Wednesday, 4 September 2019

{الفكر القومي العربي} رحل المغني ، أما الأغنية فما زالت باقية – جمال عبد الناصر في أوراق المخابرات الروسية – ترجمة :د. أحمد الخميسي – – مجلة الوعي العربي

في فترة عملي الثانية بمصر التي بدأت في 8 سبتمبر 1970 لم تتح لي الفرصة لألتقي بعبد الناصر حيا ، فقد توفي في 28 سبتمبر من نفس السنة . وفي الأول من أكتوبر مضت جنازته التي تجمعت خلالها كل مصر تقريبا . وقد يكون من المناسب هنا استرجاع صورة جنازة السادات التي مضى فيها خلف نعش السادات مجموعة من الحراس وعدد لا يتجاوز الخمسمائة فرد من المشيعين ! وحتى هواة الفرجة من المصريين لم يمضوا خلف جنازة السادات !
حينما مضى موكب المشيعين لعبد الناصر من ميدان التحرير في اتجاه مصر الجديدة كان المصريون الذين تدفقوا لتوديع عبد الناصر في طريقه الأخير لم يسدوا فقط كل متر من الشوارع بأجسادهم والشرفات وأسقف البيوت ، بل وتسلق بعضهم أعمدة الكهرباء ، وللقارئ أن يصدق أن البعض كان يجلس فوق سلوك الكهرباء مباشرة ! ولا يعرف أحد حتى الآن بالدقة عدد المشيعين الذين ماتوا من شدة الضغط والازدحام وتحت الأقدام ، ولكن من المؤكد أن عددهم كان كبيرا ! وقد بدأ التزاحم والضغط الشعبي من هناك حيث اجتمع قادة مصر وضيوفها الأجانب الكبار لتشييع ناصر .
وكان الجو حارا وخانقا وباعثا على القلق . وكانت جموع الناس تتدافع نحو المكان الذي أسجي فيه جثمان ناصر في نعش مغطى بعلم مصر ، وبين حين وآخر كان البعض يغشى عليه ، في البداية تهاوى على صبري أقرب أنصار الزعيم الراحل ، ثم قرر أنور السادات بدوره أن يغشى عليه لكي لا يجرؤ أحد على اتهامه بأنه عديم الإحساس !
تدافع أيضا من شدة الزحام رجال الحكم من النخبة المصرية والدبلوماسيون وأعضاء الوفود الأجنبية ، وحينما تحركت العربة بالنعش تجرها ستة خيول ، اندفعت نحوها الجموع في بلبلة ولغط . وحوصر قسم من حراسة الكسي كوسيجين في إحدى مناطق المدينة فلم يستطع أن يصل إلي رئيس الوزراء السوفيتي ، وكان علينا نحن العاملين بالسفارة وبعض الحراس التابعين لنا أن نحيط كوسيجين بأجسادنا حماية له من طوفان البشر . وفيما بعد لاح خطر أن تهرس الجموع رئيسة وزراء سيلون أدخلناها إلي حلقتنا ، ثم طار فوق رؤوس المشيعين تقريبا جسم هيلاسلاسي آخر إمبراطور لأثيوبيا دون أن يدري أحد كيف تم ذلك !
وقبل أن تبدأ عملية التدافع تلك كنا قد لحقنا بالاقتراب من نعش الزعيم الكبير لنودعه بعد أن أغلق إلي الأبد عينيه المرهقتين والحزينتين .

No comments:

Post a Comment