لماذا لا نُغَيِّرُ الإجابة ؟
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
الأهرام 30 يوليو 2016
عندما ذهب الدكتور جلال أمين ليدرس في جامعة لندن لاحظ أن أسئلة امتحان مادة الاقتصاد تكاد لا تتغير من عامٍ إلى عام .. ذهب إلى أستاذة المادة ليلفت نظرها إلى ما اعتقد أنه خطأٌ (أو تسريب)، فقالت له العالِمة الكبيرة: نحن في الاقتصاد لا نُغَيِّر الأسئلة ولكننا نُغَيِّرُ الإجابات.
أما في مصر المحروسة، فمنذ منتصف السبعينيات وعلى امتداد أربعين عاماً .. سقطت أنظمةٌ وتَغَيَّر رؤساء وثار شعب .. وسقطت في عالمنا دولٌ ونهضت أخرى وتغيرت نظريات .. لكن إجابة سؤال القطاع العام ظلَّت ثابتةً في مصر لا تتغير: البيع .. ولا شيء غير البيع.
لسؤال القطاع العام في العالم كله إجاباتٌ متعددة ومُجَرَّبَة لكن المسيطرين على القرار الاقتصادى في مصر على مدى الأعوام الأربعين يصرون على إجابةٍ واحدة لا تتغير: الخصخصة .. وحتى سؤال الخصخصة له إجاباتٌ متعددةٌ في العالم كله إلا في مصر .. إصرارٌ مريبٌ على إجابة واحدةٍ لا تتغير: البيع .. نفس الإجابة وإن اختلف المُسَمَّى كنوعٍ من التذاكى .. تَراجع أساتذة الرأسمالية المتوحشة في العالم عن نظرياتهم بعد ثبوت فشلها .. لكن تلاميذهم عندنا لا يتراجعون ولا يتغيرون وإن تغيرت الأسماء.
أربعون عاماً من التمرغ تحت أقدام طبيبٍ لم يصف العلاج لمريضٍ إلا وزاده مرضاً .. كل دولةٍ امتدت لها يد صندوق النقد لم تُخَلِّف إلا خراباً .. انهيار الجهاز المصرفى ( أيسلندا) .. دفع الدولة لإعلان الإفلاس (الأرجنتين) .. الاقتراب من حافة المجاعة والتدخل السافر فى شؤون البلاد (اليونان) .. بيع الأصول نظير مزيدٍ من الاقتراض (قبرص) .. أربعون عاماً وكهنة وأبناء الصندوق والبنك يقودون المسيرة الاقتصادية في مصر ويُلِّحُ إعلامهم على أن روشتة الخراب هي برنامج إصلاح لمجرد تسميتها كذلك .. أربعون عاماً تسرَّب بعضهم خلالها إلى المقاعد الوزارية وبدوا في ممارساتهم أقرب للوزراء الأجانب في حكومة الخديوى إسماعيل ولكن بجوازات سفر مصرية .. ومنهم من كوفئ على إجابته الفاشلة بالتعيين في مؤسسته الدولية الأم بعد أدائه للمهمة .. رئيس أسبق للوزراء في التسعينات كان يجرى اجتماعات الإعداد لوفد التفاوض مع الصندوق في غيبة وزير الاقتصاد لِشَكِّه في ولائه للصندوق بأكثر من ولائه لمصر!.
إجابةٌ واحدة مستمرةٌ، ترتب عليها أزمةٌ مستمرة ومتزايدة طوال الأربعين عاماً، تخللتها فتراتٌ مصطنعة أقرب إلى قبلة الحياة (أو صحوة الموت) نتيجة بيوعاتٍ كبيرةٍ للأصول العامة أو إسقاط ديونٍ خارجية ثمناً لموقفٍ سياسى في حرب الخليج أو هباتٍ وقروضٍ من أشقاء دعماً لنا في موقفٍ عصيبٍ .. وكلها كما هو واضحٌ حلولٌ مؤقتةٌ لا تُعَبِّر عن صحة الإجابة وإنما عن فعالية (البرشام) .. أربعون عاماً والإجابةُ واحدة مع أن النتيجة لا تتغير: فشلٌ يُوَّلِدُ فشلاً .. وعجزٌ يُفاقم عجزاً .. وفسادٌ يتراقص على أنغام البيع .. أعجبُ من قومٍ يتيهون في الأرض أربعين سنة ولا يُغيرون البوصلة ولا الأدِلَّة وقصاصى الأثر.
لماذا لا نُجرِّب إجابةً سبق تجريبها ونجحت .. إجابة الإنتاج بديلاً عن إجابة البيع .. لولا إجابة الإنتاج قبل أربعين سنة لما وجد سماسرة البيع ما ينصحوننا ببيعه الآن .. والإنتاج ليس مجرد كلمة وإنما يعنى رجالاً غير الرجال وسياساتٍ غير السياسات .. .يعنى رجالاً من أصحاب الرسالات من طراز عزيز صدقى وصدقى سليمان والدكتور مهندس يوسف إسماعيل الذى قاد ملحمة إنشاء مجمع مصر للألومنيوم فى منطقةٍ قاحلةٍ تسمى صحراء الهوّ بنجع حمادى ورحل عن دنيانا دون أن يتملّك قصراً فى أسبانيا ولا حتى فى الساحل الشمالى، فقد كانت مصر فى حالة حربٍ لا موسم تصييف .. كيف نعالج آثار أمانة السياسات برجال أمانة السياسات؟ .. مصر بحاجةٍ إلى رجال صناعةٍ بأكثر من احتياجها لرجال بنوك وسماسرة بورصة.
الفطرة الاقتصادية السليمة تقول أهلاً بالقطاع الخاص المصرى والأجنبى وتذليل المعوقات من طريقه ليبنى مصانع جديدة ويُشَغِّل عمالةً جديدة .. لكن نفس الفطرة الاقتصادية السليمة تقول إن جذب الاستثمارات وبناء المصانع الجديدة يستغرق وقتاً، وعندنا قطاعٌ عامٌ موجودٌ فعلاً فلماذا لا نُقويه ونحل مشاكله ونستخدمه ضمن أدوات الدولة لضبط الأسعار وكبْح جماح المحتكرين وتخفيض العجز والبطالة وتقوية العملة الوطنية بدلاً من بيعه.
إن بيع الأصول العامة لا يُعَبِّرُ عن فكرٍ اقتصادىٍ بقدر ما يُعَبِّرُ عن إفلاسِ تاجر .. والبيع لا يتطلب عبقريةً اقتصاديةً نادرة وإنما تاجر مزادات .. مصر فى حالة حربٍ .. والحرب يخوضها المقاتلون .. لا السماسرة.
No comments:
Post a Comment