Monday, 16 September 2019

{الفكر القومي العربي} القيادة الزئبقية

القيادة الزئبقية
------------
شهد عام 2011 حدثين حاكمين لمسارات الأزمة التى تعانى منها الدولة المصرية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وانتهاء تبعية مصر لدولة الخلافة التى استمرت ثلاثة عشر قرناً تخللتها فترات قوة وتقدم وازدهار كما فترات ضعف وتراجع واضمحلال ...

... الحدث الأول هو ثورة الشباب، ومن ورائه الشعب المصرى، على ما صار ينخر فى عظام الدولة المصرية من ركود سياسى، وقمع أمنى، وفساد إدارى، وتراجع فى مستويات معيشة السواد الأعظم من المصريين رغم تحقيق معدلات نمو مرتفعة على المستوى الكلى ...

... أما الحدث الثانى فهو تسلم المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسؤولية إدارة شؤون البلاد، بعد تخلى الرئيس مبارك عن الحكم، بما فى ذلك مسؤولية وضع الأطر التنفيذية لتحقيق أهداف الثورة فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وليس من بين هذه الأهداف ما يمكن اعتباره خطأً يستحق التقريع أو التحذير من تكراره، ولم يكن تنفيذها بمنتهى "الصدق" و"الشرف" و"الأمانة" ليؤدى بأى حال من الأحوال لإضعاف الدولة داخلياً أو لإضعاف قدرتها على التعامل الكفء مع ما تواجهه من تحديات خارجية !

هما إذن حدثان لا حدث واحد ما تحكما فى مسارات الأزمة الوجودية التى تعانى منها الدولة المصرية منذ عام 2011، وذلك على عكس ما تقول به القيادة السياسية الزئبقية التى تسعى للخروج من أزمتها بإلحاق تدهور أحوال الدولة المصرية سببياً بأحد الحدثين، وكأنه الحدث الطارئ الوحيد دون الحدث الآخر الذى كان طارئاً بدوره؛ فكلاهما كان تداخلاً مع المسارات الدستورية من خارجها، وكلاهما اكتسب شرعيته بحكم الأمر الواقع لا بحكم التسلسل المعتاد لمنطق الحياة السياسية المستقرة !

لا أحد ينكر الأخطاء الكارثية التى وقع فيها أصحاب النوايا الحسنة من المراهقين الثوريين، ولا ما ارتكبته جماعات المصالح السياسية والأيديولوجية من خطايا التداخل الانتهازى مع أحداث الثورة لتحويل مسارها إلى وجهة أخرى تماماً غير وجهتها التى عبر عنها شباب الثورة يوم الخامس والعشرين من يناير 2011 ... بيد أن أحداً لا ينكر أيضاً أن مسؤولية حماية الثورة، وترشيد مساراتها، وتحقيق أهدافها المشروعة، إنما كانت تقع على عاتق من يتحمل مسؤولية إدارة شؤون البلاد بعد الثورة، لكنه - على العكس مما انتظره المصريون منه - سمح لجماعات الانتهازية السياسية بالقفز على الثورة واختطافها وتسيد المشهد السياسى تحت سمع وبصر صاحب السلطة التأسيسية بعد الثورة !

الحدث الأول، وهو اندلاع الثورة، لم يكن بأى حال من الأحوال مصدر ضعف للدولة المصرية فى مواجهة إثيوبيا أو غيرها من دول العالم، بل على العكس فإن هذا الحدث قد جعل مصر ملء السمع والبصر بعد أن أثبت شعبها أنه شعبٌ حىٌّ فتىٌّ، يأبى الضيم، ولا يتنازل عن حقوقه، وهى صورة ذهنية لا يمكن أن تدفع إثيوبيا أو غيرها للعب على وتر ضعف الدولة !

إذا كانت مصر قد ظهرت ضعيفة فى مواجهة إثيوبيا، أو فى مواجهة غيرها من الدول، فلسببين لا علاقة لهما بالمطالب المشروعة للثورة : أولهما السياسات الكارثية التى اتبعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقت توليه مسؤولية إدارة شؤون البلاد، إذ أهدرت هذه السياسات الكارثية كل عناصر القوة التى ظهرت بها مصر فى أعقاب الثورة ! ... ولنا أن نتساءل هنا عن من تراه كان المسؤول وقتها عن تقديم المعلومات ومقترحات الخطط للمجلس (على ما صرح به "الخبراء الاستراتيجيون" غير مرة)، ومن الذى كان ضابط الاتصال وقتها بين المجلس وبين شباب الثورة وجماعات الانتهازية السياسية فى البلاد !

أما السبب الثانى لإضعاف الدولة المصرية فى مواجهة التحديات الخارجية فى حوض نهر النيل وغيره فهو السياسات والقرارات الأكثر كارثية التى اتخذها الرئيس السيسى منذ توليه مسؤولية الحكم لمعالجة أزمة سد النهضة، حتى وإن حاول اليوم - عن طريق ما نسميه فى علم الإحصاء بالارتباط الزائف - أن يرحل مسؤولية هذه السياسات الكارثية على المصريين وعلى ثورتهم فى مناورة زئبقية مفضوحة يراهن صاحبها على قلة وعى المصريين بحقائق واقعهم السياسى، وعلى قلة خبرتهم بأساليب التملص الزئبقى من مسؤولية هذه السياسات الكارثية التى تزيد دولتهم كل يوم ضعفاً فوق ضعف، رغم مظاهر البهرجة التى يضخها الزئبق السائل يومياً عبر وسائل البروباجندا التى تُسَوِّق نفسها باعتبارها وسائل إعلامية تنشر الحقائق وترفع مستويات الوعى !!


No comments:

Post a Comment