Friday 15 July 2016

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: عن مضار الكلام الساكت

عن مَضَّارِ الكلام الساكت
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
الأهرام 16 يوليو 2016
الكلام الساكت هو التعبير الذى أبدعه الأشقاء السودانيون فى الإشارة لذلك النوع من الكلام الذى لا معنى له .. تتحرك به الشفاه والألسنة لكنها فى الحقيقة لا تقول شيئاً .. وتخط به الأقلامُ آلاف المقالات الفارغة التى تملأ الصُحُف ولا تقرأُ فيها شيئاً وكأنها كُتِبَت بالحبر السرى .. وتثرثر به ألسنة مذيعى البرامج وضيوفهم وتعلو أصواتهم على عشرات الفضائيات فى اللا موضوع وكأنك أمام مذيعٍ واحدٍ مستنسخ له أشكالٌ متعددةٌ وصوتٌ واحدٌ هو صوت السكون .. انظر إلى الأبيات التالية:
الأرضُ أرضٌ والسماءُ سماءُ …. والماءُ ماءٌ والهواءُ هـواءُ
والبحرُ بحرٌ والجبالُ رواسخٌ …. والنورُ نورٌ والظلامُ عَـمَاءُ
والسهلُ سهلٌ والعَنَاءُ عنـاءُ …. والصُبحُ صُبحٌ والمساءُ مساءُ
هل يمكن أن نُسَمِّى هذا الذى قاله ابن سودون شِعراً حتى لو التزم بقواعد العَرُوض؟ هو كلامٌ مرصوصٌ موزونٌ ومُقَفَّى لكنه بلا نبضٍ ولا يُضيف شيئاً .. وهو بالقطع ليس شعراً وإنما هو (كلامٌ ساكت) ..
لكن مَضَّار الكلام الساكت تتجاوز الأفرادَ إلى الأنظمة والدول .. يقول الكاتب الراحل مصطفى الحسينى فى مقالٍ له سنة 2000 (يتهدد المجتمع بالموت عندما يصبح الكلام الساكت لغة المثقفين .. عندما يستغرق المثقفون في التبرير والتبخير.. عندما يستسلمون لتلقي التوجيهات .. عندما يقبلون الالتزام "بالخط" .. يتهدد الموت المجتمع عندما يكف المثقفون عن الاعتراض .. الاعتراض هو شرارة الجدل).
رَحِمَ اللهُ مصطفى الحسينى الذى أثبتت التجارب صحة ما قاله قبل ستة عشر عاماً .. لذلك أتعجب من جُرأة أو وقاحة ما يدَّعيه الإعلامُ المباركى العائدُ والسائدُ بأمواله المشبوهة .. فبعد أن نجح بطريقة (الزنِّ على الودان) فى تشويه قِيَمٍ إنسانيةٍ بديهيةٍ بعد وَصْمِ المنادين بها بالعمالة والخيانة والجيل الرابع والطابور الخامس وصربيا والنبضة الكهرومغناطيسية ومجلس إدارة العالم إلى آخر هذه الترهات، حتى صارت حقوق الإنسان عند العامة مُرادفاً للاسترزاق، وصار احترامُ الدستور نوعاً من السذاجة، استدار ليركّز سهامه على حرية التعبير مِنحة الله للإنسان، فما يكاد أحدٌ ينطق بها إلا ويُواجَه بالصرخة الأكلاشيه (عاوزينا نسقط زى العراق وسوريا وليبيا؟) وهى عبارةٌ تتجاوز الكذب البواح إلى امتهان عقول مستمعيها .. وهل كان فى هذه الدول الحبيبة أى مساحةٍ من حرية التعبير؟ .. هذه الدول بالذات لم تُسقطها الديمقراطية وإنما أسقطها الكلامُ الساكتُ .. الكلامُ الساكتُ هو البديلُ الديكتاتورى لحرية التعبير.
ليس مُصادفةً أن كل هذه الدول كانت نماذج للكلام الساكت والصوت الواحد .. كان فى عراق صَدَّام عشرات الصُحُف المزدحمة بالمقالات التى لا تقول شيئاً إلا تمجيد القائد المعصوم من الخطأ .. وصار بلدُ الشِعر خلواً من الشعراء رغم عشرات المهرجانات الباذخة التى لم يكن يُسمح فيها إلا بالشعر الساكت .. لذلك كان لافتاً أننا لم نسمع طوال هذا العهد الأبكم عن شاعرٍ عراقىٍ حقيقىٍ إلا فى منفى أو قبر .. فالشعرُ حرية .. كان للرجل إنجازاتٌ لعل أبرزها إقامة قاعدةٍ صناعيةٍ حقيقية وتصنيع عسكرىٍ متقدم لَامَس حافةَ السلاح النووى .. ولكن كل ذلك كَنَسَه الكلامُ الساكت .. لأن الصمت يُفاقم الأخطاء .. قُل مثل ذلك على كل من سقط من دول .. جمع بينها نفس الداء .. اعتبارُ كلِ نقدٍ خيانة وكل صوتٍ مختلفٍ عمالة .. هذه دولٌ لم تُسقطها حرية التعبير وإنما أسقطها قَطعُ الألسنة وإذابة أيدى الكُتاب فى الحامض وتهشيم أنامل رسامى الكاريكاتير .. كل الدول عُرضةٌ للتآمر بلا شك، ولكن الدول التى لا تُحَصِّن نفسها بالديمقراطية تُسّهِّلُ على أعدائها مهمة تدميرها.
أتحدى أن يدلنا أحدٌ على دولةٍ واحدةٍ فى العالم أسقطتها أو عَطَلَّت نموها الديمقراطية وحرية الرأى .. لكن ما أكثر الدول التي هَوَى بها للقاع الكلامُ الساكتُ وصُنَّاعُ الطغاة .. فاللهم احفظ مصر ولا تُسكِت للمصريين صوتاً ولا قلماً ولا ضميراً.

No comments:

Post a Comment