستدير 180 درجة، لن يقوى على الوقوف بوجه أمريكا حتى لو حمت غريمه " فتح الله غولن"، ولن يخرج من النيتو، لكنه سيوطد علاقته بروسيا، ليس نكاية بأمريكا فقط، وإنما لأن روسيا قوة ناهضة تغريه بالسيل الجنوبي، وفتح أسواقها له، ودفع ملايين السواح لمنتجعاته التي كادت تكون خاوية أثناء الأزمة ، وستتوطد العلاقات مع إيران أكثر على حساب العلاقات مع السعودية ودول الخليج بإستثناء قطر، أما الموقف من سوريا فله حديث آخر .
No comments:
Post a Comment