الأتراك الباحثون عن الأعداء
عبد الستار قاسم
26/تشرسن2/2015
رفع الرئيس التركي منذ سنوات ووزير خارجيته آنذاك أحمد أوغلو شعار صفر أعداء، وجرت محاولات عديدة مع الجيران لحل كل المشاكل العالقة وحسنت تركيا علاقاتها مع دول عديدة في سعيها لتصفير الأعداء. لكن هذا الشعار أخذ يختفي منذ بداية الأزمة في سوريا، وبدأت تركيا بإقامة التحالفات والتقرب من دول أو أنظمة سياسية على حساب دول وأنظمة سياسية أخرى. ربما فكرت تركيا أن الأزمة السورية ستنتهي بين ليلة وضحاها، وستعود المياه إلى مجاريها كما كان الوضع سابقا. توقعات تركيا لم تحصل، وثبت لها أن للنظام السوري من يدعمه كما للمعارضة السورية من يدعمها، ولم تتمخض الأزمة حتى الآن عن شيء سوى تدمير سوريا وتهجير الشعب السوري.
كسبت تركيا عداء العديد من العرب الذين يؤيدون النظام السوري، وبدأ هؤلاء يستعيدون سياسات السلاطين الأتراك في الوطن العربي، وساهموا في حملات تشويه واسعة ضد تركيا. الأصل أن يعمل العرب كما الأتراك على تحسين علاقات الجيرة والتعاون لخير العرب والأتراك معا، لكن التمنيات لا تنبثق إلى واقع دائما. ثم استدارت تركيا في عدائها للنظام السوري لتكسب عداء إيران، أو على الأقل اهتزاز ثقة إيران بها. هذا ناهيك عن موقف حزب الله ومن يسانده من اللبنانيين من تركيا. إيران دولة جارة وقوية، وهي معنية بتحسين العلاقات مع تركيا، لكن السياسة التركية تجاه سوريا لم تتميز بالحذر، وكأنها كانت تبحث عن عدو إيراني يتوجس خيفة ويقيم علاقات مع تركيا من منطلق الشك وليس الثقة. ولم تتردد تركيا أيضا في كسب عدم ثقة العراق التي عانت كثيرا من انتهاك تركيا لسيادتها. طالما قام الطيران التركي باانتهاك المجال الجوي العراقي، وقام جنود أتراك بتجاوز الحدود الدولية والدخول إلى العراق لملاحقة المقاتلين الكرد. ولم تتوقف تركيا عن استقبال النفط المهرب من العراق وسوريا، أو على الأقل السماح له بالعبور ليصل إلى تجار الأسواق السوداء.
وأخيرا قامت تركيا بعمل بعيد عن الذكاء وهو إسقاط الطائرة الروسية. فلماذا فعلت ذلك؟ إذا استعرضنا الوضع فإنه من الممكن أن تكون الجدلية كالتالي: تركيا لن تستطيع منع روسيا من تقديم الدعم الجوي للجيش السوري أو مهاجمة قوات المعارضة السورية. روسيا تملك من الإمكالنات العسكرية ما يكفي لمسح تركيا عن الوجود عدة مرات، ولا أظن أن الروس سيستجيبون لرغبة تركيا بوقف القصف الجوي أو إدخال المزيد من الأسلحة إلى الأراضي السورية. وإذا كانت تركيا تظن أنها ستتمكن من إقامة منطقة عسكرية عازلة في الشمال السوري فإن الرد الروسي كان حازما وقاطعا وهو نشر بطاريا صواريخ أس 400 شمال اللاذقية لإسقاط أي هدف جوي يحلق في الشمال السوري ويهدد روسيا. صحيح أن الطائرات الحربية المتوفرة لدى تركيا متفوقة على الطائرات الحربية الروسية، لكن الدفاع الجوي الروسي هو الأقوى في العالم والأكثر دقة.
ربما تركيا أرادت أن تقول للروس إنها لا تسمح بالاعتداء على التركمان الذين ينحدرون من أصول تركية، لكن هذا القول يسقط أمام القانون الدولي لأن التركمان الموجودون في سوريا مواطنون سوريون وليسوا أتراكا. المواطنة ليست مرتبطة بالعرق، وإنما بالجنسية. وإذا كان لتركيا أن تدعي بهذا فإن سوريا ستقيم ذات الادعاء لأن أغلب سكان لواء الاسكندرون عرب سوريون. وإذا كانت تركيا تدعي ملكية جبل التركمان فالعرب يمكن أن يدعوا ملكية لواء الاسكندرون ومنطقة ديار بكر جنوب الأناضول.
تعبطت تركيا ما هو أكبر من حجمها عندما اعتدت على الطائرة الروسية حتى لو كانت الطائرة الروسية قد انتهكت المجال الجوي التركي. روسيا لا تقيم علاقات عدائية مع تركيا، وهي مهتمة دائما بتحسين علاقاتها السياسية والاقتصادية مع تركيا، وفي حملتها الأخيرة ضد داعش في سوريا لم تحاول روسيا استعداء تركيا أو تحميلها مسؤولية دعم داعش. حتى في القمة الاقتصادية، لمحت روسيا إلى الدول الداعمة للإرهاب لكنها لم تتهم دولة بالإسم. كان هناك وسائل متعددة أمام تركيا لتجنب الصدام الجوي مثل تحليق الطائرات التركية بالقرب من الطائرة الروسية، أو الاتصال عبر الخطوط الساخنة فورا، الخ. لو كانت الطائرات الروسية عدائية لتركيا لكان خط الطيران مختلفا تماما ولتوغلت الطائرات الروسية في العمق التركي. المعنى أن مسافة الاختراق الروسي إن حصل لم يكن عميقا واقتصر على حيز الحدود دون مظاهر عداية.
يبدو أن الرئيس التركي يعاني من مشكلة اسمها عظمة تركيا، وهو يتصرف وكأنه رئيس دولة عظمى. تركيا كبيرة إقليميا، وهي تشق طريقها إلى الأمام بنجاح وبصورة علمية وخطى ثابتة، لكنها ليست دولة عظمى، وليس مطلوبا منها أن تكون أكبر من حجمها. وبدل هذا التعجرف الذي يبديه الرئيس التركي الأفضل له ولتركيا أن يعود إلى سياسة تركيا نحو التخلص من الأعداء، ونحو البحث عن حل للمشكلة الكردية. وبالتأكيد يعي الرئيس التركي أن الورقة الكردية يمكن أن تستغلها بعض الدول لصنع المتاعب لتركيا.
ومن يحرص على مجاله الجوي يجب أن يحرص على المجالات الجوية للآخرين وإلا فإنه يغامر بحروب انتقامية إن لم يكن اليوم فغدا. مطلوب من تركيا أن تحترم السيادة العراقية والسيادة السورية، وأن تمتنع عن لبس ثوب ليس على مقاسها.
لم تنجح تركيا في التخلص من العداوات، وهي الآن محاطة بالأعداء من كل جانب. جيرانها لم يعودوا جيران الرضا وإنما جيران الشك والتخوف والحذر. ربما يكون في الإخفاق حافز لإعادة تقييم السياسات وتصحيح المسارات.
No comments:
Post a Comment